الحبيب السالمي: انتهى زمن الرسالة
الحبيب السالمي روائي تونسي قدير، ينتمي لجيل الثمانينيات في تونس، يتابع بدأب ومثابرة مسيرته الروائية المتميزة التي اختطها منذ روايته الأولى “جبل العنز” بيروت 1988، مرورا بـ”متاهات الرمل” 1994، “عشاق بيّه” 2001، و”أسرار عبدالله” 2004، و”روائح ماري كلير” بيروت 2009، وصولا لأحدث رواياته “نساء البساتين” بيروت 2010، التي دخل فيها “عالم أسرة متواضعة في أحد أحياء مدينة تونس وهي تتدبر أمر عيشها اليومي. من هذا العالم الصغير الذي تمتلك فيه المرأة حضورا قويا تنفتح الرواية على عالم أكثر رحابة تتجلى فيه تناقضات الذات التونسية وهشاشتها وشروخها في مجتمع يتأرجح بين تقاليد ثقيلة وحداثة مربكة”، كما جاء في تقديم الرواية على غلافها الخلفي.
وعلى مدار مسيرته الروائية لا يكف السالمي عن طرح أسئلته الإشكالية حول مفاهيم الهوية والوطن وثنائية الشرق والغرب، ولا تكاد تخلو رواية من رواياته من طرح لسؤال الهوية والعلاقة بين الأنا وذاتها من ناحية والأنا والآخر من ناحية أخرى.
تسلط رواية الحبيب السالمي الأخيرة، “نساء البساتين”، الصادرة عن دار الآداب بيروت، والمرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية”، ضمن الروايات الست التي وصلت الى اللائحة القصيرة، الضوءَ على بعض قطاعات المجتمع التونسي، واهتمامات ومعاناة وقضايا هذه القطاعات من منظور تونسي مهاجر إلى فرنسا، يقضي إجازته في تونس العاصمة، يرصد خلالها مظاهر ومشاهد من النفاق الاجتماعي والفساد السياسي والازدواجية في التعامل مع الذات والآخر، كما يفضح ببلاغة سردية هادئة ورصينة تعاظم المد الديني المتطرف، الذي يختزل الدين والتدين في مظاهر شكلية.
الحبيب السالمي من مواليد قرية العلا في تونس عام 1951. أصدر ثماني روايات ومجموعتين قصصيتين وتُرجم عدد من قصصه إلى الإنجليزية والنرويجية والعبرية والفرنسية، كما ترجمت رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. نُشرتْ روايته الأولى “جبل العنز” بالفرنسية عام 1999 ونشرت روايته “عشّاق بيه” بالفرنسية عام 2003. ووصلت روايته “روائح ماري كلير” إلى القائمة القصيرة لجائزة (البوكر العربية) عام 2009 وصدرت بالإنجليزية عن دار آرابيه العام الحالي، وهو مقيم في باريس منذ العام 1985.
كان لـ”الاتحاد الثقافي” هذا الحوار مع الروائي التونسي الكبير، بمناسبة ترشحه للبوكر..
? بالتأكيد ومنذ ظهور عملك الأول وحتى صدور “نساء البساتين” ثمة مسارات وتحولات ومحطات رئيسية كيف يرصد الحبيب السالمي رحلته مع كتابة الرواية.
? بدأت الكتابة مبكرا. كنت منذ الصغر مولعًا بالمطالعة، بالرغم من أنني نشأت في بيت ريفي لا كتب فيه. كان المعلمون في المدرسة يوزعون علينا كتبا لقراءتها وتلخيصها، ومن بين هذه الكتب قصص مصطفى لطفي المنفلوطي الذي أعجبت به كثيرًا. كتبت قصصًا قصيرة وأرسلتها إلى برنامج أدبي كانت تذيعه الإذاعة الوطنية، ومن حسن حظي أن المشرف على هذا البرنامج، وهو الشاعر أحمد اللغماني الذي يعد من أكبر الشعراء التونسيين، كان معجبًا بقصصي، وتحمس لها غاية الحماس، كان يذيع كل قصة أرسلها له في هذا البرنامج الأدبي الذي كان مشهورا آنذاك، وبعض هذه القصص كان يكافأ بجائزة مالية وينشر في مجلة الإذاعة.
وتلت هذه المرحلة الأساسية مرحلة النشر في دوريات “الفكر” و”قصص” و”الحياة الثقافية” التي أسسها محمود المسعدي، وهي أهم المجلات الأدبية التي ظهرت في تونس. هذه المرحلة التي بدأت مع انتقالي من القرية، حيث أمضيت كل طفولتي، إلى مدينة تونس مهمة جدًا في تجربتي الإبداعية. خلالها قرأت العديد من الكتّاب العرب، وخصوصا نجيب محفوظ وطه حسين والطيب صالح ومحمود المسعدي والبشير خريف وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ونشرت مجموعتي القصصية الأولى “مدن الرجل المهاجر” التي فازت بجائزة الدولة للقصة القصيرة.
تلاحقت المحطات فيما بعد كتابة روايتي الأولى “جبل العنز” وصدورها في بيروت عام 1988 وعلى غلافها كلمة لجبرا ابراهيم جبرا أشاد فيها بالرواية وكان انتقالي إلى باريس واكتشافي للرواية العالمية، وخصوصا لفنون لم أكن أعيرها اهتماما عندما كنت في تونس وأعتبرها الآن أساسية جدا بالنسبة للكاتب، مثل الرسم والسينما والموسيقى الكلاسيكية.
وهناك السفر من باريس إلى مدن لم أكن أحلم بأن تطأها قدماي وآثار ذلك على النص وترجمة رواياتي إلى لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية ومرحلة الأسئلة الصعبة والانتظام في الكتابة.
الكتابة والتغيير
? تتباين الآراء حول غايات الكتابة ومراميها.. وبالأخص في قدرتها على فعل “التغيير” وسبر أغوار الحاضر لقراءة واستشراف ما سيكون.. هل يؤمن السالمي بأن الكتابة قادرة على المساهمة في تشكيل الواقع وصنع المستقبل؟
? نعم أؤمن بقدرة الكتابة على التغيير.. لكن هذا التغيير لا يتم بالشكل الميكانيكي كما يتصور البعض، فكل نص حقيقي لا بد أن يترك أثرا ما في نفس قارئه. كيف يحدث هذا؟ لا أدري لأن الأمر يتوقف على أمور كثيرة؛ منها شخصية القارئ نفسه، وثقافته، والفضاء الذي ينتمي إليه، والزمن الذي يقرأ فيه النص.
ثم إن هذا التغيير قد يكون بطيئا جدا، أي أن تجلياته قد تظهر بعد زمن طويل. أما بخصوص رسالة الكاتب فأنا لا أؤمن بأن للكاتب رسالة. لقد ولّى زمن الرسائل. مهمة الكاتب الوحيدة كما أتصورها هي أن يكتب نصوصا جميلة.
? “نساء البساتين” عدها البعض “جريئة” في طرحها ونقدها لظواهر المجتمع التونسي المعاصر وكذلك في لغتها.. فهل ثمة مخاطر أو عواقب يمكن أن تنتج عن التعرض لمثل هذه الظواهر بهذا القدر الكبير من الجرأة خصوصا وقد تناولت التابوهات الثلاثة الشهيرة مجتمعة في الرواية؟
? الكتابة كما أفهمها تحتاج إلى قدر مهم من الجرأة. وهذه الجرأة تتجلى في مقاربة قضايا أساسية في مجتمعاتنا يعتبرها البعض محرمات. إن الدين والسياسة والجنس هي من أبرز الإشكاليات التي نواجهها الآن، بل وربما أهمها على الإطلاق؛ إذ إن التطور الذي ننشده جميعا لمجتمعاتنا لن يحدث في تقديري من دون أن نتناول هذه القضايا. رجل السياسة يقارب هذه المسائل مقاربة أيديولوجية، ورجل الدين يقاربها أخلاقيا ودينيا وهذا أمر طبيعي، لكن المثقف مطالب بأن يكون جريئا. وهذا يتضمن كما تقول مخاطرة ما. لكن كل عمل حقيقي في هذه الحياة محفوف بالمخاطر، والمخاطرة مثل الموت تماما تمنح الحياة دلالتها العميقة. النفري يقول في “موقف البحر”: “في المخاطرة جزء من النجاة”.
«أنا» المؤلف
? هل من دلالة معينة وراء اعتمادك صيغة الحكي بضمير “الأنا” دون الالتجاء إلى صيغ أخرى؟ وهل ثمة تماه بين الراوي والمؤلف بما يمكن معه اعتبار الرواية -بمعنى من المعاني- تتماس مع السيرة الذاتية؟
? استعملت ضمير “الأنا” لأنه يناسب المناخ العام للرواية ومادتها الحكائية وإيقاعها الداخلي، وهو أمر أوليه كثيرًا من الاهتمام. طبعا لا يستطيع الكاتب أن يفلت أثناء عملية الكتابة من ذاته تمامًا؛ لأن هذه العملية تصدر في جزء منها عما يختبئ في لا وعينا. لا بد من أن يتسرب شيء ما من سيرتنا الذاتية إلى الشخصيات التي ابتكرناها، لكن هذا لا يعني أن في “نساء البساتين” تماهيا بين الراوي والمؤلف وأن الرواية تتماس مع السيرة الذاتية.
? قرأ كثير من النقاد “نساء البساتين” كرواية استشرافية طرحت تصورا “تنبؤيا” إن جاز التعبير للثورة التونسية التي استهلت ربيع الثورات العربية في عام 2011. ما تعليقك على هذا الرأي؟
? باستطاعتي أن أقول إنني تنبأت بالثورة التونسية؛ أولى ثورات الربيع العربي، فالكثير من الذين كتبوا عن “نساء البساتين”، كما ذكرتَ، أشاروا إلى هذا. ولكني أفضل عدم استعمال لفظة “التنبؤ”؛ لأننا نحن الكتاب لسنا أنبياء ولا عرافين، و”التنبؤ” ليس على وظيفتنا. ثم إن التنبؤ في حد ذاته لا يعني شيئا بالنسبة للكاتب. قد يصح تنبؤ الكاتب في عمل أدبي ما لكن هذا التنبؤ لن يكون مجديا إذا كان هذا العمل غير مهم أدبيًا. دور الكاتب هو أن يصغي جيدا إلى حركة ما يحدث في مجتمعه وأن يلتقط ما يمور داخله. وهذا ما حاولت أن أفعله في “نساء البساتين”.
المنافسة شديدة
? ما انطباعاتك حول ردود الأفعال التي تلقيتَها حتى الآن بشأن “نساء البساتين”؟
? بخصوص روايتي الأخيرة “نساء البساتين”، كتبت عنها مقالات كثيرة؛ من أهمها مقال صلاح فضل في جريدة “الأهرام”، ومقال محمد برادة في “الحياة” اللندنية. وهناك كتاب آخرون كتبوا بشكل جيد عن الرواية مثل إسكندر حبش، وفاطمة المحسن، وشوقي بزيع، وخليل صويلح، وهناك مقالات أخرى لم أتمكن من الاطلاع عليها إلى حد الآن.
? اختيرت روايتك “نساء البساتين” ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية 2012” هل تجد المنافسة هذا العام محتدمة بين الروايات الست المرشحة؟
? المنافسة شديدة في كل الأعوام.