نوف الموسى (دبي)

مرّتْ سيدة مُسِنِّة بالقرب من اللوحات البيضاء، وسقطت حقيبتها الصغيرة بالقرب من زاوية التوجس، مررت أصابعها على الزجاج العازل للوحة، كمن يمسح الغبار عن صور قديمة. بحثت بخفة النسمة الخريفية، على ما يشبه كرسي، رغبةً منها في الجلوس للحظات قليلة، والنظر في انعكاس الزجاج الشفاف لخيالات وجهها المتداخلة مع بياض اللوحة، إلا أن الضوء العابر من سقف الشمس، في دبي مول، جرد المشهد تماماً، جعله واضحاً.
وأُخفيت كل الظلال، حول السبب الرئيسي لرغبة السيدة في الارتماء في حضن التأمل للوحة الفنان الإماراتي محمد كاظم. واختفت السيدة مثل تعويذة سحر، انقشعت بجلّها عبر الفراغ، شاهدها طفل صغير وهي تتوارى تدريجياً، مثل عاصفة صغيرة، تدور حول نفسها، واقترب من اللوحة بفضول المستكشف، الغريب أن الطفل لم يمرر أصابعه، كما فعلت السيدة العجوز، بل حرك رأسه بميلان الموجه، متتبعاً مساراً يضاهي تمدد جذور الشجرة في الأرض، أو توسع شريان ينمو في جسم إنسان.
متوقفاً عند أوامر أبيه، بأن يترك المشاهدة في تلك اللحظة، سلم الطفل نظرته للضوء هو الآخر ورحل. لاكتشاف كل شيء، فإن الأمر يحتاج لانتظار غروب الشمس، ضماناً للمساواة الضوئية في الفضاء المفتوح الذي عُلقت فيه اللوحات، أسماها الفنان محمد كاظم «خدوش على ورق» وهي مجموعة من 10 أعمال، وأيضاً هناك لوحات أخرى تموضعت بجانب التداخل المتتابع للوحات المعروضة، أطلق عليها اسم «صوت الزوايا»، والسؤال ما علاقة «الخدش» نفسه، وتلاشي السيدة العجوز وارتحال الطفل الصغير، أي نعم أن الخدش ما هو إلا جرحٌ لم يصل إلى مستوى إسالة الدم، ولكنه تقشير مستعد للانفكاك العميق مع أية حادثة قدرية، هل يمكن أن يكون الخدش ما هو إلا ذاكرة، وقوة المشاعر هي الأداة الحادة القاصمة، حيث تنقل الخدش إلى مستوى الجرح، وبذلك يتولد التجسيد البصري لكل ما هو «مخدوش»، إلى حالة فنية.
يصعب أحياناً تبسيط تلك المعادلة القائمة على الوعي بـالشيء والفكرة منه، فمثلاً نحتاج (فكرة) الخدش، ثم المادة المتمثلة في تصورها على (لوحة)، والملفت ربما هو أثر تفاعل الاثنين معاً، وإلى أي مدى يسعى الإنسان في صناعة «الخدش» بوصفه استدعاء رئيسياً لإتمام عملية تشكيل نفسه (الفنان) من خلال اللوحة، وببساطة شديدة: متى فعلياً تُخدش اللوحة؟! خاصةً أن نتيجة فعل الخدش، تتضح من خلال تشكل التكتلات، المتمثلة بطبقة متراكمة على أثر الحفر الطفيف للسطح، ولا يمكن بدونها إدراك عمق الخدش أو فعلية حدوثه، المثير أن تلك التكتلات الجانبية تقدم هي الأخرى مستوى هشاشة الخدش، بالمقابل ترسم شكلاً لا نهائياً من التصورات، التي قد تثير ذاكرتك البصرية، توترك في بعض الأحيان، وتهديك بصيرة وهدوءا في مواضع أخرى من حياتك، والأمر يعتمد على المتلقي نفسه ومستوى خدشه الداخلي.