أحمد شعبان (القاهرة)

الجامع الكبير بقرطبة يعد أشهر مسجد بالأندلس ومن أكبر المساجد في أوروبا قبل أن يتحوَّل فيما بعد إلى كاتدرائية مع احتفاظه باسمه حالياً، ولا تزال جدرانه يعلوها نقوش قرآنية، وهو من أشهر المواقع التاريخية في العالم، وتقع مدينة قرطبة على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، فتحها القائد الإسلامي طارق بن زياد سنة «93 هـ - 711 م».
وأسسها «صقر قريش» عبدالرحمن الداخل العام 138هـ - 756م. وقال ابن بسام الشنتريني: كانت قرطبة منتهى الغاية، وينبوعاً متفجر العلوم وفيه الإسلام، وصخرة الإمام ودار صوب العلم، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر.
والمسجد بناه عبدالرحمن الداخل سنة 170هـ - 786م، وتمت توسعته لاحقاً، وكان يتسع لأربعين ألف مصلٍ، واحتوى على مدرسة ومكتبة ضخمة تضم نحو 400 ألف مخطوطة مجلدة بالجلد القرطبي المزخرف، وجاء في وصف الحميري: وبقرطبة المسجد المشهور أمره والشائع ذكره، من أجل مصانع الدنيا، كبر مساحته واحتكام صنعه وجمال هيئته وإتقان بنيته تَهمهَم به الخلفاء.
وكانت الحلقات الدراسية تقام بالمسجد الجامع في زواياه وأعمدته، فيجلس الأستاذ وحوله الطلبة من الرجال والنساء يناقشون الموضوعات العلمية والأدبية التي تكون مُعدة ومنظمة ومهيأة للنقاش وقد أتيحت للطلبة فرصة الاستماع إلى الأستاذ في كل ما يتطرق إليه.
وأصبحت جامعة قرطبة.. المسجد الكبير من معاهد العلم البارزة في العالم، حيث تدرس فيها كافة العلوم والآداب والفنون، وكانت تنازع بغداد والقاهرة لكونها مركزاً علمياً للدراسات العليا.
حرص خلفاء الأندلس على احتضان العلماء وتشجيع العلم والمعرفة، فقد كانوا مولعين بالعلم وفيهم الشاعر والأديب والبليغ، وكان طلاب العلم يفدون من جميع أنحاء العالم الإسلامي، والمسيحي أيضاً إلى قرطبة مدينة العلم، ومن بين هؤلاء البابا سلفستر الثاني عشر الذي ذهب لتلقي العلم في قرطبة عندما كان راهباً، ومن العلماء الذين قاموا بتربية الناشئة أبو بكر بن معاوية، وأبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي وابن القوطية عالم النحو المعروف.
وكان الطلاب في جامعة قرطبة يدرسون القرآن الكريم وتفسيره والحديث النبوي والفقه وأصوله وعلم التوحيد وقواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة والتاريخ والشعر والنثر والطب والفلسفة والموسيقى، وكان الطالب الذي يأنس فيه أستاذه الكفاية ويلحظ فيه القدرة على التدريس يعطيه إجازة مكتوبة وقد تطورت فيما بعد إلى الإجازات للأكاديمية الجامعية.
وكان الخليفة الحكم المستنصر بالله يدعم النشاط العلمي ويسعى إلى تقريب العلماء وإكرامهم وتهيئة المناخ الملائم للانصراف إلى العلم، ويبعث بالتجار إلى الأقطار ومعهم الأموال لشراء الكتب، وشهدت قرطبة في عهده توافد العلماء إليها من كل الدنيا وصارت هناك بعثات للعلوم وقامت حركة ترجمة واسعة، ويقول ابن سعيد الغرناطي: ومن مستحسنات أفعاله وطيبات أعماله اتخاذه المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن داخل المسجد الجامع، وأجرى عليهم المرتبات وعهد إليهم الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله تعالى.
ومن علماء قرطبة: الزهراوي الأندلسي «325 - 404هـ - 936 - 1013م» أشهر جراح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، تعلم الطب بجامعتها وبرع فيه، والعالم الموسوعي عباس ابن فرناس الذي اشتهر بمحاولته الطيران، إضافة إلى كونه شاعراً وعالماً في الرياضيات والفلك والكيمياء.