الإبداع الإماراتي في القرن الثامن عشر
وجد بعض الباحثين الإماراتيين أن الأرشيف الاستعماري لا يهتم بالثقافة المحلية، ولذلك سارعوا إلى اكتشاف طريقة جديدة في ردم هذه الفجوة بواسطة استعمال الخطابات الشفهية والمصادر المهملة في الذاكرة الشعبية والمخطوطات المنسية·
وقد أظهر هذا النوع الجديد من المقاربة التاريخية الثقافية نصوصا مهملة تنتمي إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن الثامن عشر، وتفسر لنا بشكل أو بآخر طبيعة الفهم الإبداعي وتطوره· وإذا ما توقفنا عند الشاعر محمد بن صالح المنتفقي، فإنه كما يعتقد الشاعر أحمد راشد ثاني، بصري من عائلة آل المنتفق، ارتحل إلى الصِّير·
ويبدو لي واضحا أن المنتفقي لم يكن متصلا بنماذج إبداعية تراثية رفيعة تنتمي إلى العصور الذهبية العربية، أقصد العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وإنما كان يمتح من لغة القرآن والحديث ونماذج صوفية لا تتصل لا من بعيد ولا من قريب بنماذج التصوف الكبرى المؤثرة مثل شعر الشريف الرضي وابن عربي والحلاج؛ لأن صوفيته لم تكن إلا ممارسة دينية لم تبلغ التأمل الفلسفي بعد· لكن أثر المنتفقي كان مهماً على الإنسان الذي كان يقيم في منطقة الإمارات· ويكفي أن نعرف بأنه نجح في أن ينقل جملة من المفردات القرآنية والدينية الفصيحة إلى الشعر، وكان مع ذلك يستشعر خطورة ما يقوم به في سياق لم يعتد بعد على مثل هذه الاصطلاحات التراثية، ويقول:
وقلبي صار منفوشا كعهن
وأن العهن في التفسير صوف
إن هذا البيت ليقدم لنا بصورة مثالية العلاقة التي تربط المنتفقي بالمتلقي، وكلمة مثل العهن هي كلمة قرآنية شهيرة، ومع ذلك فإن المنتفقي يضطر في شعره إلى تفسير هذه الكلمة، حتى يربط المتلقي بفهم البيت على نحو صحيح· وهل كان بوسع المنتفقي أن يطور في شعريته وهو يخاطب إنسانا لم تكن تتوفّر لديه نماذج من النصوص الشعرية العربية الرفيعة، وإذا ما فعل ذلك كيف يمكن أن يفهم خاصة وأن قصائد المنتفقي ترتبط بالإنشاد الذي يحيل إلى الشفاهية· ويبدو لي أن هذا الأمر أرغم المنتفقي بصورة قوية على أن يجعل شعره شعرا تعليميا دينيا مركزا على المحسوسات دون استلهام التجربة الصوفية الفلسفية، ويمكن أن نكتشف ذلك عن طريق الأبيات الآتية، حينما يقول:
إذا قلت لم أقصد جدالا ولا مرا
ولم أطلب الدنيا مريدا تكاثرا
ولكنني أوتيت قلبا يميل للـ
نصائح وعظا لي وللغير زاجرا
فأجعلها في سلك نظم أقيمه
على منبر التذكير بالخير آمرا
ويبدو أن المنتفقي يلح في شعره على أنه ليس شعرا يقوم على الجدال والمراء أي الشك، ولا بد أن لا تفوتنا كلمة مثل ''إذا قلت''، لأنها تدلل بشدة على أن الشاعر تتحكّم فيه الصيغ الشفاهية المرتبطة بالقول لا الكتابة، والأبيات توضّح لنا وظيفة الشعر في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، تلك التي ترتبط بالنصائح والوعظ الديني·