محمد عابد الجابري.. رجل النزاهة الفكرية
كان لرحيل المفكر والفيلسوف المغربي الدكتور محمد عابد الجابري وقع الصدمة على قلوب كل من تتلمذ على يده أو نهل من مؤلفاته الكثيرة، والتي تتسم بالعمق والصرامة العلمية، وكان الدكتور محمد عابد الجابري يتمتع بالنزاهة والفكر الخلاق وتواضع العلماء، كان مفكراً من طينة نادرة، فهو لا يحب الشهرة والأضواء، ومن أصحاب العقول النيّرة، التي عرفت كيف تزاوج بين التراث والحداثة.
قد وافت المنية الجابري يوم الاثنين 3 أبريل الجاري عن سن تناهز 75 عاماً. وكان الراحل، وهو من مواليد عام 1935 بمدينة فكيك (شرق المغرب) قد تلقى تعليمه الأولي بمدرسة قرآنية بمسقط رأسه قبل أن يغادرها برفقة أسرته إلى الدار البيضاء، حيث حصل هناك على شهادة عليا في الفلسفة عام 1967 كما نال شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، التي شغل فيها منصب أستاذ الفلسفة والفكر والإسلامي وتخرج على يده أجيال كثيرة من الطلبة الأساتذة. وهو مؤسس مجلة “فكر ونقد” التي تصدر في الدار البيضاء.
“الاتحاد الثقافي” التقى ببعض رموز المشهد الثقافي والفكري في المغرب لتلمّس مدى عمق الألم الذي تركه رحيل الجابري في نفوس هؤلاء، ومدى الفراغ الذي سيتركه هذا الرحيل المفاجئ في الساحة الفكرية المغربية والعربية.
جرأة فكرية
في شهادته قال الروائي والكاتب المغربي محمد برادة: “ينتمي محمد عابد الجابري إلى الجيل المخضرم من المثقفين والمناضلين والكتاب المغاربة؛ فقد عاش طفولته في عهد الحماية الفرنسية، ودرس تعليمه الابتدائي في إحدى المدارس التي أنشأتها الحركة الوطنية لمقاومة مشروع الفرنسة، وسافر إلى سوريا لاستكمال تعليمه الجامعي.. وهذا الجيل المخضرم هو الذي واجه الأسئلة الصعبة التي طرحتْ بعد الاستقلال؛ ومن ثم حرص المرحوم الجابري على الجمع بين النضال من أجل بناء مجتمع ديمقراطي متحرر، وبين متابعة البحث والتفكير والكتابة والتدريس لبلورة أسس تساهم في تطوير الفكر المغربي والعربي.
من هذه الزاوية، يمكن أن نستحضر مساره الغني على واجهتين: الالتزام السياسي ضمن أحزاب اليسار المغربي، وتحديداً في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ انشقاقه عن حزب الاستقلال سنة 1959، حيث ناضل إلى جانب الزعيم الفذ المهدي بن بركة وتعلم منه، ثم إلى جانب الشهيد عمر بنجلون، قبل أن يصبح عضواً في المكتب السياسي لهذا الحزب. والواجهة الثانية الأساسية في مسار المرحوم الجابري، تتمثل في أطروحته عن ابن خلدون ومجموعة أبحاثه في الفلسفة العربية ـ الإسلامية وفي تحليلاته لمشكلات التعليم بالمغرب، وصولاً إلى كتابه البارز عن العقل العربي.. وهذا المسار الفكري يترجم الهموم المشتركة التي واجهها الجيل المخضرم من المثقفين والمفكرين المغاربة، والتي تؤول إلى إشكالية الحداثة وإعادة تصور العلاقة مع التراث ومع الآخر في مرحلة ما بعد الكولونيالية.. وتتميز مساهمة الجابري الفكرية بقدرته على الاستفادة من المناهج الغربية في التفكيك والتحليل، وباطلاعه الواسع على التراث العربي الإسلامي، والحرص على أن يكون التأويل متجاوباً مع أسئلة الحاضر.. وهذا مجال صعب ولكن الجابري كان يتمتع بالجرأة الفكرية من أجل طرح الأسئلة الصعبة. وبالطبع فإن كتاباته عن العقل العربي قد أثارت ردود فعل مختلفة وصاحبتها خصومات جدلية حامية؛ لكن محاولة الجابري في هذا المضمار ستظل خطوة مهمة على طريق التفكير في مكونات المجتمع والإنسان العربيين”.
أتى لكي لا يمضي
أما الشاعر والناقد والمترجم المغربي محمد بنيس فقد قال شهادته: بمجرد سماعي نعي محمد عابد الجابري وقف أمامي عبر حياة من التعلم والكتابة والتأليف والفكر والحرية والصداقة. كل من عايشوا محمد عابد الجابري في مساره النضالي والفكري يعلمون أنه كان لوحده طاقة فكرية وثقافية، ساهمت في تغيير الرؤية إلى ثقافتنا وفكرنا العربيين. كان صاحب هم حقيقي، لأنه كان متشبثاً بالحرية وبالتحديث.
وقد أعطاهما معنى سيظل مرتبطاً باسمه. جمع بين القديم والحديث، بين المجتمع والتاريخ والعروبة، في أفق لم يكن يتخلى فيه عن العودة إلى الفكر ليحفر المسالك غير المعتادة. ودائماً ظل شاباً، لا يتوقف عن العمل، تأليفاً ونشراً ومشاركة في الندوات واللقاءات. تتبعت أعماله ومواقفه وسلوكه منذ أن أصبحت الثقافة بالنسبة لي اختياراً حياتياً، فوجدت فيه المعلم الذي يعيش زمنه من خلال تعدد الأزمنة، ويقرأ الثقافة العربية من مسارات فكرية وقضايا أساسية. في جميع كتاباته هذه النظرة الفريدة في الإحاطة والإنصات والحوار، من دون أي تعارض بين عمله كأستاذ جامعي تكون على يديه جيل من المفكرين المغاربة، وبين الكاتب الذي كان شغوفاً بالصحافة لأنها وسيلة لنشر الوعي والفكر،
والمؤلف الذي يحترم تقاليد البحث العلمي في زمن عرف ثورات فكرية عرف كيف يستفيد منها بجهد وصبر، والمناضل الذي غادر محفل السياسة عندما شعر بانسداد الأبواب.
محمد عابد الجابري مفكر أتى في زمن كان المغرب يبحث عن ذاته، فكان أحد الأسماء الكبرى العربية والمغربية التي انتبهت إلى القيمة العليا للعمل الثقافي والفكري، وجعلت من الحرية الفكرية مدخلاً لكل حرية.
حاجة فكرية
أما الناقدة والروائية المغربية المعروفة الدكتور زهور كرام فتقول: إنها خسارة كبرى، بحجم حاجتنا اليوم أكثر إلى محمد عابد الجابري، لأننا في حاجة إلى استعمال العقل والتفكير الممنهج، والرقي بالسجال إلى مستوى حضاري. إنها خسارة للفكر العربي كله، لأن الراحل كان يخلق بطروحاته الفكرية، وقراءته الحفرية في التراث العربي والإسلامي مناخاً للسجال والجدال والحوار، وكلما نشر مقالاً أو كتاباً، أو حاضر وناقش إلا كانت قراءته محط نقاش وسجال ساخن، وهو بهذا كان يدفع نحو تنشيط الحوار، وتحفيز الاختلاف في النظر إلى التراث، وإخراج الأفكار من رتابتها، حين يتركها تأخذ وعياً جديداً في رؤيته، فيمنحها الحياة الفكرية التي جعلتها تصل إلى مختلف القراء، وذلك بفضل أسلوبه التربوي والبيداغوجي في تحليلاته وفي طريقة كتابته.
لم يكن مفكراً مهادناً في السياسة والفكر، إنما كان صاحب رؤية ومشروع في المعرفة والتراث وفي الحزب والسياسة. إنه نموذج المثقف المنخرط في أسئلة أمته التراثية والفكرية، وأسئلة وطنه السياسية، لهذا كتب في المسألة الثقافية والهوية، وفي التعليم والديمقراطية، وفي نقد العقل والتراث، وخلق للفكر المغربي مكانة متميزة في المشهد العربي. إنها خسارة كبرى، بحجم خسارتنا للموقف القوي، واللغة الجريئة في التفكير والرؤية.
وجع العقل
أما الكاتب والناقد المغربي إبراهيم الحجري فيقول: حقاً، لا يمكن تصور عقل عربي من دون التفكير في الراحل محمد عابد الجابري.. إن فقده ضربة موجعة للفكر والفلسفة العربيين نظراً لحجم الخدمات الجليلة التي قدمها لهما. لقد ارتبط ذكره بالبحث في العقل العربي وبناه من خلال مشروعه الفكري الثري الذي أقام الدنيا وشغل الناس وأثار جدلاً واسعاً منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي.
لكن عزاءنا يكمن فيما خلفه الراحل من خزانة ضخمة تحتاج الآن إلى أكثر من قراءة ومن مقاربة. فالرجل لم يكن سهلاً، بل عصياً على القبض ولا يمكن مجاراته فيما يكتب. كان رحمه الله مثل السيل الجارف لا يهدأ قلمه، وكان نعم الأستاذ. ترك جيلاً من الباحثين والنقاد بعد أن زرع فيهم حب السؤال والبحث والتأمل. للأسف، لست أدري كم تحتاج البشرية من قرون كي تلد مثل الجابري عطاء وغزارة وعمق تفكير. وأعتقد أنه إذا لم تكن المؤسسات قد منحت الجابري في حياته الحظوة اللازمة كي يسير بمشروعه وفق الوتيرة التي كان يستحق عن طريق إمداده بما يضمن له العمل في فرق وفي إطار أكاديمي مؤسسي، فقد آن الأوان بعد فوات الأوان كي على الأقل تسارع هذه المؤسسات تكريماً للجابري وعرفاناً لما قدم للفكر العربي والدرس الفلسفي، بنشر كتبه على نطاق واسع ودعمها حتى تصل إلى كل القراء.
سيرة كتابية
من أبرز مؤلفات الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، الذي توّج بالكثير من الجوائز المرموقة، نذكر: “نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” (1980)، “العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي” (1971)، و”نقد العقل العربي” الذي صدر في ثلاثة أجزاء هي “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” و”العقل السياسي العربي”، و”مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي” (1982) و”معرفة القرآن الحكيم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول” في ثلاثة أجزاء، و”مدخل إلى القرآن الكريم”، و”أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب” (1973)، و”من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية” (1977)، و”المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي” (1982)، و”إشكاليات الفكر العربي المعاصر” (1986)، و”وحدة المغرب العربي” (1987)، و”التراث والحداثة: دراسات ومناقشات” (1991)، و”الخطاب العربي المعاصر” (1994)، و”وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر” (1992)، و”المسألة الثقافية” (1994) و”الديمقراطية وحقوق الإنسان” (1994)، و”مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب” (1995)، و”المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد” (1995)، و”الدين والدولة وتطبيق الشريعة” (1996)، و”المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية” (1996).
أعمال الجابري استعادت الرشدية والخلدونية عربيّاً
معمار فلسفي بألوان الطيف السبعة!
حسن ولد المختار
في منتصف الثمانينات ألقى فقيد الفكر العربي المرحوم محمد عابد الجابري محاضرة في جامعة نواكشوط، قدم فيها قراءة جديدة للنسق الفلسفي الرشدي، وفتح بعد ذلك مجال الحوار لطلاب قسم الفلسفة، فتنطع أحدهم طارحاً سؤالاً “فلسفياً” ـ بالمعنى الشعبي للكلمة ـ مؤداه: “إن العباقرة يتحاورون عبر العصور.. ويمارسون أحياناً كثيرة انتهاكاً لصيرورة الزمن وترتيب يومياته حين يؤثر اللاحق منهم في السابق، لا العكس، كما يفترض. وكمثال فقط فإن نظريات أرسطو وأفلاطون الوجودية ربما لا يتيسر أبداً فهمها من دون فلسفة أفلوطين الذي ولد بعدهما بعدة قرون (توفي 270م)، وهذا الأخير يستغلق على الفهم هو أيضاً من دون نظرية الفيض عند الفارابي، المتوفي سنة 950م، وكذلك نظرية الحدس عند برجسون المتوفى سنة 1941م”! وتحت إلحاح مشرف المحاضرة بضرورة الإيجاز وطرح السؤال مباشرة، لفظ الطالب “المتحذلق” أخيراً سؤاله: “هل الجابري تأثر بابن رشد.. أم أن ابن رشد هو الذي تأثر بالجابري؟”! وبسرعة رد الجابري على هذا السؤال بابتسامة وعبارة “أقبَلُ الاتهامين معاً”، التي رددها ممازحاً، ولم يزد على ذلك. ولعل أول الاتهامين اللذين يشير إليهما متعلق بالتوسع في تأويل النص الرشدي، وقراءته قراءة اجتهادية معاصرة هي عمليّاً ومنهجيّاً إعادة كتابة له. وأما الاتهام الثاني فلعله هو أيضاً إشارة إلى تهمة التهم الأبدية، أي التلبس بالاشتغال بالدرس الفلسفي في حد ذاته، وهي تهمة ـ لو تعلمون ـ خطيرة، في التقليد والمخيال الثقافي العربي الإسلامي، مع ما ظل يتبعها من حتمية “تكفير” و”تسفيه” خاصة بعد محنة ابن رشد، وفتوى ابن الصلاح الشهيرة التي جاء فيها “الفلسفة أسُّ الضلال والسَّفَه”.. و”من تمنْطَقَ تزنْدَقَ”... الخ.
والشاهد في هذه الأمثولة هو ارتباط المشروع الفكري التجديدي الذي أنجزه الجابري في أذهان كثيرين بما مثله ابن رشد نفسه في تاريخ الفكر الفلسفي النقدي الإنساني، والعربي الإسلامي منه خاصة. ولذا طالعنا خلال هذا الأسبوع الأول بعد رحيل الجابري إحالات كثيرة في هذا الاتجاه مثل مقال “سي عابد... ابن رشد العصر” الذي شغل صفحة كاملة في جريدة “الشرق الأوسط”، والعمود التأبيني المؤثر “ابن الجابري” للكاتب سمير عطا الله، في الصحيفة ذاتها، وسواهما كثير. ومع أنه يلزم الاعتراف طبعاً بأهمية ما يمثله الركن الرشدي في المعمار الفلسفي الجابري، إلا أنه مع ذلك قد لا يكون هو الأهم. صحيح أن صاحب “نقد العقل” جعل الرشدية على رأس العقل البرهاني الأرقى ـ ضمنياً ـ بين التكوينات البنيوية الثلاثة الناظمة للعقل العربي (البرهاني والعرفاني والبياني). وصحيح أيضاً أنه تفرغ منذ سنوات قريبة لإعادة إصدار أعمال ابن رشد كاملة بعد اكتشاف مخطوط كتاب مهم مفقود لقاضي قرطبة عثر عليه مصادفة في موريتانيا! إلا أن البعد الرشدي مع ذلك لا يختزل سعة أفق المشروع الفكري الذي اشتغل عليه الجابري. هذا إن لم نقل، من دون كبير مبالغة، مع الكاتب السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي إن “الجابري أعلم من ابن رشد” ـ وهذا عنوان إحدى مقالاته المنشورة في “الاتحاد”.
لقد ظل يتنازع الجابري طيلة مسيرته الفكرية منزعان فلسفيان، أو بالأحرى مدرستان، طبعتا آثارهما قوية في مشروعه الفكري النقدي. الأول معرفي “إبستيمي” حيث ظل مقتنعاً باستحالة إنجاز أي نهضة عربية إسلامية من دون أن تتوسل لذلك وسائله الصحيحة وأولها المدخل الإبستيمولوجي المعرفي للنهضة، بما يقتضيه من إعادة إطلاق مَلَكة الاجتهاد مقرونة بتدشين عصر تدوين جديد. وفي هذا السياق استعان الجابري ببعض تقاليد المنهج النقدي الديكارتي، ومفاهيم الدرس الإبستيمولوجي عند غاستون باشلار، كما أخذ أيضاً من المدرسة البنيوية أعز ما عندها من تقاليد منهجية في التفكيك النصي والتقعيد المنهجي، واستدعى من الدرس الماركسي تفسيره الاقتصادي لحركة التاريخ، ليمارس من خلال كل ذلك نوعاً من “مسح الطاولة” ـ بالتعبير الديكارتي ـ في قراءته المتأنية للتراث، وفي وصفه للخطاب العربي المعاصر، على نحو تكلل بإعادة مساءلة ونقد العقل العربي، ووضعه في أطر تصنيف وتفسير عالية النسقية، سمحت في النهاية بترهين التراث، وإنارة الحدود السديمية الثاوية بين الماضي والحاضر في الخطاب العربي المعاصر.
وضمن هذا الجهد المعرفي البرهاني لا شك في أن الجابري احتاج إلى الرشدية كمرجعية عربية إسلامية، فأعاد إحياءها وتبْيئتها، وهنا يحسب له بشكل خاص شرف الاستعادة العربية لابن رشد الذي طالما تعرض إلى حالة اختطاف غربي مزمنة منذ أيام الرشديين اللاتين، وأيضاً منذ محنته الشهيرة ونفيه الكئيب والجائر من الثقافة العربية الإسلامية عامة، ومن بلاد المغرب الأقصى بصفة خاصة. وقد سجل لنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي شهادة مؤثرة يوم حضر وفاة ابن رشد في مراكش، التي كفّره فقهاؤها، وضايقته سلطاتها، وعندما مات أخيراً ضنت عليه حتى بشبر من التراب يضم رفاته، فنُفي جثمانه طريداً على بعير أجرب “سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش ونقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جَعلت تآليفه تعادله من الجانب الآخر وأنا واقف.. وقال أبو الحكم بن برجان (صاحبي) ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله ـ يعني تآليفه ـ فقال له آخرون، وابن جبير، يا ولدي نِعم ما نظرت لا فض فوك، فقيَّدتها عندي موعظة وتذكرة رحم الله جميعهم”! والكلام طبعاً لابن عربي.
أما المدرسة الثانية فهي التي شكلت، منذ البداية، العمود الفقري للمعمار الفلسفي الجابري، ونعني تحديداً المدرسة الخلدونية. فمنذ رسالته ذائعة الصيت لنيل الدكتوراه عن “العصبية والدولة.. معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي”، ظلت روح فلسفة التاريخ، وتقاليد الدرس الخلدوني منها بصفة خاصة، بارومتراً معرفياً ومنهجياً، ناظماً وموجهاً وحاكماً، لم يفارق الجابري طيلة سنوات عمره اللاحقة، وفي عموم نتاجه الفكري الغزير. وفي هذه الزاوية الخلدونية تحديداً توجد أوجه شبه قوية بين الجابري ورائد آخر من رواد نقد العقل العربي ونعني طه حسين الذي انطلق هو الآخر في رسالة تخرجه في فرنسا من “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”، كما استمد من المنهج النقدي الديكارتي الكثير من أصول قراءاته النقدية للتراث، وللشعر الجاهلي بصفة خاصة.
على أن البعدين الرشدي والخلدوني مع ذلك لا يكفيان وحدهما لاختزال منجز الجابري الفكري. فقد كان الرجل تقويماً فكرياً وفلسفياً قائماً بذاته، يكاد يصدق عليه ما قال هو نفسه عن مقدمة ابن خلدون من كونها لا ترد يد لامس، ففيها يجد كلٌّ شيئاً مما يريد سواء في ذلك الفقيه والشاعر والفيلسوف والساحر، والماركسي والقومي والإسلامي.. الخ. ولكن على الرغم من هذه الأصالة والفرادة فقد تعرض، مع ذلك، المعمار الفلسفي الذي بناه الجابري للكثير من معاول النقد والهدم، من دون طائل. فمع أن أبدع وأروع ما كتبه الجابري قد يكون مقدمة كتابه “نحن والتراث”، لم تسلم لا تلك المقدمة ولا الكتاب من سفه النقد المتحامل، ولا من خفة النقد المجامل. وحين أصدر “نقد العقل” ذهب البعض إلى أن تصنيفه الثلاثي للعقل العربي (البرهان والعرفان والبيان)، مستمد ولو جزئياً من “الرسالة القشيرية” من دون الإشارة إلى ذلك، مع أن الجابري لم يكن أصلاً قد قرأها. كما انتقده مثقفون مغاربة كثر، من منطلقات مختلفة، مثل بنسالم حميش في كتابه “معهم حيث هم”، وكمال عبد اللطيف الذي اتهمه بالتوفيقية أو تبني العقل التوافقي. ووصف طه عبد الرحمن قراءته للتراث بأنها “تجزيئية وليست تكاملية”، لأن قراءة “الجابري وغيره من المثقفين المتحزبين يغلب عليها الاستعجال النضالي”، وكذلك إدريس هاني في كتابه “محنة التراث الآخر”.. وقائمة منتقدي الجابري المغاربة طويلة! أما خارج المغرب فمنتقدو الجابري أكثر من أن يحصوا وإن كان من أشهرهم المفكران اللبنانيان جورج طرابيشي في كتابه “نقد نقد العقل العربي”، وكذا علي حرب الذي انتقد استخدام كلمة “العقل العربي” من الأساس مفضلاً عليها كلمة “الفكر العربي”، على اعتبار أن العقل الإنساني مشترك وواحد، وإن تعددت صوره.. الخ.
وحتى أكون منصفاً مع الطالب صاحب السؤال “المتحذلق” الذي ذكرناه في البداية ربما يتعين أن أذكر أيضاً سؤالاً آخر من النوع ذاته طرحتُه قبل سنتين تقريباً في محاضرة مشتركة ألقاها المرحوم الجابري، مع مفكر عربي آخر، في قاعة ابن ماجد بالمجمع الثقافي في أبوظبي، حيث طرحتُ سؤالاً مؤداه: متى يتخلص المشتغلون العرب بالدرس الفلسفي من “عقدة ساعي البريد”، فيتخلون عن الاكتفاء بموضة ترجمة آخر المفاهيم والنظريات الغربية المعقدة والتسابق للترويج لها في المشهد الفكري والثقافي العربي؟ متى يبدعون هم نظريات فلسفية عربية جديدة، بعيداً عن النظريات الغربية؟ وكان مكمن الحرج ـ غير المقصود ـ في هذا السؤال أن معظم أعمال المفكر الآخر، الجالس بجنب الجابري، هي أساساً ترجمات لنظريات غربية، بحيث يمكن وصفه بأنه مفكر ـ مترجم، إن جاز التعبير! وقد تولى المرحوم الجابري الرد بعبارات راقية تعتذر عن السؤال، بكيفية يضيق فيها اللفظ ويتسع المعنى.
وعلى ذكر تعريب الفلسفة يتميز الجابري أيضاً، بين نظرائه المغاربيين خاصة، بأنه ربما يكون الوحيد الذي “يفكر باللغة العربية”، إن صح التعبير، فقد ظل النص العربي دائماً هو المتن في أعماله، وظل النص الغربي دائماً هامشاً، على عكس غلبة الثقافة الفرانكوفونية ـ الناطقة بالعربية أحياناً ـ على أعمال واهتمامات وطرائق تفكير معظم المثقفين المغاربيين الآخرين. كما ختم الجابري أعماله مسكاً أيضاً بإنجاز قراءة في القرآن الكريم، انتقدها كثيرون، مثل المفكر العراقي طه جابر العلواني واللبناني رضوان السيد، ولكن يحسب له فيها، على كل حال، شرف المقصد وفضل التجديد وأجر الاجتهاد، بل الأجران معاً، إذا حُمل الحديث الشريف المشهور على تأويل القاضي العنبري الذي يرى أن كل مجتهد مصيب.