أسماء جزائري

هنالك كدمات للعنف الأسود تتركُ أثرها على أجسادنا ومدننا، لكن هنالك أيضاً كدمات أخرى للأبيض القاتم تترك أثرها في وجوهنا العابسة، وقوارب الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من شواطئنا، والإحباط المتسلسل وزوال ماهية «كرامة العيش»، وغيرها من الظواهر المتجلية. وقد حملَ الجزائريون لافتاتهم كعلامات تفضح ذلك الأبيض القاتم الذي نكل بالإرادة لصالح السلم ومن ثم قرروا بالسلم إعادة كتابة تلك البيانات التي مضت عشرون سنة على توقيعها.
حينما تُرمى أحلام الشعوب كاملة في الثلاجات فإنه عليك أن تتوقف فوراً عن توريط الشر في الابتذال، وحينما تذُوب عنهم تلكَ الأحكام الجامدة، ولا تعترض إن مسح الناس عنها غبش السِلم لتكتشف أنه من الحِكمة أن يتحول الصمت من حالته الجامدة إلى السائلة عبر التحرك، يقُول البعض إن الصمت الذي مارسه الشعب تحت آلة كبت تاريخية لن يولد منه إلا العُنف، لكن الحقيقة الواحدة التي يتصدرها المنطق أن الشعب الجزائري لم يكن صامتاً بل صابراً، وهذا الصبر ولّد انفجار الحكمة لا القنابل، وأن الصدور التي كانت تغلي اتضح أنها لا تفيض كإعلان على تلطيخ المكان بل هو غاية النضج القصوى، وأن السياق الذي جرّب لا يجرّب باحتقار خطورة التكرار بل باستحضار التجربة كرادع للانزلاق كلما اقتضت الضرورة.

آليات تاريخية
لكن هل علينا اتهام السلام أم امتهانه؟ هل تم استبعادنا بالسلام أم استعبادنا؟
ينحني رأس الأبيض القاتم للنصف ليوظّف آلته الهوائية حتى تُنتج انتصارات راكدة مبنية على المُساومة، وفي هذه المُساومة يُحافظ طرف على سقفه، طرف لا يملكُ أن يطوّر حقُوقه مادام قد نجا من المذابح، هي عملية إخماد للطموحات أكثر منها إخماداً للحُروب، فالسلام في شكله القاتم ما هو إلا عملية شد لوجه الثورة إلى أن يستفيق الناس يوماً على عودة التجاعيد ويظهر بذلكَ الواقع العاجز، وإن انتقال العنف من الأدوات المسلحة إلى عنف الإذلال وسلب الإرادة مقابل تكثيف الحُلول الحقيقية يسمح بنزول حلول مجهولة من سماء المجهول تثير الدهشة والرعب في الآن ذاته. في المحصلة هو ليس إلا استبدالٌ لحفر القبور الترابية بحفر القبور التطلعية، عملية نقل الموت من تحت الأرض إلى فوقها. ولأجل معرفة الخطورة يقُوم الإنسان بالممكن حتى يكيّف نفسه مع الواقع، ويُطالب بالمستحيل ليغيّر صفة الانتماء للعالم، لكنه عاجز أمام اللامتوقع الذي يُقابله بالانبهار والريبة، وما يحدث في أيامنا هذه هو استفاقة الأعين من الأبيض القاتِم ومحاولة فك ذلك الحِصار البسيكولوجي المزوّد بآليات تاريخية تحمي موقعك الجامد في ديناميكية مزيفة تقنعك بالتفوق على الآخر من حولك بالسلم، لكن تنسى أن الآخر يخوض حروباً جرّبتها قبله بعشرات السنين، وهذه الخدع السياسية توسّع دائرة العنف بسحب الثقة الذاتية وإرث «الكرامة» الذي بدأ ينهار كسقف فوق رؤوسنا لا ليقتلنا بل لنكتشف أنه مصنوع من دخان.
أين كان الناس منذ عشرين سنة؟ يسأل الذين انتظروا البنادق بدل الورود.
كانوا يتعلمون السماع من أعينهم والنظر من أياديهم، فحينما يخرج الإنسان من العتمة لا ينسى كيف يستخدِم عينيه بقدر ما ينسى كيف يتأقلم مع الوضُوح، ولا يستطيع مقاومة هجُوم الضوء بقدر ما يقرر غلق عينيه، وتعتبر تلك اللحظة قسوة على الرؤية، وتتساوى في ذلك العتمة بالضوء حيث يفقد الإنسان إمكانية فتح عينيه، وهو عمى مؤقت تُنتجه تلك الخيبة التي تقُوم على التعود، التعود على اختفاء الأشياء من نظرك رغم أنها أمامك، فالحرمان من الضوء بالعتمة هو نفسه الحرمان من الضوء بالضوء.
العشرون سنة التي تلت خُروج الشعب الجزائري من أزمة التسعينيات مرت في بدايتها بذلك الحرمان ومن تلك القسوة حيث تساوى فيها العنف المسلح بالعنف السياسي في إهدار دم الحرية والحقوق بدل الدم تحت مظلة السلام، تلتها ممارسة التعوّد ثم ممارسة الفهم في اللاوعي ومن بعدها إدراك ماهية الأبيض القاتِم القائمة على التنازل في تلك المساومة التاريخية. وحين يعرّف السلم اصطلاحاً على أنه لغة ضد الحرب فإنه يؤسس لطوباوية بيضاء شمولية لا تستطيع تفكيك اللون من رمزه القائِم، إذ يمتد الأبيض من الأبيض القاتِم إلى الأبيض الناصع ومن ثم يترادف في مجال ما له مفهوم السلم بالحرب الذي يكتفي بتغيير أدواته. فما الذي يعنيه هذا السلام الذي تحتفظُ فيه بروحك مقابل السماح بانتهاك حقوقك؟ إنه مجرد مرحلة من مراحل التنازع، وقد عرّفه توماس هوبز في نظرية العقد الاجتماعي بأنه الغاية التي عقد من أجلها تأسيس الدولة، وخضع البشر فتخلوا عن حقوقِهم الطبيعية طواعية بمُقتضى عقد تم بينهم لصالح السُلطة العليا، لها عليهم سيادة في مُقابل حصُولهم على الأمن والاستقرار، فيكون السلم في هذه الحالة مرادفا لنظام وحده كفيل بتحقيق التعايش بين البشر.

علاقة فاسدة
هل نسميه سلاما ذلك الذي نحرسه بأسلحة فتاكة؟
يعاني العالم في علاقاته من الأبيض القاتِم مادام يحرسه بأسلحة نووية، فغياب الحُروب العالمية لا يوثّق انتهاءها أو حتى توقفها، وهذا لا يعني أن علاقة مواطنيه ببلدانهم لا تعيش ذلك السلام الناصع نوعاً ما، لأنها متحرّرة من الخوف في تلك العلاقة.
في الجزائر جرت عملية تبادل المواقع بين الطرفين، وهي عملية فرض الحواجز باستخدام آليات تجعل الآخر يقدم خطوة للوراء فيما يتقدم الآخر بخطوة إلى الأمام مع الحذر الدائم من صناعة وهم التقدم والانتصار. وكانت السلمية التي نادى بها الشعب منذ اليوم الأول عبارة عن سلاح تمرّن عليه لمدة عشرين سنة، وفهم كيف يستخدمه ومتى وأين، فالسلطة وهي تضعُ طموحاتها على إرادتهم كانت تدرّبهم لامتهان السلام كيفما اتفق، وبهذا غيّر الخوف مواقعه واستعاد الشعب رمزية الحديث عن الوطن التاريخ، وليس تاريخ الوطن، لينتصر لثقافة الحياة على ثقافة الموت، ما جعل الكذب يتفكك في الساحات العامة بصفته انتماء سياسياً لا أخلاقياً يمارس قصد تزييف الوقائع، وتغيير المعطيات، مما يفقد الثقة بين السياسي والمواطن، فيخلق جواً من التوجس وعدم الطمأنينة واللا استقرار النفسي والاجتماعي للمُجتمع، ويترتب عليه أعمال العنف وفقدان السلم، وتضبط حنة أرندت مفهوم الكذب بقولها: «الكذب علاقة فاسدة بين القول والحقيقة، وعلاقة فاسدة بين القول والفكر، والكذب تغليط قصدي وقول تخيلي»، واستطاع الشعب أن يمارس مكانته الدستورية بنجاح.
في قلب المُظاهرات حملت فتاة جزائرية لافتة مكتوبٌ عليها «ثورة الابتسامة»، معلنة عن عهد جديد وموجة أخرى ستقُود بها الجزائر مظهراً مخالفاً للصور الجنائزية المُتصدرة المخيال الغربي إذا ما تعلق الأمر بدول الشرق. قد يبدو الاسم شاعرياً كما علّق عليه الكثيرون، لكن رمزيته الحقيقية سياسية أكثر منها شاعرية، الابتسامة شعور بالسعادة والشعور بالسعادة وسط مظاهرات سياسية هو شعُور سياسي بالحرية. لم يتوقف الأمر على اللافتة تلك بل موجات كثيرة في تجليها حملت ذلك الطابع: توزيع الورود، وآليات الفكاهة السياسية، والمسرحيات السياسية، وراقصة الباليه، وغيرها.. ما ضمن لنا رؤية حقيقة الحرية تسير على أقدامها. فبعد أن تجاوز الشعب ايتيقيا الصفح التي اشترطتها حنة أرندت كآلية لتجاوز العُنف بغية إحراز نقطة أمامية حقيقية: «الصفح في الجزائر عن طريق الوئام المدني»، أي مقابلة الشر بالمغفرة الأرضية في دراستها تفاهة الشر، ها هو يستعيد اليوم المجال المُشترك المفترس من قبل الشمولية ويفكك حالة الاغتراب والانفصام بين الناس، ويُنهي أمر اللاتواصل واللاتجاوز الذي اخترق البنية السياسية والاجتماعية للمجتمع، وعادت السعادة السياسية لتتجلى في الشوارع مثل رصاصة بيضاء أصابت الوجوه المتجهمة بالسلام القاتم، ففتحت الشوارع للنصاعة ليتجلى منها الرفض الرحيم الذي يشعرُ معه الإنسان بحلول عهد فك الحصار بالمحاصرة.

العنف والسلم
لقد حل عصر الأبيض الناصع نوعاً ما، فبعد أن شلّت الحياة السياسية الديمقراطية إثر إعلان حالة الطوارئ في التسعينيات، سُحبت الساحات العامة من تحت أقدام الشعب من باب الحيطة والحذر، ومعها سُحبت كذلك تلك العلاقة بالآخر بعد منتصف الليل، حيث يُصبح الحق تعدياً على عملية حفظ السلم، والأفراد يتحوّلون في المخيال العام في الظلام إلى جريمة وشيكة. وحينما ينتقل الإنسان من حالة إعلان الطوارئ إلى الحياة الطبيعية يكون قد فقد تماماً عاداته القديمة باكتساب عاداته الجديدة وينسى بعدها كيف يستعيدُ تلك الشوارع من جديد، لا لأنها لم تعُد فعلياً بل لأنها بسيكولوجياً لم تعد شوارعه، فالشرق الجزائري ما زال يذهب إلى النوم باكراً لأنه مازال يحمل الذاكرة الرمزية للعنف التي لا تكتفي بسلب القدرة على الفعل بل تعمل على سلب التفكير، وتشكيل مسلّمات زائفة بهدف إدامة الهيمنة، مثلما شخّص الوضع بيير بوردو. وللخلاص يشترط بوردو تفكيك العنف الرمزي للقضاء على الجزء الأصيل، ومع تغيّر الأجيال والابتعاد قليلاً عن التسعينيات بدأت هذه المطارق بكسر تلك الحالة البسيكولوجية لا لأنها الأقوى بل لأنها لا تعرف عن تلك الحقبة سوى الحكايات التي تُسرد عليها، وبهذا تكون متحررة تماماً من تلك المصحة الخاضع سكانها للتجربة ويذوب معها الجانب الصلب.
لكن هل يُحافظ العنف على قُدرته على السيطرة دائماً؟
سنة 1980 قال عالم التاريخ الإيطالي الشهير (ميله): «لحسن الحظ لا يُنجب عالمنا أولئك الذين يدقون طُبول الحرب ويحرقُون لها البُخور فقط، بل إنه يُنجب أيضًا الذين يفكرُون في السلم والذين يؤسسون لفلسفة السلم فهم لا يخترعُون مفهوم السلام فقط بل يضعوُنه في موضع التنفيذ». وفي الدراسات الأخيرة للثورات السلمية أظهرت تراجعاً واضحاً لتلك التي تعتمد على وسائل قمعية، فمن بين خمس ثورات عنيفة تنجح واحدة، في حين تنجح أربع ثورات من بين خمس إذا كانت سلمية. وفي كتاب «لماذا تنجح المقاومة المجتمعية؟» « why civil resistance works » للكاتبين Maria J. Stephan & Erica Chenoweth يتطرقان فيه إلى خلاصة تقول: إنه في المجمل العام فإن حركات المقاومة اللاعنيفة أكثر قدرة على الحُصول على مكاسب ونتائج وبمجرد نجاحها فإنها الأقدر على تأسيس نظام ديمقراطي سليم مع احتمالية أقل لنشوء حروب أهلية». ويستندُ الكتاب في نتائجه على إحصائية تم من خلالها دراسة الحركات التغييرية منذ عام 1900 حتى عام 2006 سواء كان منهجها التغيير العنيف أو اللاعنيف بإجمالي عدد 323 حركة مقاومة صادرة من اللاعنف معهد NAVACO المتخصص في دراسة حركات التغيير ليصل إلى نتائج مفادها بأن حملات التغيير اللاعنيفة نجحت في تحقيق أهدافها الكلية أو الجزئية مرتين ضعف الحملات العنيفة، ومن ثم فإن مقاومة العنف سواء عن طريق ردعه في الذات أو محاصرته كدخيل على السلمية هو حماية للإرادة الجماعية، حيث ينتقل العنف فيها من مفهوم حماية الصالح العام بالقوة إلى الخارج عن القانون، ويتخلى الشعب كمظلوم عن فكرة الانتقام الخشن وهذا ما ظهرت عليه مجموعة «السترات البرتقالية» في الجزائر وهم شباب جندوا أنفسهم لحماية السلمية من أي عنف أو احتكاك.

السعادة والحرية
أول مظاهر الحرية السياسية تبدأ في استرجاع الإنسان ساحاته العامة، عبر التظاهر وتحرير التجمعات المحظورة، وتعتبر حنة آرندت أن السعادة تكمن في حق المواطن بالدخول إلى الميدان العام، وفي حقه من السلطة العامة بأن يكون مشاركاً في إدارة شؤونها، وكما أن الحرية هي جوهر السعادة، وفي هذا تقول آرندت في كتابها «في الثورة»: «إن حقيقة السعادة إنما اختيرت للمطالبة بقسط من السلطة العامة، وأن البشر عرفوا أنهم لا يمكنهم أن يكونوا سُعداء تماماً إذا كانت سعادتهم إنما تقع ويستمتعوا بها فقط في الحياة الخاصة».

الحرب البلوبونيزية
في الحرب البلوبونيزية 460 ق. م بين الإثينيين والاسبارطيين كانت اسبارطا تتبع النظام العسكري، أما أثينا فتتبعُ النظام الديمقراطي والحرية، وفي النهاية انهزمت الحرية والديموقراطية على يد القوة العسكرية، ويرى السفسطائيون أن أساس بناء أثينا يعود في الأصل إلى القوة دون سواها، فسقوطها على يد الاسبرطيين دليلٌ على أن العنف والقوة بمثابة الركيزة الأساسية التي تعتمدُ عليها أثينا مستقبلاً. ونتذكر حينما عُرض أفلاطون للبيع في سُوق النخاسة، لأنه أراد أن يغيّر من حكم ديونيزيوس بإتباع الفضائل والعدل.