في مشهد أخير ومؤثر، غادر الفنان الإماراتي الكبير محمد الجناحي الكادر الفني الذي طالما شغله وانشغل به، انسحب الجناحي أخيرا من ضجيج الكواليس والاستوديوهات وحركة الكاميرا وميكروفونات الإذاعة وقلق الكتابة الدرامية ومجابهة الجمهور ومكملات الماكياج والأزياء، والأداء المخلص للحظة المتوهجة على الخشبة، رحل الجناحي قبل أيام قليلة وذهب لعزلة متحققة في الغياب، ولكن الغياب في إحدى صوره التراجيدية هو قياس لحضور طاغ ومستعاد، حضور يتوسع في الذاكرة ويجول في بصيرة ممتدة إلى المستقبل، فرصيد الفنان يظل رصيدا متوهجا ما دام هذا الفنان بالذات هو صورة أخرى لدراما الحياة، ومادام خارجا من أرشيف الموت والنسيان، ومكتملا بصورته الزاهية خلف ستارة الروح والذكرى المبجلة· ارتبط اسم محمد الجناحي ومنذ الستينات بالدراما الإذاعية كتابة وإخراجا وتمثيلا، ثم اتجه للدراما التلفزيونية وصادف الشهرة مبكرا مع المسلسل التلفزيوني الشهير ''شحفان'' مع جيل كان يحفر في صخرة الدراما المحلية دون يأس، جيل وأسماء لا تفارق المشهد الصافي والعفوي للمسلسل الإماراتي في ظهوراته الأولى، فعلى ضفاف تلك السنوات البعيدة تحركت الدراما المحلية مثل غيمة حالمة على صحراء، ونبتت أسماء نقية ومتخلصة من الزيف والتصنع والادعاء، أسماء مثل الفنان سلطان الشاعر، وأحمد منقوش وسعيد النعيمي، والمرحوم محمد راشد، وسعيد بن عفصان، وعبدالله المناعي، ورزيقة الطارش، ومحمد ياسين، وإبراهيم البردان، وجمعة الحلاوي، وغيرهم كثير، أسماء ووجوه وذاكرات أسست لقيمة مضاعفة في الفن بحيث لا يمكن للجيل الحالي أن يتخفف من ثقل المعاناة التي انغرست في أكتاف الرعيل الأول من فناني الإمارات· كانت مسرحية (مهاجر بريسبان) للمخرج الدكتور حبيب غلوم هي آخر الأعمال المسرحية لمحمد الجناحي ، وسبقتها مشاركته في مسرحية ( القضية) لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة· أما أعماله التلفزيونية فتوزعت على خارطة واسعة شملت الإمارات ودول الخليج ومصر وسوريا والأردن، نذكر منها ''أيام الصبر''، و''شمس القوايل''، و''حاير طاير''، و''أحلام السنين''، و''جواهر''· ''الاتحاد الثقافي'' التقى بمجموعة من الفنانين الذين عاصروا الجناحي وعاشوا معه دراما الواقع ودراما الفن في ذات الوقت، فكان حصاد الحوار مليئا بالوجع كما بالمحبة، واستعادة اللحظات المنسية، وتلك الفائضة على الوقت· سلمان كاصد إبراهيم الملا يقول الدكتور حبيب غلوم العطار مدير الأنشطة الثقافية والمجتمعية أمين سر جمعية المسرحيين مستذكرا تاريخ محمد الجناحي: غاب ولكنه سيظل حاضراً في عيوننا وقلوبنا وتطلعاتنا لغد أفضل وهو من أسس لهذه اللحظة بجهده وعرقه وسهره، لم يعرف الراحة في حياته فظل يحترق بغية تحقيق أمل الوصول إلى هدف الارتقاء بهذا الفن الرفيع في تربة ثقافتنا والذي ظل يراود الكثيرين في عصره عصر التأسيس والتطوير والعصرنة واللحاق بركب الثقافة العالمية، لقد كان لفناننا وأستاذنا رحمه الله تعالى الفضل الكبير في تطوير الحركة الفنية في الامارات فهو الشاب المتعلم الآتي من البحرين الشقيقة وهو مازال يافعاً ومتألقاً بشخصه المتواضع وروحه المرحة كما هو معروف عن طيبة أهل البحرين فحلق بزملائه في ذاك الوقت في رحاب الفن الجميل· يمتاز بالعلم والمعرفة فهو القارئ والكاتب جلس مع سلطان الشاعر ذاك يسرد الحكايات والمواقف الاجتماعية وهو يخط بأنامله الرشيقة بدراية العارف في كتابة السيناريو فأبدعا معاً رائعة الدراما الاماراتية (اشحفان)· هذا هو الجناحي الذي رفع راية الفن هو وصحبه في ثقافتنا ولكنه تميز بأنه أضاف صبغة العلم والمنهجية في كتاباته وإخراجه سافر كثيراً وقضى وقتاً طويلاً في ربوع القاهرة وتعرف على الفن والفنانين المصريين قبل الجميع وكان سفيراً للفن الاماراتي في مصر وهو أول مع عمل ممثلاً في الدراما الخليجية والعربية وأغزر الفنانين الاماراتيين إنتاجاً، إنه الفنان الذي يتقن الأداء التمثيلي بالعامية والفصحى على حد سواء فعمل في الأعمال التاريخية والبدوية والمعاصرة متميزاً أينما جاء ومبدعاً حيثما خطت قدمه في المسرح والتلفزيون والإذاعة وأخيراً السينما· هو الملك الذي تتلمذ على يديه جميع الفنانين الاماراتيين وخصوصاً في مجال الاذاعة حيث قدم العديد من الأعمال الاذاعية ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، لقد أبدع الجناحي منذ منتصف السبعينات في حين أننا الى اليوم وبعد أكثر من أربعين سنة لازلنا نشكو من قلة المؤلفين والمخرجين الاماراتيين أي أنه كان سابقاً لعصره· رصيده كنز ويقول المخرج الاماراتي فيصل الدرمكي: فقدت الساحة الفنية في دولة الامارات الفنان محمد الجناحي الذي يعد من أهم رموز ورجالات الفن بالدولة، وكان لتلقي خبر وفاة الفنان محمد الجناحي أثر كبير وعميق في نفوس جميع الفنانين بالدولة، وكانت الصدمة كبيرة في نفسي أنا شخصيا، كيف لا وهو الفنان الذي شجعني على الاستمرار والمواصلة في آخر حديث جمعني معه عندما شاهد إحدى مسرحياتي التي شاركت بها في مهرجان أيام الشارقة المسرحية· يعتبر الجناحي من الرعيل الأول الذي كرس حياته للفن، فكان المسرح هو شغله الشاغل للنهوض بالحركة المسرحية بالدولة، وكانت تطلعاته كبيرة فكانت أعماله العديدة خير دليل على ذلك، أما نوعية الأعمال التي قدمها الجناحي فهي دليل واضح على الهم الذي كان يحمله على عاتقه، وكان للجناحي دور كبير وبارز في اتضاح ملامح الدراما في الامارات، فقد قدم أعمالا عديدة كانت كفيلة بأن تضعه على هرم الدراما الاماراتية، وكان الجناحي أبا لجميع الفنانين بالدولة، بل كان أخا وصديقا وزميلا للجميع فهو في نهاية المطاف مثال مشرف يحتذى به في العمل الجاد والاخلاص والتفاني في العمل، ولم يبخل الجناحي بوقته وجهده من أجل الرقي والنهوض بالفن الاماراتي، فكان دائما يقدم المساعدة والعون والمشورة للجميع· سوف يبقى الجناحي في قلوب وعقول جميع الفنانين بالدولة، ويعد رصيد الجناحي الفني كنزا كبيرا للفن في الدولة وعلى الفنانين المحافظة على هذا الكنز، وعزاؤنا الوحيد ان تقوم جمعية المسرحيين بالدولة بتكريم هذا الفنان تكريما يليق بمسيرته الفنية· حياة حافلة ويضيف الدكتور حبيب غلوم: ربما لا يعرف أحد أنه رحمه الله تعالى عمل في بداية حياته موظفاً في التشريفات في مكتب المغفور له الشيخ زايد الخير رحمه الله تعالى ولكنه لعشقه الكبير لفنه وتطلعاته لمستقبل الفن في الدولة والذي كان له الأثر الكبير في تطوره وتألقه ترك وظيفته ليلتحق بالعمل في إذاعة أبوظبي واليوم يغيب عنا وهو متحسر على وضعه الاجتماعي ووضع الفن عموماً في الدولة، وإن من كان يعمل معه في ذاك الوقت في التشريفات نالوا من خير الوطن الكثير سواء المواطنين وحتى الوافدين فهو يصادفهم أحياناً وهم يؤنبونه على فعلته الشنيعة حسب وصفهم، حيث اعتاد رحمه الله في منتصف الثمانينات أن يجلس في زاوية في فندق المريديان بأبوظبي ويسترسل في الكتابة، وأثناءها كان يصادف بعضاً ممن نالوا من خيرات الوطن ما لم ينله فقيدنا ومن كثرة انتقادهم له بأنه تصرف بغباء بتركه العمل معهم والدخول إلى عالم الفن ''اللي ما يأكل عيش'' كما يقولون، فقرر الابتعاد عن ذاك المكان، ولكن في أواخر أيامه وجد أنهم كانوا على حق وبأن خدمة الأربعين سنة لم تأت عليه إلا بالتعب والحسرة· المسؤولية والإخلاص ويقول المخرج والممثل الإماراتي جاسم عبيد مستذكراً علاقته بالفنان محمد الجناحي التي تمتد طويلاً حيث كان من الأوائل الذين اشتغلوا مع الجناحي في الإذاعة والمسرح: لقد كانت بداياتي معه في الإذاعة في مطلع السبعينيات وكان العمل معه بحق ممتعاً اذ انه لم يبخل علي في خبرته حيث علمني الكثير، كنت أسأله فيبدي لي النصح ويعطيني الاجابات التي أستفسر عنها بكل ود وإخلاص، وقد استفدت منه حتى صرت مخرجاً إذاعياً من خلال خبرة هذا الرجل الرائع· وبذلك استطعت ان أخرج أعمالاً إذاعية كانت بفضل تعلمه· ويضيف جاسم عبيد: لقد مثلت مع الجناحي في التليفزيون والمسرح ومن أهم الأعمال التي أنجزتها معه كانت مسرحية ''الله يا دنيا'' واخرى بعنوان ''الصبر زين''· وعن طبيعة تعامل الجناحي مع زملائه في العمل يقول جاسم عبيد: كان رحمه الله طيباً في معاملته الى أبعد الحدود وإذا حصل خلاف ما على أشياء تخص العمل الفني تراه يغلب مصلحة العمل الذي نقدمه على كل شيء وبذلك نفهم تماماً ان الجناحي كان لا يضمر للآخرين إلا الخير لمن يعمل معه ولهذا كان صديقاً وفياً مقرباً من الجميع، الجميع يحترمه ويقدر تاريخه الطويل في تأسيس صرح الفن في الإمارات، لقد منحنا قدراته بكل تواضع وإخلاص ولهذا ترى أعماله الإبداعية في غاية الروعة لأنه يعمل بمسؤولية وإخلاص قل نظيرهما· انه بحق فنان في غاية التألق والإنسانية، احترمناه وقدرناه في حياته ونقدره ونطلب من الله ان يتغمده برحمته· ثم يستطرد جاسم عبيد متذكراً: أتذكر أنه كان دقيقاً في مواعيده واحترامه لما يقدمه الآخرون· اشتركت معه في مسلسل ''أشحفان'' وفيما بعد بـ''حمود وعبود'' وبرنامج ''سياحة في الإمارات'' من اخراج سعيد النعيمي، وكان العمل معه في كل هذه البدايات جميلاً، ممتعاً، تشعر بأنك تعمل مع فنان حقيقي· ومما عرفته عنه أيضاً اهتمامه بالشباب الجدد الذين يدخلون عالم الفن وقد أخذ بيد الكثيرين منهم الى حقل الإبداع· وأؤكد هنا ان أكثر المبدعين الإماراتيين قد تعلموا منه ونهلوا من فيض خبرته· ويقول جاسم عبيد: كان محمد الجناحي حريصاً على نجاح أي عمل يشتغله ولذلك وضع بصماته حتى في أعمالنا اللاحقة التي اشتغلناها بمفردنا دونه لأنها ثمرة جهوده في تربيتنا الإبداعية المسرحية والتليفزيونية والإذاعية· انه رحمه الله كان خبرة كبيرة أمدتنا بأصول الفن· واختتم جاسم عبيد كلامه: لقد فقدنا ممثلاً كبيراً كما فقدنا صرحاً إبداعياً شامخاً لا تزال بصماته مؤثرة في أداء الفنانين الخليجيين والعرب عندما كانوا يتعاملون معنا في التليفزيون، انه يمتلك تأثيراً واضحاً في الفن والسلوك والإنسانية وبهذا كون له وزناً في قلوب الكثيرين كفنان إماراتي رائد، أنجبته أرض الإمارات فاستحق ان يقال عنه انه معلم قدير ونادر· ورشة مفتوحة يشير رئيس جمعية المسرحيين الكاتب والمؤلف المسرحي إسماعيل عبدالله إلى أن العلاقة الحميمة التي جمعته بالجناحي اندلعت شرارتها الإبداعية في العام 1985 عندما كان إسماعيل يعمل بتلفزيون أبوظبي، ففي أحد لقاءاته مع الجناحي ألح عليه الأخير بضرورة الكتابة للإذاعة من خلال آليات وشروط وقواعد معينة وفي هذا السياق يقول إسماعيل: ''أحبني الجناحي منذ الجلسة الأولى معه، وتبناني، وأشركني في كتابة عمل درامي لإذاعة أبوظبي، ومن يومها أصبحت الكتابة الدرامية بالنسبة لي جزءا من نسيج حياة ومهنة وشغفا شخصيا''· هذا الشغف الذي امتد وتواصل لدرجة أن مشاركة إسماعيل عبدالله في أي عمل مسرحي أصبح مقرونا بالتميز والحضور القوي ونيل الجوائز والإشادات النقدية والجماهيرية· ويضيف إسماعيل عبدالله: ''نحن جزء من فكر هذا الرجل ومن إمكانياته وإبداعه، وكان منزله بمثابة ورشة مفتوحة لكل محبي الفن، وظللت لمدة عامين أزور هذا البيت وكانت النقاشات معه ممتعة وثرية حول عملنا الإذاعي المشترك، وبعد فترة تحولت إلى الكاتب الرئيسي للعمل، بينما تولى الجناحي دفة الإخراج، ومن خلال هذا التعامل اكتشفت الطبيعة الراقية والشفافة لهذا الإنسان، فهو مدرسة في الكرم والطيبة ونكران الذات والتضحية والتسامح والاشتغال بالفن من أجل الفن وحده، وكان الجناحي راغبا وبقوة في نقل الخبرة والمعرفة التي يملكها للأجيال الفنية القادمة''· ويعترف إسماعيل عبدالله: ''لكي أدلل على القيمة الإنسانية الكبيرة لهذا الفنان، ولكي أؤكد على أبوته الفنية، وحرصه علينا كحرصه على أبنائه، فيجب أن أعترف بأن محمد الجناحي وقبل أن يتوفى بخمسة أشهر ألح علي كي أعيد معالجة أول عمل درامي كتبته للإذاعة في أواسط الثمانينات، وتحويله إلى عمل تلفزيوني، ورغم أنني أضعت المسودات الأصلية للنص، وكنت معارضا بشدة الكتابة للتلفزيون بسبب ضياع حقوق المؤلف في الأعمال التلفزيونية المحلية والخليجية، إلا أن إصرار الجناحي وإحضاره للمسودات الأصلية لثلاثين حلقة مكتوبة بيدي، جعلاني أرضخ في النهاية لرغبته، وفاء له وللمحبة والرعاية التي أحاطني بها منذ البداية، وأقول: كما صنع مني محمد الجناحي كاتبا للإذاعة والمسرح، فإنه السبب الرئيسي في كتابتي المقبلة للتلفزيون''· وعن الإشكاليات الذاتية والشخصية التي رافقت الجناحي في مسيرته الفنية يقول إسماعيل عبدالله: ''رغم أنه ظل مدافعا عن الفن طوال مسيرته الحافلة، إلا أن هذا الفن ظلم الجناحي كثيرا، فهو لم يأخذ من الفن بقدر ما أعطاه، فعاش فقيرا ومات فقيرا، ورغم ذلك كان معتزا بنفسه وواثقا من إمكانياته، وكريما لأقصى درجة، حيث استضاف في منزله معظم الفنانين العرب أثناء الثورة الدرامية التي شهدتها استوديوهات عجمان ودبي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي''· ويضيف إسماعيل: ''الجناحي من المؤسسين الأوائل للدراما الإذاعية، ثم الدراما المحلية التلفزيونية، وكان سفيرنا الأول في المشاركات الخارجية''· وعن مسيرته المسرحية يقول إسماعيل عبدالله: ''انطلقت مسيرة الجناحي المسرحية مع ولادة مسرح الإتحاد بأبوظبي بمشاركة مجموعة من الفنانين الذين عشقوا فن المسرح مثل جمعة الحلاوي ورزيقة طارش ومحمد الأستاذ واستمر الجناحي في التواصل مع المسرح المحلي لفترات متقطعة، وكنا في بعض الأحيان نعاتبه على قيامه بأدوار صغيرة وثانوية في المسرح، وكان يدافع عن هذه الأدوار الهامشية لأنها تمثل في نظره دعما للإنتاج الفني المحلي، ولا يهم بعد ذلك حجم أو مساحة الدور المطلوب منه في العمل''· تطوير الدراما أما الباحث والفنان المخضرم عبيد بن صندل الذي عاصر الجناحي منذ تشكل الملامح الأولى للدراما المحلية في الستينات والسبعينات سواء في الإذاعة أو التلفزيون أو المسرح فيقول: ''عملت مع الراحل في مسلسل (الغوص) ومسلسل (شحفان ورمضان)، ومسلسلات إذاعية كثيرة، واكتشفت أن محمد الجناحي يتمتع بخاصية متفردة مقارنة بالفنانين الآخرين، فهو بدأ متمكنا ومبدعا في مجال الإخراج الإذاعي، ولم ترو هذه المهنة عطشه الفني الكبير فكتب ومثل للتلفزيون، وشارك في الأعمال المسرحية المبكرة والجديدة على المشهد الفني المحلي، وكان الراحل مهجوسا بفكرة تطوير الدراما في الإمارات، وإيصال صوتنا وتراثنا وإبداعنا إلى الآخر، ورغم أن هذا الإبداع كان يتلمس حضوره وبشاراته الأولى، إلا أن الجناحي أصر على أن يولد هذا الإبداع كبيرا وقادرا على منافسة الآخرين في الساحة الخليجية والعربية، وكان هو سفيرنا في معظم الأعمال المشاركة في المهرجانات الخارجية، وهذا الطموح العام جعله يتخلى عن طموحات شخصية كثيرة، وكانت شفافيته ومحبته التي حصدها هي الرصيد الأكبر الذي احتفظ به الراحل قبل وبعد مغادرته الحياة، إنه من طينة الفنانين المخلصين لمهنتهم ورسالتهم، وأمثاله لا يمكن أن يغادروا خشبة الذاكرة بسهولة، كما لا يمكن أن يطويهم النسيان، لأن أعمالهم الراسخة في أذهاننا وقلوبنا ستظل تعيد سيرتهم ومآثرهم في كل مناسبة فنية وثقافية''· حضور دافئ وتقول الفنانة القديرة موزة المزروعي إن تواصلها الفني مع محمد الجناحي بدأ في السبعينات من خلال عدة أعمال إذاعية وتلفزيونية ومسرحية، منها ''بو ناصر وعياله''، و''سيف نشوان''، وهي أعمال ترجمت الروح الفنية الخاصة التي يتمتع بها الراحل، فهو أول من يحضر إلى موقع التصوير، وكثيرا ما يمرر ملاحظات المخرج دون أن يتدخل في نقاشات عقيمة أو يعترض على مشهد لم يعجبه، فهو يرى أن الممثل بعد انتهاء البروفات والنقاشات الأولية لا يحق له التدخل في عمل المخرج عند بدء التصوير، إلا في حالات خاصة ونادرة· وتضيف المزروعي: ''لقد فقدنا الجناحي، وفقدنا حضوره الدافئ والحميمي، ولكن عزاءنا في أعماله الكثيرة الموزعة على أرشيف التلفزيونات المحلية والخليجية، والتي نتمنى أن تكون هناك مبادرة عامة ومشتركة بين هذه التلفزيونات لعرض أعماله في المستقبل القريب''· عاشق المهنة أما الفنانة المخضرمة مريم سلطان فترى أن غياب الجناحي عن الوسط التلفزيوني والمسرحي لا يمكن تعويضه، لأنه فنان عاشق لمهنته النبيلة وضحى بالكثير من أجل أن يحوز على رضا الذات والآخر، وكان لتواضعه وأريحيته دور كبير في التفاف الفنانين حوله والاستماع لملاحظاته التي تنم عن حس حقيقي بدور الفن في المجتمع، ودوره في نشر الوعي بين الأجيال المختلفة'' وتضيف مريم سلطان: ''تعلمنا من الجناحي تقنيات التمثيل الإذاعي عندما اشتغل كمخرج في إذاعة أبوظبي، وكان وجوده بيننا في استوديو التسجيل يشيع جوا من البهجة والتعاون وعدم التكلف، ولم يكن يفرق بين ممثل وآخر، ويعاملنا كأصدقاء وأخوة، ووصل عدد أعمالي الإذاعية إلى خمسة وعشرين عملا، أما في التلفزيون فشاركته في مسلسلات عدة مثل: ''حظ يا نصيب'' و''عمى ألوان'' و''سحابة صيف''· الإذاعي الأول وفي شهادة مفعمة بالود والأسى يقول الفنان أحمد الجسمي: ''رحل طيب القلب والرجل الفنان الملتزم والأب الروحي للفن الإماراتي، محمد الجناحي، هو أول إذاعي وكاتب سيناريو دراما إذاعية وتلفزيونية، والمؤسس الحقيقي للنهضة المسرحية والدرامية في الإمارات، رحل الأستاذ الذي تتلمذنا على يديه جميعا، وكان أول من اتصل بي بعد فوزي بجائزة أفضل ممثل عربي في مهرجان قرطاج المسرحي قائلا لي: ''لقد حققت حلمنا جميعا''، رحل محمد الجناحي الذي عشت معه أجمل محطات حياتي العملية والفنية والإنسانية، وكنا نجتمع معه في بيته وفي مبنى إذاعة وتلفزيون أبوظبي مع فنانين وأصدقاء أمثال جمال سالم وعبدالرحمن الصالح وجمعة الحلاوي وإسماعيل عبدالله ومحمد نجيب وسلطان النيادي، وكان يعلمنا أهمية أن يكون الفنان مهموما ومنتميا كي يقدم عمله بصدق وشفافية، وكان هو النموذج الذي نتبعه في العمل سواء كان مخرجا أو مؤلفا أو ممثلا أو مشرفا على تفاصيل وحيثيات العرض''· المعلم والإنسان أما المخرج والممثل علاء النعيمي فإنه يتحدث عن محمد الجناحي معلما وانسانا فيقول: الفنان محمد الجناحي رحمة الله عليه كان من أكثر الفنانين الاماراتيين نشاطا رغم كبر سنه وكان تعامله مع الفنانين الشباب بكل محبة وتواضع وكان المرحوم يقدم النصح والارشاد وكان لا يتردد في المشاركة في أي عمل يعرض عليه حتى لو كان من مخرج مبتدئ طالما يقف كي يشارك زملاءه الفنانين الحضور الدائم على كافة انواع التمثيل (المسرحي والتليفزيوني والاذاعي) وكان المرحوم عكس كثير من الاوائل الذين فضلوا الاستراحة بعد مشوارهم الطويل ولكنه لم يتوقف وظل حاضرا ومتدفقا مثل الشلال الذي لا يبخل بعطائه ولا أنسى للمرحوم وقفته معي شخصيا فقد كان معجبا بتمثيلي وكان يتصل دائما بعد كل عمل أقدمه كي يهنئني ويسدي لي النصيحة· انني اعتبر من تلاميذه الذين نهلوا منه عمق التفكير بالفن واحترام العمل والتفاني من اجله فلقد علمنا المرحوم الكثير فكان النبراس الذي نهل منه الجميع، اذ لا يفرق بين مبدع وآخر الا بعطائه·