درويش بن كرم.. رجل من الزمن الصعب
خليل عيلبوني
عندما انتقلت من وزارة الإعلام إلى وزارة البترول في عام 1975 انتقلت في الوقت نفسه من السكن الذي كنت أشغله في شارع خليفة إلى عمارة درويش بن كرم في شارع حمدان. كان السكن أوسع وكانت الشقة التي خصصت لي تقع في سطح العمارة (روف) حيث الغرف تطل على مساحات واسعة تصلح أن تكون فيها جلسات في الهواء الطلق.
ما أثارني منذ اليوم الأول الذي أقمت فيه في ذلك السكن هو اسم صاحب العمارة درويش بن كرم، فدرويش بن كرم رحمه الله كان أستاذا لعدد كبير من أبناء أبوظبي ومنهم معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة، وكنت أستمع كثيرا لإطراءات على هذا الرجل تدل على الدور العلمي الذي قام به في زمن خلا من المدارس ولا مجال فيه لأي تحصيل علمي لذلك الجيل الذي عاش في ذلك الزمن قبل تسلم المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لمقاليد الحكم في البلاد عام 1966.
كنت أرغب في لقاء الرجل والتحدث إليه والعيش من خلال كلماته في ذلك الزمن الذي كان فيه درويش بن كرم هو المدرسة الوحيدة في البلاد.
مفاجأة
الصدفة وحدها هي التي حققت ذلك اللقاء. فقد احتجت إلى بعض الإصلاحات فاتصلت بالمسؤول عن الصيانة في دائرة الإسكان، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى وجدت رجلا جليلا يفيض النور في وجهه يقف على باب الشقة ويطلب أن يرى الخراب الذي يحتاج إلى الإصلاح. قلت: فضيلة الشيخ درويش بن كرم؟ قال: نعم أنا هو. لم تسعفني الكلمات بالترحيب بالشيخ الجليل ولكنني أصريت قبل التحدث عن أي شيء على استقباله في المجلس وتقديم واجبات الضيافة. قال الرجل وهو يتكرم علي بقبول الضيافة: عرفتك، أنت تعمل مع مانع. قلت: وهو تلميذكم. قال: ونعم التلميذ النجيب. طال الحديث بيني وبين درويش بن كرم وكنت لا أريده أن ينتهي، حتى إنني كدت أنسى موضوع إصلاح الشقة، أو لم يعد مهما بالنسبة لي بعد أن حضر الرجل بنفسه إلى بيتي، ولكنه أصر أن يراه وأن يأمر بإصلاحه. لم يكن الرجل بحاجة أن يحضر بنفسه. كان بإمكانه أن يأمر أي عامل في قسم الصيانة لديه أن يذهب ويعاين ويصلح، ولكنه الحرص على سمعة عمارته هو الذي جعله يقوم بنفسه بمعاينة الخلل وإصلاحه في وقت قصير. هكذا كان رجال أبوظبي العظام، يتحلون بتواضع الكبار ولا يتكبرون عن القيام بأي عمل ما دام العمل شريفاً. عشت خمس سنوات في تلك العمارة الرائعة والتي لم أتركها إلا بعد أن تقرر هدمها وبناء بناية عصرية مكانها تضم سوقاً بالإضافة إلى الشقق والمكاتب. في تلك السنوات الخمس توطدت العلاقة بيني وبين المرحوم درويش بن كرم والذي وجدت فيه عالماً باللغة العربية وفقيهاً في الدين، وله كتابات رائعة أطلعني على بعضها وأتمنى من الله أن تكون تلك الأعمال محفوظة لدى أولاده الكرام، وأن ترى هذه الأعمال النور قريباً فهي ليست ملكاً لعائلته وحدها، بل ملك جيل نهل من معين علمه وجيل يتوق إلى معرفة أولئك الرجال الذين كانوا كواكب مضيئة في ليل شديد الظلام.
«بن كرم» بحق
وبالإضافة إلى علمه وأدبه. كان درويش بن كرم كريما حقاً، ولقد لمست ذلك شخصياً. لأنه عندما جاء وعاين الخلل الذي في الشقة وكان لا يزيد عن سقوط قطعة من الغطاء الاسمنتي (البلاستر) من سقف المطبخ، ولا يتطلب الإصلاح أكثر من عامل يقوم بوضع بعض الإسمنت مكان القطعة الساقطة ثم صبغها بعد ذلك، ولكنه قرر إصلاحاً جذرياً للخلل، فقام بتعرية الطبقة البلاسترية كلها من المطبخ ومن أماكن أخرى ظهرت فيها انتفاخات في السقف، وأعاد تغطيتها بالإسمنت وبشكل ممتاز مع صباغة كاملة للشقة، ومن المؤكد أن تكلفة ذلك الإصلاح فاق أجرة سنتين للشقة على الأقل ولكنه لم يكن يهتم بالتكلفة قدر اهتمامه بسمعة بنايته. قلت له: يا شيخنا الجليل، ما الداعي إلى تلك المصروفات ما دمتم ستقومون بعد سنوات قليلة بهدم البناية كلها. قال «رحمه الله»: طالما هناك ساكن واحد في العمارة فيجب أن تظل عمارة صالحة لا عيب فيها. استمتعت بالسكن في عمارة درويش بن كرم خمسة أعوام كاملة كانت من أجمل أعوام العمر بالنسبة لي، واستمتعت بصحبة الشيخ الجليل الذي كان زاهداً بالدنيا ولا يهتم بالمناصب ولا حتى بالظهور، وكانت سعادته الدائمة في رؤية العمران ينتشر في أبوظبي والخير يعم على الجميع وكفى ما تذوقه هو وجيله من حرمان قبل ظهور النفط في إمارة أبوظبي. كان دائم الابتسام والرضا حتى اليوم الأخير من حياته، ولا أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تسجيل لقاء إذاعي معه، ولكن عزائي أنه ما كان يمكن أن يقبل بذلك، فهو لا يحب الظهور وهو متواضع إلى درجة إنكار الذات وإسدال الستار على الدور الذي قام به في شبابه. كان الرجل تاريخاً يحتاج إلى التدوين، فلا تسأله عن حادثة أو عن شيخ من شيوخ أبوظبي إلا وأفاض في الحديث عنها أو عنه حتى تظن أن دوريش بن كرم كان حاضرا في تلك الحادثة أو مرافقا لذلك الشيخ. ومع ذلك كان يميل إلى الصمت، ويبتعد عن الكلام ما أمكن إلا مع صفوة من الناس يعرفهم ويعرفونه جيدا.
رجال وتاريخ
أعتقد أنه حان الوقت لتقوم في دولة الإمارات كلها حركة بحث ودراسة عن رجال كان لهم دور في تاريخ هذه الدولة وكانت لهم إضاءات في حلكة ليلها ومواقف مشرفة في أيامها الصعبة. وهو ما بدأته ألمسه بالفعل من خلال قيام بعض شباب هذا الجيل بعمل دراسات وأبحاث عن بعض هذه المشاعل التي أنارت الدرب، وتركت بصمات لا تمحى في سجل تاريخ الإمارات. وكل ما أتمناه أن تتولى جهة رسمية تشجيع هذه الحركة حتى لا تضيع أسماء كانت في زمن البدايات ساطعة ومنيرة. أجمل ما لدى هذه الدولة، دولة الإمارات العربية المتحدة شيوخاً وشعباً هو الوفاء. ولقد لمست هذا الوفاء طوال تسعة وثلاثين عاما، ولا يجيد الوفاء إلا من أحب، والحب كان دائما جسر التواصل بين القيادة والشعب، ولذلك كان الاستقرار. وفي ظل هذا الاستقرار، تم إنجاز دولة حضارية متقدمة في سنوات قليلة. ومع هذا التقدم الحضاري المذهل ظلت الدولة الجديدة مرتبطة بالجذور، فهي جاهزة لعصر العولمة ولكن بروح الإمارات التي هي روح الأجيال كلها من بدء التاريخ حتى نهاية الكون. ووفاء لدوريش بن كرم، الأستاذ المعلم، لا بد من تقديم عمل يحفظ تاريخ هذا الرجل لأنه في الوقت نفسه جزء من تاريخ الإمارات. اليوم، عندما أسير في شارع الشيخ حمدان، وأصل إلى مكان عمارة درويش بن كرم التي قام مكانها مشروع عمراني كبير يتضمن كما أشرت في البداية سوقا تجارية (مول) وبنايات للشقق السكنية والمكاتب، لا أستطيع إلا أن أترحم على الراحل الكبير وأنا أراه يطل بوجهه الذي يفيض منه النور مبتسماً، وأسمعه يرحب بي على عادته قائلا:
أهلا أبا جهاد، هـذا من فضل ربي.
رحم الله درويش بن كرم وأسكنه فسيح جناته.