الديك الأبيض والنخلة الآدمية والسورة المباركة
كثير من الأحاديث النبوية وُضعت على لسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، واختلطت بـ”كلام العلماء” أو بـ”الحكم المشهورة” و”لقد قيَّض الله سبحانه” كما يكتب الناشر “بعض العلماء العاملين ووفقهم ليذبوا عن حياض الشريعة المطهرة تدليس المدلسين ووضع الوضّاعين وكذب الكذّابين وجرّحوا من أراد أن يُنزل بساحتها سوءاً وبينوا الصحيح منها والعليل، والموضوع منها والمكذوب”.
ثم ينتقل ـ أي الناشر ـ إلى الدعاية لكتابه، فمن “أفضل ما ألف في هذا الموضوع كتابنا هذا الذي ضمَّ بين طرفيه زهاء ثلاثة آلاف ومائتي حديث، بيَّن فيها ميزان الجرح والتعديل”، ولقد اعتمد في هذا “على أهم الكتب التي كتبت في هذا الموضوع”، والتي سبقته كأعمال السخاوي والسيوطي وابن حجر والجوزي.
أما المؤلف فهو إسماعيل بن محمد العجلوني، وهو من المؤلفين الذين ظهروا بدمشق في القرن الحادي عشر الهجري، وعملوا، إضافة إلى التأليف، بالتدريس والإفتاء.
والكتاب الذي يحمل عنوان: “كشف الخفاء ومزيل الألباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس”، صدر، وبإشراف من أحمد القلاش، عن مكتبة التراث الإسلامي بحلب بالتعاون مع دار التراث بالقاهرة، وغير معروفة سنة النشر، إلا أنها بالتأكيد في أواخر النصف الأول من القرن الميلادي المنصرم.
ولعَّل أهم ما يتميز به هذا الكتاب، والذي يقع في أكثر من ألف صفحة، هو الكشف عن جانب من الوعي الشعبي السائد في تلك الفترة لدى قطاع عريض من المجتمع العربي/ المسلم في الشام أو غيرها من المجتمعات المجاورة.
فـ”النصوص” الدينية وغير الدينية هنا قد خرجت من “تنصيصها” (المؤلف في الحقيقة يحاول إعادتها لهذا التنصيص) وغمست بها مياه اللاوعي الاجتماعي. ولقد عمل المؤلف خيراً حين استطرد في بعض المواد، وسجّل لنا صوراً عكستها تلك المياه.
لهذا، فإن أكثر ما لفتني في هذا الكتاب هي تلك الأحاديث أو العبارات الشائعة التي تتعلق بالحيوان والطيور كقولهم: “اتخذوا الديك الأبيض، فإن داراً فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها” أو “اتخذوا الغنم، فإنها بركة”، أو “إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً (= لاحظ سبعاً) إحداهن بالتراب”، أو “استوصوا بالمعزْى خيراً خيراً، فإنها مال دقيق، وهو في الجنة، وأحب المال إلى الله الضأن، وعليكم بالبياض، فإن الله خلق الجنة بيضاء، فليلبسه خياركم، وكفنوا فيه موتاكم، وإن دم الشاة البيضاء أعظم عند الله من السوداء”، أو “أسجد للقرد في زمانه”، أو “أعوان الظَلمة كلاب الناد”، أو “أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم”، أو “أكرموا الهر، فإنه من الطوافين عليكم” أو “إن الله يكره الحَبْر السمين”.
وكثيراً ما يعقب المؤلف على هذا الحديث أو ذاك، ذاكراً جرحه وتعديله، ومستطرداً بعد ذلك في ذكر بعض القصورات أو المعتقدات التي تدور في فلك التمثيلات التي اعتاد عليها الناس حول الحيوان والطير. وغير الحيوانات والطيور، ثم أحاديث كثيرة تدور حول الأشجار والنباتات. فمن طوبى التي يقال عنها إنها “شجرة في الجنة غرسها الله بيده، ونفخ فيها من روحه، تنبت بالحلى والحلل، وأن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة” إلى العدس، فلقد “قُدس العدس على لسان سبعين نبياً، آخرهم عيسى بن مريم”، كما “أن في الهند أوراقاً مثل آذان الخيل، فكلوا عنها، فإن فيها منفعة”.
وحتى على صعيد البقوليات والنشويات، فإن ثمة ما يتصدر قائمة القدسية، إذ يقال: “أكرموا الخبز” أو “خير طعامكم الخبز”، كذلك يُقال ـ رواية عن حديث قدسي ـ “الأرز (الرز) مني وأنا من الأرز”، أو “لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً”، وللعنب تقدير خاص في هذه المنظومة، إذ وعن حديث قدسي أيضاً، يُقال: “أيكفر بي وأنا خالق العنب”، كما يُقال: “كلوا الزبيب، فإنه ينشف المرة، ويذهب البلغم ويشد العصب ويُحسِّن الخلق، وهو يطيب النفس، ويذهب الهم والغباوة”، كما ويُنال الرَّمان جانباً من هذا التقدير إذ “ما من رمانة من دمائكم هذا إلا وهي تُلَّقح بحبة من رمان الجنة”.
لكن هناك أشجار، بالقطع، أكثر مباركة، فيقال عن الزيتون: “... انتدموا بالزيت، وادهنوا به، فإنه يخرجُ من شجرة مباركة”. ولعل للنخلة في هذا السياق موقعاً مميزاً وفريداً. فالحديث المنتشر والسائد حتى اليوم والذي يقول: “اكرموا عمتكم النخلة” يبدو ناقصاً إذا لم يكْمَل كالتالي: “... فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة وَلَدتْ تحتها مريم ابنة عمران، فأطعموا نساءكم الوُلَّد الرُطب، فإن لم يكن رُطب فتمر”، وفي خبرٍ آخر أن “من كان طعامهما في نفاسها تمراً جاء ولدها حليماً”، وفي قول بمستطاعنا أن نردده هنا في الخليج واليوم: ...”من أسمك (أي تناول السمك) فليُتمر”.
وتم حديث يقول: “نعم المال النخل، الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، وأنها خلقت من طينة آدم”، مما يوحي ببشرية النخل، وهذه “البشرية” قد تقودنا إلى تساؤلات أعمق حول هذه “العمة” بذكورية فحولها، وأنوثية “تنبيتها”، وما بين ذلك من احترام مشاعرها، وتقدير عجائزها، والاحتفاء ببناتها ونزواتهن.
لكن الشجرة التي تفاجئك بمرتبتها القدسية الكبيرة في هذه الأحاديث هي السدرة وثمرها: النبق، فثم حديث يقول: “... كلوا النبق، فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذا”. وأنا وأمثالي من مجايليْ قضينا ردحاً من طفولتنا ونحن نضرب السدر بالأحجار والعصي تطاردنا اليعاسيب الحمراء الضخمة والمزارعين وجريمة التأخر عن البيت، وكل ذلك من أجل النبق، وكنا والحق يقال نتكبد كل تلك المشاق، لأن النبق كان من الفواكه القليلة التي توفرها لطفولتنا تلك البيئة الشاقة التي عشنا فيها، أما أن يكون النبق من فواكه الجنة، فذلك حقيقة لم يخطر لنا على بال.
كما ومنذ تلك الطفولة، تربيت أنا شخصياً، وثمة سدرة على طرف جانبي من البيت، ولعلي من هناك أحسست بأن ثم تقدير غامض لهذا النوع من الأشجار، ولكني لم أكتشف ماهية هذا التقدير، بالتحديد، ولربما إلى الآن.
لكن في الأحاديث التي يوردها مؤلف كتاب “كشف الغطا” فقد رُوي أن الرسول قد قال: “من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار” وفي رواية عن “عائشة بلفظٍ أن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على رؤوسهم صباً، وعن عمرو بن أوس الثقفي بلفظ: من قطع السدر إلا من الزرع صبَّ الله عليه العذاب صبّاً”.
وفي المادة التي يستطرد فيها المؤلف عن هذا الحديث، يختصر هذا التحريم بما للسدر من ظلال تأوي التائه، فلقد سمع أحد الرواة “من يقول بمكة: لعن رسول الله من قطع السدر”، وقال بعض الفقهاء بأن الرسول “لعنَ من قطع سدرة من فلاة يستظل بها ابن السبيل (...)” أو “عمَّن هجم على قطع سدر لقوم أو ليتيم أو لمن حرّم الله أن يقطع عليه فتحامل عليه فقطعه”. وعلى الأرجح، فإن هذا التابو يتعلق بجذعها وكينونتها كشجرة، وليس بأغصانها أو أوراقها أو ثمرها: النبق الذي استيقظنا على أهلنا وهم يقول لنا: “كلوا الدود قبل أن يأكلكم”، وحدثت في دماغنا عواصف رملية قبل أن نعرف حقيقة أننا لا نأكل الدود إلا عندما نأكل ذلك النبق، لكن هذا بالطبع لن يصرف انتباهنا عن ملاحظة أن المثل، وبالتالي النبق، من الملفتين والمذكرين بالموت.
هذه النقطة بالذات تجعلنا ننحو إلى القول بأن التابو الموضوع حول قطع السدر لا يتعلق بوظيفته النفعية فحسب، وإنما ثم ما هو شعائري تجاه هذه الشجرة، المقدسة (... فشجرة المنتهى في القيامة، حتى لا ننسى، هي سدرة)، وترتبط بالموت بعلاقات أشد من ذلك المثل.
إذ يُغسل الموتى عند المسلمين بتركيبة من العطور والزهورات والحناء (... وهي من الأشجار ذات الاعتبار القدسي أيضاً)، وتُسمى هذه التركيبة باللهجة المحلية بالحنوط، وترد في الكتاب الذي نقرأه هنا: حنّاط (لاحظ قرب المفردتين من التحنيط). وثم رواية محلية تقول بأن هذا الحنّاط أو الحنوط يوضع في جفنات (أوان) سبع، تضم الورد من زعفران وغيره، والكافور، ومن بين هذه الجفنات جفنة لورق السدر يغسلون به الجثمان، حيث يأتون بالورق يابساً ويدقونه وينخلونه ومن ثم يغسلون به الميت بدءاً من الرأس.