رجائي صندوقة ينتقل من حبال الدمى إلى حبل مدفع رمضان
رغم انتشار الأجهزة الإلكترونية والمنبهات بأشكالها المختلفة وصوت الأذان الذي يصدح من فوق المآذن وأجهزة المذياع والتلفاز المنتشرة في كل بيت ومتجر ومؤسسة، إلاّ أن المسلمين في مدينة القدس المحتلة اعتادوا منذ العهد العثماني، على صوت مدفع رمضان احتفالاً بثبوت رؤية هلال شهر رمضان أولاً، ثم للإعلان عن بدء الصيام والانتهاء منه، حيث ينتظر الجميع سماع صوت المدفع للدخول في الصيام (الإمساك) أو الخروج منه (الإفطار)، فضلاً عن ضربه في العديد من المناسبات الدينية الإسلامية، خاصة للإعلان والاحتفال بحلول عيدي الفطر والأضحى، حتى أضحى هذا التقليد إرثاً إسلاميا متوارثاً رغم تعاقب العديد من الأنظمة على المدينة المقدسة.
ويقع مدفع المدينة في مقبرة باب الساهرة بشارع صلاح الدين وسط القدس، وعلى بعد عدة أمتار من سور القدس، وقد صنع عام 1918 من قبل شركة أميركية للفولاذ في ولاية بنسلفانيا، ويشرف على ضربه المقدسي رجائي صندوقة، الذي ورث هذه المهنة المحببة إلى قلبه والمتعبة أيضا عن والده وأجداده الذين تعاملوا مع المدفع منذ عشرات السنين. ويعمل صندوقة في تحريك الدمى وشارك في برنامج «افتح ياسمسم» إلا أنه يداوم على إطلاق مدفع رمضان منذ ثلاثين عاما.
حفاظ على الهوية
يعود استخدام مدفع القدس خلال شهر الصيام إلى الفترة العثمانية، بعد أن تم تثبيته داخل مقبرة «الساهرة» في القدس القديمة بجوار المسجد الأقصى، ومن حينها يتولى أبناء عائلة صندوقة، التي تنتمي لحي «وادي الجوز» المقدسي، مهمة إطلاق المدفع. وفي عام 1945 نصب البريطانيون مدفعًا جديدًا مكان المدفع التركي الذي نقل إلى المتحف الإسلامي بالقدس. وقد حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي القضاء على هذا الإرث التاريخي الذي تتميز به مدينة القدس، في إطار محاولاتها طمس هوية المدينة وسكانها وتغليب الطابع اليهودي عليه وضمن هذه المحاولات كانت بلدية القدس التابعة للدولة العبرية تمنح صندوقة دفعتين يوميًّا من البارود قبيل موعد إطلاق المدفع بعشر دقائق سواء في الإفطار أو الإمساك، ويتعين عليه إخبارهم قبيل إطلاق المدفع وبعده «حتى لا تظن السلطات الإسرائيلية أن انفجارًا حدث في المدينة». وفي كل مرة يطلق فيها المدفع يكون مع صندوقة مرافق إسرائيلي من البلدية، ولا يتركه حتى ينتهي من الإطلاق بدعوى الخوف من استخدام البارود في أعمال تخريبية، وفي العامين الأخيرين استبدلت إسرائيل البارود بالقنابل الصوتية، ولكنها لم تستبدل الحارس الإسرائيلي الذي يقف خارج سور المقبرة وينتظر صندوقة حتى يفرغ من إطلاق المدفع ويطلب منه التوقيع على دفتر خاص حتى تتأكد سلطات الاحتلال بأن القنابل الصوتية تلك قد أطلقت ولم يتم تهريبها لأمر ما.
ماء وتمر
يتحدث صندوقة، الفنان المسرحي الذي شارك في أكثر من 50 عملا، عن طقوسه مع المدفع فيقول: «دأبت على إطلاقه كل شهر رمضان منذ أكثر من ثلاثين عاما وقبلها كان والدي وقبلها جدي». وتابع أن المدفع يطلق بحسب توقيت المسجد الأقصى. وبعد أن يطلق صندوقة مدفع الإفطار يلتف كل المسلمين في القدس والأراضي الفلسطينية حول مائدة الإفطار، بينما يتناول هو وابنه نبيل (24 سنة) حبة تمر وكأس ماء بجانب المدفع القديم عند المقبرة. ويقول :«أغار من الناس في بعض الأحيان لأنهم في بيوتهم وبين أفراد عائلتهم فيما أحتاج أنا إلى عشرين دقيقة لأصل إلى بيتي وأتناول طعام الإفطار بين أفراد عائلتي الذين يكونون في انتظاري، ثم أغادر بيتي لأعلن الإمساك عن الطعام في ساعة السحور ولكني بالرغم من ذلك أشعر بالمتعة والبهجة فهذا العمل مهم بالنسبة لي لأن كل الناس بانتظار سماع صوت المدفع حتى أن هناك بعض المؤذنين يرفعون الأذان فقط بعد سماع صوت المدفع». ويطلق صندوقه المدفع طلقة واحدة لإعلان الإفطار وطلقة واحدة للإمساك وثلاث طلقات لاستقبال رمضان وثلاث طلقات لاستقبال العيد وسبع طلقات يوم العيد بعد صلاة الظهر ابتهاجا به. ويشير صندوقة (47 سنة) إلى أنه تم اختيار مقبرة صلاح الدين لأنها أعلى موقع مطل على البلدة القديمة. ويوضح أن «جده كان يعرف بمواعيد الأذان، عندما يقوم شخص من باحة المسجد الأقصى بالتلويح بإشارة متعارف عليها إلى شخص يقف على سور القدس الذي يقوم بدوره بإعطائه إشارة لإطلاق المدفع». ويتابع:»لمعرفة بدء شهر رمضان أكون مع المشايخ والمسؤولين في وزارة الأوقاف نراقب رؤية هلال رمضان في ساحة المسجد الأقصى، وقد ننتظر طول الليل وما إن تثبت رؤيته، حتى أذهب مباشرة الى المدفع وأطلقه، ونفس الشىء أتبعه مع العيد»، وعبر صندوقه عن افتخاره بقدرة عائلته على المحافظة على هذا التقليد. ويشارك صندوقة بأسبوع الطفل الفلسطيني في عروض الحكواتي وأحيانا يغادر قاعة التدريب في المسرح مسرعاً بسيارته حتى يلحق بالمدفع الرابض والذي ينتظره بصمت لا يخلو من خشوع.
المصدر: فلسطين