سعيد ناشيد

يبدو تاريخ الفلسفة أحياناً كأنه مجرد محاولات متتالية لإزالة سوء الفهم الذي يتعرض له الفلاسفة في مجرى التاريخ وإكراهاته. لعلها مهمة لا تكتمل طالما لا يوجد تأويل أصلي يمكن بلوغه باطمئنان. إذ ثمة سوء فهم جذري يُحدثه الاندفاع الغريزي للعقل نحو التصنيف، والتبويب، والاختزال، وإصدار الأحكام، وكل ما من شأنه أن يعجل بـ«الحقيقة»، ويجعلها جاهزة للحفظ والترديد والتلقين، تبعاً لما تمليه آمال العصر ومخاوفه.
مثال أول، تعرضت «مُثُل» أفلاطون في سياق العصر الوسيط لتأويل جعلها تبدو كأنها كائنات مفارقة تقطن في عوالم الغيب، وجعل جمهورية أفلاطون تبدو كأنها مدينة مشيدة في السموات العلا، هذا في الوقت الذي كانت فيه جمهورية أفلاطون تمثل بكل تفاصيلها الإدارية والقانونية والمؤسساتية مشروعاً إصلاحياً واقعياً لدولة توجد على الأرض، وضمن سياق الحضارة اليونانية ومعطياتها.
مثال ثانٍ، تعرضت «لذة» أبيقور بدورها إلى تشويه في اتجاه آخر هذه المرة، بحيث أصبحت رديفة للانحلال والمجون. هذا في الوقت الذي كانت فيه تعاليم أبيقور تدعو إلى الاستمتاع بالحياة البسيطة وسحر الطبيعة، باكتفاء وتوازن واعتدال.
مثال ثالث ـ وهذا ما يهمنا الآن ـ لقد تعرض مبدأ «السيادة على الطبيعة» لدى ديكارت (خطاب المنهج) لتأويل مجحف في سياق العصر ما بعد الصناعي، وتبعاً لإكراهات الخطاب البيئي، فأصبحت العقلانية الديكارتية رديفة للصرامة الحسابية، وعنف التقنية، وللعقل الأداتي المتّهم بإنتاج الشموليات وتدمير البيئة، غير أن العقل الديكارتي كان يتضمن منذ البداية عناصر الخيال والحدس أيضاً (قواعد لتوجيه الفكر ـ القاعدة 12)، وكان يعني في الغالب «النور الطبيعي» (محاورة ديكارت)، ثم إن السيادة الديكارتية على الطبيعة تعني بالأولى سيادة الإنسان على ذاته، على انفعالاته، وعلى طبيعته هو بالذات (انفعالات النفس –المقالة 212).
فأين هذا من تهمة العقل الأداتي؟!

انفعالات النفس
في آخر فقرة من «انفعالات النفس» كتب ديكارت بلغة بليغة يقول: «نستطيع أن نقول إن الأشخاص الذين تستطيع الانفعالات أن تحركهم وتؤثر فيهم أكثر من غيرهم، هم القادرون على تذوق أكبر قدر من العذوبة والتمتع بهذه الحياة. والحق أيضاً أنهم يستطيعون أن يجدوا بسبب الانفعالات أكبر قدر من المرارة حين لا يعرفون كيف يستخدمونها جيداً، ويعاكسهم الحظ. غير أن الحكمة تنفع أساساً في هذه النقطة بالذات، فهي تعلم المرء أن يصبح سيد انفعالاته، وبأن يتحكم فيها بمهارة فائقة تجعل المساوئ والشرور التي تتسبب فيها محتملة جداً، بل إن المرء ليستخلص من هذه الشرور كلها الفرح».
بهذا الكلام المبهج ختم ديكارت آخر كتاب نشره أثناء حياته «انفعالات النفس». وهو كلام نستنتج منه تفصيلياً ما يلي:
1- لا يمكن تجريد العقل عن الانفعالات، بل تظل الانفعالات ضرورية لأجل التفكير الجيد والحياة الجيدة، ولا يمكن الاستغناء عنها كيفما كان نوعها ومنبعها.
2- ليست هناك انفعالات جيدة وأخرى سيئة، هناك فقط استعمال جيد للانفعالات مقابل استعمال سيئ لها.
3- العامل الأساسي لشقاء الإنسان ليس وجود انفعالات «سيئة» من قبيل الحزن والغضب مثلاً، وإنما هو الاستعمال السيئ لهذه الانفعالات، بمعنى توجيهها نحو خلق رغبات سيئة، طالما يرى ديكارت أن الرغبات انعكاس للانفعالات.
4- المطلوب من الإنسان أن يتعلم كيف يوجه انفعالاته توجيهاً صحيحاً. كأن يوجه الموسيقار مثلاً حزنه نحو الإبداع الموسيقي، أو يوجه الرياضي غضبه نحو التفوق الرياضي، وما إلى ذلك.
5- دور الحكمة أن تساعد الإنسان لكي يصبح سيد انفعالاته، ومن تم يصبح سيد نفسه.
6- الغاية الأسمى للعقلانية الديكارتية هي تحقيق الشعور بالبهجة والسكينة والفرح.
فأين نحن من ذلك «العقل الأداتي التقني الحسابي» الذي وُسم به ديكارت من طرف الكثيرين؟! المؤكد أن ديكارت يحاول أن يعيد إلى الفلسفة وظيفتها الأكثر نبلاً وأصالة: تنمية القدرة على الحياة.
بهذا الخصوص بوسعنا أن نتصور أربع حصص ديكارتية لترويض الروح:

الحصة الأولى:
الداء: القابلية للانخداع.
العوامل: الاستعمال السيئ للعقل.
الأعراض: انتشار الخرافات والأحكام الخاطئة والأوهام.
التحليل: إذا كان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فليس المهم إذن أن يكون لدينا عقل جيد، بل المهم أن نستعمله بشكل جيد (خطاب في المنهج). فوحده الاستعمال الجيد للعقل يصنع الفارق. إن سوء استعمال العقل لهو العامل الأساسي في انتشار الأوهام والخرافات، طالما حين نترك العقل على سجيته بلا قواعد ولا منهج، فإنه يميل بطبعه إلى الوهم والخطأ والخرافة. غير أن الأوهام والأخطاء والخرافات بقدر ما تخدع الإنسان وتكبله، فإنها تحرمه من صفاء الذهن وراحة البال.
الإجراءات: يجب العمل على تنمية القدرة على توجيه العقل بدل تركه على سجيته، وذلك بإخضاعه لقواعد توجيهية واضحة تتضمن إعمال الشك، والتمحيص، والتروي، والتجزيء، والبداهة، والوضوح، وكل ما من شأنه أن يحقق صفاء الذهن وراحة البال. صفاء الذهن يضمنه تحرير العقل من كل الأحكام المسبقة، ضمن ما يسمى بالعقل النقدي؛ وراحة البال يضمنها توجيه الانفعالات وتنظيم الرغبات، ضمن ما يسمى بالحكمة العملية. تنبع قابلية العقل للوقوع في الخطأ من ثلاثة مصادر:
-المصدر الأول هو الطابع المتسرع للرغبة في المعرفة، حيث إن الرغبة في المعرفة قد تكون مندفعة بما يكفي لتعيق نفسها بنفسها حسب ديكارت. لذلك يجب التعامل مع الرغبة في المعرفة باعتبارها رغبة قبل كل شيء، بحيث يجب تنظيمها لأجل التحكم فيها كما يتم تنظيم سائر الرغبات.
-المصدر الثاني هو الأحكام المسبقة التي يرثها الفرد من المجتمع، وتجهض سيرورة المعرفة. على أن القاعدة الأساسية للتعامل مع الأحكام هي إخضاعها للشك، ما يعني افتراض كونها خاطئة إلى أن يثبت العكس، والقيام بهذه العملية على الأقل مرة واحدة في الحياة، إذ يحسن القيام بها مراراً (تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى – التأمل الأول). علماً بأن أحد مصادر الشقاء هو الأحكام الخاطئة التي تستبد بالذهن، والتي قد لا تتعلق فقط بوجود كائنات خرافية تخيفنا أو تقض مضاجعنا ويحسن التخلص منها عن طريق الشك، وإنما تتعلق بالقدرة على الحياة. مثلاً، حين أحكم على المرض أو الشيخوخة أو التقاعد أو الطلاق بأنها أمور سيئة، سأشعر بالشقاء حين أمرض أو أشيخ أو أتقاعد أو أطلق. إلا أن تأويلاً مختلفاً قد يحول تلك الأمور إلى فرصة لحياة أكثر هدوء أو إبداعاً. إن الشك في الأحكام هنا ليس مجرد منهج معرفي بل أسلوب حياة أيضاً.
-المصدر الثالث هو إغراء الغموض، حيث إن الغموض يغري في العادة بوجود سر سحري لا يدركه إلا المحظوظون. لذلك يلح ديكارت على ضرورة التمرن على احترام مبدأ الوضوح.

الحصة الثانية:
الداء: فوضى الأفكار.
العوامل: سوء تنظيم الأفكار.
الأعراض: ضعف القدرة على القيام بالعمليات الأساسية للتفكير، من قبيل الشك، والفحص، والتحليل، والاستدلال، والاستنتاج، والاستنباط، إلخ.
التحليل: حين يتفادى المرء الأسئلة، أو يستعجل الأجوبة، أو يتمسك بالمسلمات وآراء الآخرين، أو يحاول البدء بحل القضايا الأكثر تعقيداً، وعموماً حين يخل بأهم القواعد (قواعد في توجيه الفكر)، فهذا يؤدي إلى فقدان السيطرة على الأفكار، والعجز من ثم عن التفكير. حين يعجز المرء عن تنظيم أفكاره يصبح فريسة للأفكار السيئة والأحكام الخاطئة، والتي تُسبب للإنسان انفلاتاً في الانفعالات، ومن ثم انفلاتاً في الرغبات أيضاً، وصولاً إلى اضطراب الروح.
الإجراءات: يجب العمل على تنمية القدرة على تنظيم الأفكار، بحيث يتم تنظيم الأفكار عن طريق التأمل الهادئ باعتباره تمريناً روحياً يومياً، وعن طريق الحدس النقدي، والتروي والتبصر والمهارة، دون استعجال النتائج، مع تقسيم كل الصعوبات إلى أجزاء بدءاً بالجزء الأسهل وتدرجاً نحو الأصعب، مع فحص كل البداهات التي تستكين إليها نفوسنا، وإخضاعها لاختبار الشك مهما بدت يقينية، بل لا سيما إن بدت كذلك.
يتحقق العلاج الديكارتي عبر أسلوب «إفراغ سلة التفاح». المقصود به أننا حين نشك في وجود تفاحة فاسدة واحدة قد تفسد سائر التفاح الموجود في السلة، فإننا نلجأ إلى إفراغ السلة بالكامل قبل أن نعيد كل تفاحة على حدة بعد فحصها والتأكد من سلامتها. ما يعني أننا يجب أن نفرغ عقولنا من كل الأفكار والأحكام المسبقة، ثم لا نقبل بعد ذلك بإعادة أي فكرة إلا بعد فحصها فحصاً متأنياً ودقيقاً، وهو ما يمنح للذهن صفاءه وللبال راحته.

الحصة الثالثة:
الداء: طغيان الانفعالات.
العوامل: الاستعمال السيئ للانفعالات.
الأعراض: التعاسة والشقاء.
التحليل: لا وجود لانفعالات جيدة وأخرى سيئة، هناك فقط استعمال جيد أو سيئ للانفعالات (انفعالات النفس، المقالة 211). إن سوء استعمال الانفعالات ليؤدي إلى فقدان السيطرة على الانفعالات، ومن ثم ينشأ الشعور بالعجز عن التفكير وعن الحياة أيضاً.
الإجراءات: يجب العمل على تنمية القدرة على توجيه الانفعالات، بحيث يتم توجيه الانفعالات عن طريق الحكمة، طالما الحكيم من يحكم نفسه. يقول ديكارت في المقالة 211 من (انفعالات النفس): «الذي أعتقد أن بوسعي أن أضعه هنا بوصفه العلاج الأعم والأسهل للممارسة ضد كل إفراط للانفعالات هو أنه حين نحس بأن الدم انفعل علينا أن نكون حذرين منتبهين، وأن نتذكر بأن كل ما يمثل أمام المخيلة يميل على خداع النفس وإلى أن يظهر أمامها الأسباب التي تستخدم في الإقناع بموضوع انفعالها أقوى بكثير مما هي في الواقع، والأسباب التي تستخدم في ثنيها عن هذا الموضوع أضعف بكثير مما هي في الواقع. وحين لا يقنعنا الانفعال إلا بأشياء يحتمل تنفيذها بعض التأخير فعلينا أن نمتنع عن إصدار أي حكم عليها، وعلينا أن نستبدل أفكارنا بأفكار أخرى إلى أن يستطيع الزمن والراحة تهدئة التأثر الحاصل في الدم تهدئة تامة». بقي أن نعرف بأن ديكارت جعل لهذه المقالة عنواناً معبراً: العلاج العام للانفعالات.

الحصة الرابعة:
الداء: انفلات الرغبات.
العوامل: عدم القدرة على تنظيم الرغبات.
الأعراض: اضطراب الروح.
التحليل: حين يفقد المرء السيطرة على رغباته، فإنه سرعان ما يرغب في الأشياء التي لا تتوقف عليه (المقالة 146)، فينشأ من تم الشعور بالعجز والأسى والشقاء.
الإجراءات: يجب العمل على تنمية القدرة على تنظيم الرغبات، بحيث تخضع الرغبات للتنظيم المحكم، وذلك عبر الاستعانة بالحس الأخلاقي. فليست الفضيلة حسب ديكارت سوى القدرة على توجيه الرغبات نحو ما يمكن امتلاكه أو التحكم فيه. يقول في المقالة 146 من (انفعالات النفس): «لما كانت رغباتنا لا تتوقف كلها علينا ولا كلها على الغير، لذا كان علينا أن نميز فيها ما لا يتوقف إلا علينا كيلا تمتد رغباتنا إلا إلى هذه الأشياء وحدها (...) ومن المؤكد أننا حين ندرب أنفسنا بهذه الطريقة كي نميز بين القدر والحظ، فإننا نعتاد بسهولة أن نضبط رغباتنا بطريقة تجعلها تعطينا الرضا التام على الدوام، لا سيما وأن تحقيقها لا يتوقف إلا علينا». ثم يضيف في المقالة 148 من (انفعالات النفس): «من عاش دون أن يتلقى أي توبيخ من ضميره بسبب تخلفه عن عمل الأشياء التي يعتقد بأنها الأفضل، وهذا ما أسميه هنا اتباع الفضيلة، فإنه يتلقى في المقابل رضا على درجة من القوة تجعله سعيداً وتجعل أعنف جهود الانفعالات لا تملك ما يكفي من مقدرة لإزعاج هدوء نفسه».
بهذا المعنى تكون العقلانية الديكارتية في خدمة القدرة على الحياة، وتكون الأخلاق الديكارتية في خدمة الحق في السعادة، وتكون فلسفة ديكارت إجمالاً فلسفة للبهجة، والفرح، والسكينة.

تعلّم من ديكارت
ـ تنمية القدرة على توجيه العقل بدل تركه على سجيته
ـ العمل على تنمية القدرة على تنظيم الأفكار، عن طريق التأمل الهادئ باعتباره تمريناً روحياً يومياً
ـ العمل على تنمية القدرة على توجيه الانفعالات، عن طريق الحكمة
ـ العمل على تنمية القدرة على تنظيم الرغبات، وذلك عبر الاستعانة بالحس الأخلاقي