يوم «شق الصدر»
أيام عاشها محمد صلى الله عليه وسلم، فيها المفرح السار، والمؤلم الضار، فيها وميض الأمل، وآفاق الرجاء، فسجل بها مواقف أضفت على هذه الأيام خصوصية، وأعطتها ذكرا خالدا في حياته وحياة الأمة الإسلامية.
يذكر الدكتور، أمين ساعاتي في كتابه «أحمد صلى الله عليه وسلم.. رؤية سياسية معاصرة» أن محمد - صلى الله عليه وسلم- فتح عينيه في هذه الدنيا، فلم يجد أباه الى جانبه يرعاه، وأقبلت الأم على صغيرها ترضعه، لكن لبن «آمنة» جف بعد أيام. فدفعت به إلى«ثويبة»جارية عمه أبى لهب، وكانت قد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبدالمطلب، وقد بدأت برضاعة محمد - صلى الله عليه وسلم- ولكنها أحجمت فيما بعد عن رضاعته. وتوضح الدكتورة، عائشة عبد الرحمن في كتابها «أم النبي»، أنه شاع بين أشراف قريش ألا ترضع نساؤهن أطفالهن، وكانوا يدفعونهم إلى المراضع اللواتي يقدمن من البادية إلى مكة لالتماس الرضعاء، ورغبة في تنشئتهم أصحاء الأجساد، فُصحاء الألسن، وقد قال الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- « أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أنى من قريش واستُرضعت في بنى سعد». ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - فقيرا ويتيما لم تقبل به أي منهن إلا امرأة تدعى «حليمة» فقد قبلته وقالت: لم تهطل الأمطار في فصل الربيع من هذا العام، وقلت لزوجي إننا لا نملك شيئا يقيم أودنا، فلننزل مكة، ونحضر طفلا إلى مضاربنا، عسى أن نرزق من أبيه شيئا. ووافق زوجي، قدمت مكة في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء، راكبة على حمار، وشارفة (ناقة مسنة) كانت أذمت بالركب أي: حبستهم لضعفها وانقطاع سيرها، ومعى زوجي وابن لنا لا ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما يجد في ثديي ما يغنيه، لا في شارفنا ما يغذيه. فقدمنا مكة، فوالله، ما علمتُ منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد - صلى الله عليه وسلم- فإذا قيل يتيم، تركناه وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه؟ إنما نرجو المعروف من أب الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صويحباتي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العُزى: والله، إني لأكره أن أرجع من بين صوحباتي ليس معي رضيع فسوف آخذه - فقد عرض النبي محمد صلى الله عليه وسلم على المراضع فلم تقبل إحداهن أن تأخذه – فقال لها زوجها لا عليك. فذهبت فأخذته، فما هو إلا أن أخذته، فجئتُ به رحلي، فأقبل على ثديي بما شاء من لبن، وشرب أخوه حتى روى، ولما أقبل زوجي على الشارف وجده حافلا أي: ممتلئة باللبن فحلبها وسقى حليمة وشرب، فبتنا بخير ليلة، وعلى طريق العودة كانت أتان حليمة الضعيفة في مقدمة الركب نشطة. ولم تخف حليمة هذه المعجزات على زوجها فقال لها: يا حليمة والله إني لأراك أخذت نسمة مباركة. ويذكر د. أحمس حسن صبحي في كتابه «المبعوثون إلى الأرض - قصص الأنبياء عليهم السلام» إن حليمة عندما أمرتها السيدة آمنة بنت وهب أن تحمل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لتأخذه معها إلى البادية أحست أن صدرها قد علا وامتلأ ثدياها في اللحظة التي ضمته فيها إلى صدرها، وعندما عرضت ثديها عليه التقمه حتى روى، ثم عرضت ثديها الآخر فأباه، وكأنه ألهم أنه له شريك ما ينبغي له ألا ينتقص من نصيبه شيء. إنه مبارك من فاطر الأرض والسماوات، وقد بعثه إلى الناس كافة، ليفيض عليهم بالبركات، ويملأ ديارهم بالخيرات. وعادت المراضع من مكة إلى ديارهن، وكل منهن بحوزتها الرضيع الذي قسمه الله لها، وكانت الشيماء بنت حليمة في استقبال أهلها، وما ان رأت أخاها الجديد حتى أحست بأنها تعرفه منذ زمن بعيد، ووقع حبه في قلبها. ومرت الأيام سراعا حتى اكتملت السنتان، وهى مدة الرضاع، شب خلالها -صلى الله عليه وسلم - لا يشبه غيره من الغلمان، ففطمته حليمة، لتعود به إلى أمه السيدة آمنة بمكة. ودخلت حليمة على السيدة آمنة ومعها ابنها محمد صلى الله عليه وسلم فكاد قلب آمنة يطير من السرور، فضمته إلى صدرها، وراحت تملأ عينيها من نور طلعته البهية، ثم سمعت حليمة تقول لها على استحياء: لو تركت بُنيي عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة. وكادت حليمة تطير فرحا حين أذنت لها آمنة برده معها. واستمر مع حليمة حتى أصبح عمره خمس سنوات وشهرا. يقول الكاتب محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد»، وفى هذه الفترة وقبل أن يبلغ الثالثة تقع الرواية التي يقصونها من أنه خرج مع أخيه عبد الله في الرضاعة وابن حليمة يرتعان ويلعبان خلف البيوت، ولم يغيبا إلا قليلاً، إذ عاد أخوه الطفل السعديّ يعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأضجعاه فشقا صدره وأخرجا قلبه. ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها» فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعاً وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنى؟ فأكد لنا ما قاله ابني وأضاف: أنهما أخرجا من صدره شيئا فطرحاه، ثم غلا صدره وقلبه بثلج في طست من ذهب، ثم أعادا قلبه على مكانه. وتقول السيدة «حليمة» فخشينا عليه من الشيطان، فأردنا أن نعيده لأمه وهو سليم فأسرعنا به على أمه مما آثار دهشتها، فقد كنا حريصين على استبقائه معنا من قبل، فلما ألحت علينا لمعرفة ما حدث أصدقناها القول فأجابتنا قائلة: «والله لن يمسه الشيطان ولا سلطان له عليه، ثم قالت والله حينما حملت به رأيت في المنام أن نورا قد خرج منى فأضاء كفور بصرى بالشام، وما رأيت حملاً أخف من هذا الحمل .. وحين ولدت وقع على الأرض، ووضع يديه على الأرض، ورفع رأسه للسماء، وإن لابني هذا لشأناً». ويضيف فضيلة الشيخ صفى الرحمن المباركفوري في كتابه «الرحيق المختوم» أن إخوته - صلى الله عليه وسلم - في الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذاقة أو جذامة بنت الحارث وهي «الشيماء»، وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمه حمزة بن عبد المطلب. ولم ينس الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم شق فيه صدره، ولم ينس«حليمة السعدية» التي سهرت وضحت من أجله وخافت عليه أكثر من ابنها.
•ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة