يبدو أن صراع الإنسان مع الموت لا يقل عن صراعه مع الحياة، من هذا المنطلق أدرك العظماء والملوك في الأزمنة الغابرة أنهم غير خالدين، ولهذا سعوا إلى التحايل على إشكالية الفناء، عبر البقاء جسدياً من خلال فنون وعلم التحنيط، وقد برع البعض حول العالم في هذا السياق، وفي المقدمة من الشعوب الشرقية كان الفراعنة، إذ لا تزال مومياوات البعض منهم حاضرة ومحنطة حتى الساعة، وفي مقدمتها جثة الملك المصري الكبير «رمسيس الثاني».
من هنا استلهمت بعض الشعوب المعاصرة فكرة الحفاظ على أجساد رؤسائها ورموزها، وعلى سبيل المثال من زار الساحة الحمراء في موسكو، كان له نصيب أن يرى الجثمان المحنط للزعيم البلشفي الأشهر فلاديمير لينين، ومن قدر له زيارة ضريح أو مدافن البابوات في حاضرة الفاتيكان، والقائم تحت بازيليك القديس بطرس، يمكنه أن يرى أجساد بعض البابوات قائمة حتى الساعة، عبر بعض أسرار التحنيط الذي لا يزال سرها غير معلوم.
وبعيداً عن الإغراق في عالم السياسة، نشير إلى أن هناك معركة فكرية جارية في الداخل الروسي، حول الإرث الثقافي والحضاري لروسيا، والذي يمتد لنحو ألف عام، إلا أن التيار الشيوعي السوفيتي، حاول جاهداً أن يكبت أو يقمع كل من كان يتناول تاريخ روسيا الماضي، وبدا وكأن روسيا لم تعرف تاريخياً إلا منذ العام 1917، عبر ثورة البلاشفة (الأكثرية باللغة الروسية).
في التاسع عشر من شهر ديسمبر الماضي، وخلال المؤتمر السنوي الكبير، انتقد الرئيس الروسي بوتين دور لينين في التاريخ الروسي، إذ اعتبر أن زعيم البروليتاريا العالمية (لينين) «كان ثائراً أكثر منه رجل دولة»، وألقى بوتين باللوم على لينين في موقفه من السياسة الوطنية، وعنده أن ذلك كان السبب الرئيس الذي مكن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من ممارسة حقها في تقرير المصير، فقد اقترح لينين «كونفدرالية، ربطت الجماعات العرقية بأقاليم محددة، ومنحهم الحق الفعلي في مغادرة الاتحاد السوفيتي، فظهرت من هنا على الفور مناطق توتر.
السؤال الذي يهمنا هنا، من منطلق ثقافي، أنه في مارس 2024 سيترك بوتين موقعه، هذا مؤكد، أما غير المؤكد فهو قراره بدفن جثة لينين، وقد صرح مؤخراً بالقول «هذه قضية حساسة لا بد من معالجتها بحذر، لكي لا نقع في تقسيم المجتمع».
من جانب آخر، يخشى الكثيرون من بقايا الدولة القديمة أن تكون العداوة الفكرية تجاه لينين سبباً في إنهاء نوم زعيم البلاشفة في مخدعه الفاخر من الغرانيت، والذي يقترب من قرن كامل من الزمان، وهي فكرة تزعج «السوفيت القدامى»، الذين يمنعون السلطات الروسية حتى الساعة من استخراج جثمان لينين، ودفنه. الإشكالية هنا، في واقع الحال، ثقافية وإيديولوجية بأكثر منها سياسية، فالمعنى رمزي في حد ذاته، ويعني إسدال الستار، على نحو لائق، على قرن كامل من حكم الرجل الميت، بعظمته ورعبه، على عقول ووجدان أجيال ما بعد الاتحاد السوفيتي.

الطريق إلى التحنيط
في الحادي والعشرين من يناير عام 1924 توفي مؤسس الاشتراكية المعاصرة، في الرابعة والخمسين من عمره. في أعقاب الوفاة المبكرة، جرى سجال بين زوجة لينين التي فضلت مواراة زوجها الثرى تكريماً له، كشأن كل إنسان، غير أن الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، كان له رأي آخر، فقد ذهب إلى أن الرجل يجب أن يظل رمزاً خالداً للثورة البلشفية، وعلى هذا الأساس فإنه من الأكرم له وضعه في نصب تذكاري عند جدار الكرملين في الساحة الحمراء، وجعله مزاراً لكل من لم يتمكن من المجيء إلى موسكو لحضور مأتم الدفن. كان من الطبيعي أن تنتصر وجهة نظر ستالين، وبدأ البحث عن الأفكار الطبية اللازمة للحفاظ على جثمان لينين. في البداية تم حقنه بالمواد التقليدية كالفورمالين وكلوريد الزنك، والكحول والغليسرين والماء، ولم يتم انتزاع أعضاء الجسم الداخلية، كما كان يحدث عند كثير من الشعوب سابقاً.
وضع جثمان لينين، بدايةً في معدات غالية الثمن تعتمد على الحفاظ على الجثمان بالثلج، لكن الفكرة بدت قاصرة، إلى أن تم التوصل إلى محلول سائل شفاف لا رائحة له، خليط من الفورمالين وخل الصوديوم والغليسرين، وقد تبين أنه فعال جداً، واستخدم بنجاح مدى فترة طويلة من الزمن، إلى أن أخلت هذه الطريقة المكان لتقنيات عصرية.

أهو جثمان لينين؟
في مواجهة أسطورة جثمان لينين، هناك الكثير جداً من الروايات التي تثار بين الحين والآخر، والأسئلة التي تستحق التوقف أمامها، منها على سبيل المثال: «هل الجثمان الراقد في التابوت الغرانيتي هذا، هو جثمان لينين حقاً، أم أن في الأمر خدعة انطلت على الروس والعالم نحو مئة عام؟
أحد الاختصاصيين الروس الكبار، البروفيسور «يوري روماكوف»، الذي يعمل في معهد الأبحاث العلمية في موسكو منذ نصف قرن، ذهب خلال مؤتمر صحفي في موسكو قبل بضع سنوات، للقول إن ما يقال ويزعم من أن الراقد في الضريح هو لينين ليس صحيحاً، بل هو جسد شبيه به، أو حتى دمية من الشمع لا أكثر.. ما صحة هذا الكلام؟
الشاهد أن الحقيقة لا تبدو واضحة، ففيما تشير بعض أوراق العقد السوفيتي، على سبيل المثال، إلى أن أعضاء فلاديمير لينين لم تنزع منه، تذهب أوراق معاصرة أخرى إلى أن العلماء الروس تمكنوا من الحفاظ على هيكل لينين العظمي، وعضلاته وبشرته وأنسجته الأخرى، فيما تمت إزالة كافة أعضائه الداخلية، حيث أخرج مخه لفحصه في معهد المخ السوفيتي الذي أقيم في أعقاب وفاة لينين لتولي مهمة دراسة «قدراته الاستثنائية»، وما تزال أجزاء من المخ محفوظة حتى يومنا هذا بمركز علم الأعصاب بأكاديمية العلوم الروسية، على أن فكرة أن هذه ليست جثة لينين يرفضها الروس، ذلك أن لجنة كانت تشكل كل خمس سنوات تضم إلى جانب أعضاء الحكومة وممثلي الأجهزة الأمنية المختصة كبار الأطباء السوفيت والروس، كان جسد لينين يرفع أمام ناظريهم من الناووس الموجود فيه، ويتم فحصه بكل عناية، ولو أن المسافة بين نقطتين مثبتين في جسد زادت ولو مليمتراً واحداً، فإن هذا كان سيعني الكارثة فعلاً.
وابتداءً من العام 1972 باتت تستخدم لأجل أعمال التحقق هذه آلة تصوير فريدة من نوعها، تصنع في مصانع خاصة وجهاز يراقب لون الجلد. هذه الأجهزة الدقيقة للغاية تسجل تسجيلاً موضوعياً كل انزياح (يساوي عشر المليمتر) وكل تكدر واسوداد في لون الغطاء الجلدي لا يلمحه نظر الإنسان، وخلال السنوات العشرين الأخيرة لم تسجل الأجهزة أي تغيرات.
مؤخراً وفي أثناء البحث، تبين بالفعل أن الطبقة الخارجية فقط من جسم لينين كانت تحفظ حفظاً دقيقاً، أما دماغه الذي يهم كثيراً العلماء فيحفظ في وعاء خاص يتضمن حوافظ في معهد المخ كما أسلفنا، فيما قلبه معروض في متحف لينين، وليست هناك من معلومات دقيقة حول باقي أعضاء الجسم الداخلية، إلا أنها على الأرجح قد دفنت بمعرفة السلطات السوفيتية وقت وفاته.

ضريح مضاد للرصاص
تحت الزجاج المضاد للرصاص، وفي بذلة رسمية جديدة، تصمم كل فترة زمنية معينة، يشع جثمان لينين بنور يختلف كثيراً عن محيطه المغطى باللونين الأسود والأحمر. للوهلة الأولى، قد يبدو جسم لينين صغيراً بشكل مفاجئ، إذ على الرغم من دوره الكبير في التأثير على مجرى التاريخ البشري، فإن طوله لا يتجاوز الـ 165 سنتيمتراً، ولدى النظر إليه، تشعر بأن الجثمان يشبه مثالاً من الشمع، أكثر من أن يشبه جثة محنطة.
زيارة هذا الرمز المحنط في موسكو، أصبح مكاناً للزوار من الشعوب السوفيتية، وكان يتم أخذ المواطنين السوفيت إليه، مثلما أيضاً الوفود الأجنبية من الأصدقاء، فقد كان يقوم بزيارة نصب الضريح أكثر من 2 ونصف مليون شخص سنوياً. وقد استعان المهندس الروسي «أليكسي شتشوسيف» بنمط إحياء العمارة المصرية الفرعونية القديمة، بهياكل الغرانيت الضخمة، بل وتم استخدام هذا النمط المصري الفرعوني في مدينة سان بطرسبرج عن طريق تمثالين لامنحتب الثالث عام 1832.
وعندما دخلت روسيا الحرب العالمية الثانية في نهاية يونيو عام 1941، تقرر أن يجلى جسم لينين إلى نقطة بعيدة في روسيا، واختيرت لأجل هذا مدينة يتومين في سيبيريا التي نقل إليها، في ظل السرية التامة جداً، لينين في قطار خاص. لم يكن مبنى المعهد الزراعي المتوسط في «تيومين» المجهز على عجل ليكون ضريحاً مؤقتاً ذاك المكان الصالح تماماً لهذا الغرض، ولأغراض السلامة، أحيط المبنى نفسه بسياج عالٍ ومحكم، بينما سد نوافذ الطابق الثاني الموجودة فيه مومياء لينين. وحين وضعت الحرب الكونية أوزارها، أعيد جثمان لينين إلى موسكو عام 1947، إلى ضريحه الذي خضع لأعمال تجديد وشيدت هياكله بالغرانيت عوضاً عن الخشب. بعد العبور في أجهزة الكشف المعدنية، والوقوف في صف طويل قد يلتف أحياناً حول إحدى زوايا جدران الكرملين، يسير الزوار على الدرج للوصول إلى القبر الحجري المضاء بإنارة خافتة. وبعد أن يطلب من الزوار إزالة أيديهم من جيوبهم، يعبرون في مجموعة من السلالم، ليجدوا أنفسهم في حجرة شبيهة بالمكعب حيث يرقد لينين.
هل تغير شيء ما في العقلية الروسية خلال العقدين الماضين تجاه لينين وضريحه؟
في مارس من عام 2017 وخلال استفتاء للرأي جرى في موسكو، أظهر 58 % من الروس أنهم يؤيدون إيقاف عرض جثمان لينين، لكن لا يعرف ما إذا كان سيدفن الجثمان مع شخصيات شيوعية أخرى في الكرملين، أو في مقبرة «فولكفو» في مدينة سان بطرسبرج بالقرب من قبر والدته، كما طالب لينين في وصيته. واليوم في واقع الحال، لم يعد للموقع ذات الأهمية، وأصبح يجذب عشاق التاريخ، أو الأشخاص الذين لديهم فضول لرؤية الجثمان المحنط، لكن لا تزال الصفوف الطويلة أمراً شائعاً، ربما بسبب قصر الساعات التي تسمح فيها الزيارة، وبات السؤال: هل سيضحى ضريح لينين، مجرد معلم سياحي آخر، حاله حال كاتدرائية القديس «باسيل» ومركز (GUM) للتسوق في روسيا، ويخلو عما قريب من جثمان لينين؟