«هو ذا إذن القائم على نظافة شارعنا..!». هكذا وجدتني أتمتم حين وقعت عليه عيناي وأنا أرقب الشارع من نافذتي في الطابق الخامس. يرتدي زياً لماعاً و كأنه رائد فضاء. يعصم رأسه بمنديل. يتحرك بنشاط وهو مدرع بمكنسة ذات عصا طويلة في اليد اليمنى. وباليد الأخرى أداة تشبه المغرفة ولها عصا بطول المكنسة حيث يتلقف بها ما تراكمه المكنسة من أوساخ ثم يرمي به فيما يشبه سلة قمامة ضخمة إلا أنها بعجلات متحركة. خطواته العجلى على أرض الرصيف ترسم علامة الأبدية، إنفينيتي، أو الرقم ثمانية بالإنجليزية. حين ألقى آخر كومة من الأوساخ في سلته، انحنى عليها و كأنه يبحث عن شيء ما... ثم عادت يده ممسكة بشيء.. قنينة ربما؟! يرفعها بإحدى يديه و يميل برأسه للوراء ليسكب ماءها في فمه. تقليم سقط منهكاً من الكتابة. أخذ يفكر في فترة استراحته. ما هذا الهراء الذي جعلني اكتبه؟! سوف أشطب تلك الجمل المضللة وأخط الحقيقة. أخبر الجميع أن الأوضاع لن تتغير، و أن تلك الأسماء التي جعلني أُزيح عنها الأوحال لتبدو نظيفة، إنما هي من خطّط لوصول الأمور إلى هذا النحو من التردي. سوف... سوف... غير أن ضغطة من قبضة الصحفي على وسطه قلبته رأساً على عقب ليصبح رأسه بمواجهة الصفحة البيضاء، ويخط: «وقد أعلن المسؤولون تأكيدهم احتواء الأزمة». فراغ رمق العلبة وقد توزعت ثلاث كعكات في قعرها. أغمض عينيه ليتواصل مع جسده، فأحس بمعدته منتفخة لفرط ما حشاها بالكعك. فتح عينيه و زفر بطريقة من يشحذ همته لعمل ما ليس هنالك بد من عمله. ثم هجم على العلبة يفرغها من الكعكات، و يلقفها في فمه واحدة تلو الأخرى. عبَّ جرعة ماء. مسح فمه بطرف كمه، وابتسم حين خطر له كيف سيخيب أمل الفرّاش و هو يلقي بالعلبة الفارغة في القمامة. تــأبين شعرت بعنق الخادمة يشرئب من خلف كتفها وهي واقفة أمام الخزانة الضخمة، و قد شُرعت أبوابها عن كمٍّ هائل من الثياب. «لم أشاهد ثياباً كهذه في حياتي يا سيدتي. لا بد أن المرحومة كانت أنيقة جدا. كم انت محظوظة». لاح في طرف الخزانة ثوب وردي. كذاك الذي كانت ترتديه والدتها يوم اندفعت وهي طفلة بشوق إلى حضنها فتسببت في تلويثه ببقعة شاي. هل كانت تلك آخر مرة تحضنها فيها؟ صمتت لبرهة قبل أن تقول: «ماريا... حضري الشاي». شقاوة ضغطت قدمه بكل غضب على الدواسة، وانطلق في إثر السيارة الحمراء وهو يلوح بقبضته في الهواء، و يكز على أسنانه: «سأريك يا ابن الكلب!». دارت السيارة الحمراء حول نفسها دورتين حين صدمها بكل قوة. تعالت الصيحات... لكن ما أن استقرت السيارة الحمراء حتى اندفعت نحوه بسرعة. والشرر يتطاير من عيني سائقها. وخلال ثوانٍ تراجع للخلف، ثم انطلق إلى اليمين، فقط ليتحاشى الاصطدام بها بأعجوبة. أدار رأسه لينظر إلى الخلف حيث سائق السيارة الحمراء ضحك بشماتة ثم بصق. انطلق الجرس معلناً نهاية دورة اللعب هذه في سيارات الصدام. مبتسمة.. تقدمت والدته نحو عربته وسحبته من ذراعه متمتمة: «يالك من طفل شقي!!». كل سنة مرة حين اتخذت مكانها بمواجهة موظف شركة التأمين. لم تستطع منع نفسها من التحديق في ملامحه. وجه مألوف لإنسان غريب تلتقيه مرة سنويا، منذ أربعة أعوام. غريب كيف استطاعت نسيان ملامحه بقية العام لدرجة أنه لو طلب منها وصفه لما استطاعت. أما الآن فوجهه يبدو مألوفا جداً حتى أنها تكاد تلتقط كل تغيير اعتراه منذ رأته قبل سنة على هذا المكتب. لابد أن العام المنصرم كان قاسيا عليه، فقد شاخ فيه كما لم يشخ في الأعوام الثلاثة التي عرفته فيها مجتمعة. وضع سماعة الهاتف ونظر إليها مبتسماً وقال: ها نحن نراك بعد عام. كيف الحال سيدتي؟ كادت أن تخبره بأنه أسوأ أعوام حياتها. كيف انفصلت عن زوجها، وفقدت وظيفتها. وبأن والدها يحتضر. لكنها بادلته الابتسامة و اكتفت بالقول: أنا بخير و الحمد لله. انتظــــار عندما كنت صغيرة.. كنت أشفق على إصبعي الخنصر. و أمضي الساعات الطوال أتأمله محاولة معرفة إذا ما ازداد طوله عن الأمس. كان يكبر كبقية أصابعي. إلا انه لا يطاولها أبدا! وعلى الرغم من ذلك، فقد كنت على يقين بأنها مسألة وقت لا أكثر. و عندما كبرت.. أدركت أن إصبعي الخنصر محظوظ جداً، لأنه من الرائع أن تظل الأصغر، ومن الشجاعة ألاّ تكبر! * قاصة إماراتية