عزالدين بوركة

ولد ماكس آرنست Max Ernst سنة 1891 في مدينة برول Brühl قرب مدينة كولونيا بألمانية، وتوفي سنة 1976 بباريس (فرنسا). التحق بجامعة بون ما بين عامي 1909 و1911 لدراسة الفلسفة وعلم النفس، وقد كان مهتما في تلك الفترة بأعمال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، الذي ستربط بينهما علاقة صداقة قوية لكن سرعان ما ستتوتر، وفضلاً عن ذلك فقد اهتم بأعمال كل من شيريكو Chirico وأغوست ماكي A. Macke، كما كان يبدي ميلا كبيرا إلى التوجه التعبيري الذي انتهجه الرسامون الشباب الألمان آنذاك. وهو التوجه الذي سيؤثر في التيار الدادائي، الذي انتمى إليه آرنست لاحقاً.
سيتعرف آرنست سنة 1914 بالتحديد على الفنان هانس آرب H.Arp الذي سيصير بعد ثلاث سنوات أحد الأسماء الثلاثة المؤسسة لجماعة زيوريخ. ومن ثم بعد الحرب العالمية الأولى، سيؤسس ماكس رفقة بارجيلد Baargeld جماعة كولونيا الدادئية، وسيتكلف بمعية آرب بنشر مجلة Dis Shammade. إلا أنه سنة 1922 سيختار الرحيل إلى باريس، هناك سيتعرف على مؤسسي التيار السوريالي ليصبح أحد أعلامه ومشاهيره. ما سيجعله، بفضل كونه شاعرا، يربط صلات وصداقات قوية مع بروتون، صاحب البيان السوريالي الشهير، وإلوار وأراغون وسوبول وديسنوس وبنجامين بيري وكريفل وغيرهم... وقد خلد آرنست لهذه العلاقة المتينة في أحد أعماله سنة 1922. لهذا يعد آرنست شاعراً مصوراً استطاع تطويع أحلامه عبر اللغة واللون والرسم.

المبتكر والحالم
بفضل الطريقة التي ابتكرها وأوجدها في رسم لوحاته، سيغدو ماكس آرنست أشهر فنان سوريالي في جماعته، وأحد شعرائها المشهورين والمرموقين. فالتلقائية في الكتابة، والتي تعد أمراً مطلوباً في كتابة الشعر، نجد لها مرادفاً في عملية الحك (فروتاج) التي انتهجها تقنية وأسلوباً: الرصاص المحكوك فوق الورق، ما ينتج نوعاً من الخطوط «الخشبية» وعروق الأوراق الأشجار. ويمكن تخيّل الفروتاج كصورة بالأشعة السينية التي تظهر بوضوح الأسطح البارزة - من طريق هذه التقنية تختفي المعاني الواقعية للأشياء وتظهر داخل تنظيم بصري سوريالي - ومن أشهر هذه الأعمال «التاريخ الطبيعي». ما يخلق آثارا متكاملة تعطي العمل الفني نوعا من السحرية والغرائبية، مقترحاً مناظر وحيوانات غريبة وعجيبة.
قدم ماكس آرنست للسريالية – مع أندريه ماسون ــ دفعاً جديداً وأسهم في تحديد مسارها العام. إذ إلى جانب ابتكار تقنية الفروتاج استعان هذا الفنان أيضا في أعماله بتقنية الكولاج (الإلصاق)، وهي التقنية التي استعملها التكعيبيون لإعطاء قيمة لشيء تشكيلي خالص، إلا أن آرنست استعان بصور بيانية من كتب متنوعة وقصص المغامرات، وروايات العشق وكتب تقنية وعناصر ملقاة في الشوارع من مزق وغيرها... وكانت هذه المقاربة البصرية تتخذ من التهكم والإيضاح أسلوبا لها. وذلك في مضمون فانتاستيكي سردي، وغالبا ما يكون مرعباً ومثيراً للأحاسيس ومحركا للعواطف. كل هذا نتاج لأعمال تصويرية لا تبحث عن المباشرة والتبسيط. مثل عمله «الجوهرتان المتماثلتان» (1926). وذلك في تقارب مع ما يعرف به بروتون السوريالية بكونها «تقوم على الإيمان بواقع أعلى لبعض أشكال التوارد التي كانت مهملة قبلها. وعلى الإيمان بسلطة الحلم المطلقة وباللعب المجرد للفكر».

الكاووس* الخلاق
يجعل آرنست لعمله الفني غاية محددة، تكمن في انتاج نوع من الفوضى المنطقية لدى المتلقي ليجعل منه منخرطا في الإغواء الغريب والعجائبي. إذ عبر احتكاك الرصاص بالورق وعبر عمله على مواضيع طبيعية سريالية يبدع هذا الفنان نوعا من الكاووس النابع من تلك الأشكال غير المسبوقة، والذي يحضر باعتباره ملخصا للتطور الكوسمولوجي: كائنات عجائبية، نباتات محاطة بالحشرات الضخمة، أجساد بشرية وحيوانية ظلية (سيلويت) وحوش عملاقة... أبدع ماكس هذه الصور والأشكال بكل حرية وتلقائية، وذلك تبعا لمتطلبات لوحته. ما يضع المتلقي أمام اندهاش تجاه العالم السوريالي الذي يبدعه الفنان، طارحا أسئلة تتعلق بالحاضر والمستقبل البشري، خاصة إنسان ما بعد الحرب التي فتكت بالملايين ودمرت العمران والإنسان. إنه عالم غريب يبدعه لكنه يكاد يشبه العالم الناتج عن الحرب، التي تنتج الكاووس وما علينا إلا إدراكه والتعامل معه من أجل تجديد بنية العالم والتفكير البشري تجاه الحياة. فهدف الفن كما آمن السورياليون ليس إرضاء العين بل «تقديم خطوة جديد في مجال معرفتنا المجردة». لهذا لم يختر آرنست المباشرة في الرسم والتعبير، واختار أن يربك المتلقي ويضعه إزاء الحيرة والسؤال، ونجده يقول: «إن الفن الرديء هو الفن الذي تفهمه من أول وهلة... والذي تدرك مدلوله مباشرة».

إعادة تشكيل العالم
يعتبر ماكس آرنست أحد المبدعين في الفن التصويري بالمعنى الحديث moderne للكلمة، وأحد الفنانين الذي أتقنوا استعمال تقنية الكولاج وطوروها من خلال توسيع ممارساته الفنية وتحويلها إلى مفاهيم. فعبر الكولاج يعيد ماكس كتابة قصائده تصويرا، ويُرَكّبُ تعابيره السريالية بمزق يرتبها بعناية فوق سطح القماشة.
استطاع ماكس آرنست أن يبدع بين عالم الشعر وعالم التصوير الصباغي وذلك ضمن تيار واحد. لم يزح قط عن السوريالية منذ أن انتهجها طريقا ليبدع أعماله وأشعاره. وقد سعى إلى إعادة تشكيل العالم من زاوية نظره الخاصة، ثائرا على كل الأعراف والتقاليد، وبالخصوص الرؤية القويمة الإقصائية التي دفعت به لاختيار المنفى في الولايات المتحدة. بعد ملاحقة الشرطة السرية الألمانية له وسجنه لبضعة شهور، استطاع الهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1941 ليؤسس هناك مع أندريه بروتون ومارسيل دوشان قاعدة للحركة السوريالية، حيث أصدرت المجموعة مجلة تهتم بنشر أسس ونظريات الحركة، وبهذا يكون مركز ثقل النشاط السريالي قد انتقل من باريس إلى نيويورك. فانتقل بالتالي وجه العالم صوب قبلة الفن الجديدة. وكأن هذا الحدث يعد نوعا آخر من إعادة تشكيل العالم الذي انخرط فيه ماكس، بطريقة من الطرق.

أراد ماكس آرنست تمثيل التهديد النازي الذي سيفتك بأوروبا ويترك خلفه الويلات في العالم بأسره، وقد جسده عبر هذا المخلوق الذي يزرع العنف والموت. وقد سعى أيضا إلى رسم أعمال فنية خلال الحرب الأهلية، تمثل العنف الفاشي الذي يسعى إلى فرض نفسه في البلاد. إذ في عام 1937، قتل الفاشيين الآلاف من الناس، المعارضين أو المدنيين البسطاء، كما هو الحال في مدينة غيرنيكا. شكلت أعماله في تلك الفترة إدانة لهذه الهمجية، كما فعل صديقه بيكاسو في لوحته الشهيرة التي تحمل اسم المدينة تلك. يُظهر آرنست المخلوق وهو يؤدي رقصة مروعة، وهو يبتسم، كما لو كان يستمتع بالدمار. ولا يبدو أن هناك ما يمنعه. ربما يمثل الحيوان الصغير المعسكر المعارض ويلتزم ببسالة بالاحتفاظ بأعمال التدمير. لقد حاول أن يثور ضد الوضع القائم عبر أعمال تصويرية تخلد الدمار والخراب الذي أنتجه كل من النازيين والفاشيين.

الكولاج رتق للصدع
إذن فماكس آرنست هو أحد أهم أعلام التوجه السريالي، وأكثر الفنانين ابتكارا فيه، بل إنه من بين الذين مزجوا بين الشعر والرسم للتعبير عن رؤاهم تجاه العالم والذات البشرية، وقد اعتمد لمعالجة رؤاه وأحلامه على تقنية الكولاج بشكل فريد من نوعه، إذ في أعمال الكولاج أفصح آرنست عن دلالات واضحة من خلال الاهتمام بعناوين الأعمال والأشكال التي تكرّر ظهورها. وقد يظنّ الرائي أنه يسهل عليه التعرّف إلى مغزى تسلسل سريالي للأحداث، لكن الرائي الذي يحاول فهم السبب الظاهري تفصيلياً، فإن هذه الأعمال تستحيل إلى ألغاز لا يمكن حلّها، ومن الأفضل رؤيتها بمعزل عن بعضها البعض أو كأعمال منفصلة. وآرنست نفسه يعتبر أعماله في التصوير ليست بتلك الأهمية، في الوقت الذي تُعتبر أعماله الجرافيكية من أهمّ ما أنتج. بعد عام 1919 انشغل آرنست بأعمال «الكولاج»، وفي بداية 1930 ظهرت أول أعمال الكولاج مثل «المرأة بمئة رأس» (1929) و«حلم فتاة صغيرة» (1930) و«أسبوع في بونت» (1934) التي حققت شهرة كبيرة.
وبالتالي فأبرز التقنيات التي اعتمدها آرنست هي الكولاج الذي لم تكن الغاية منه التوصل إلى صنع عمل فني انطلاقا من أشياء لا قيمة لها، فهذه الأشياء التي تتكون منها اللوحة هي بمثابة مسوغ خارجي كان الفنان بحاجة إليه كي يثير لديه ردود فعل قادرة على تحويل ملامح العالم المرئي. لهذا يعرف آرنست الكولاج كمفهوم وليس كتقنية، قائلا: «إذ كانت الريشة هي التي تصور، فليس الغراء هو الذي يصنع الكولاج». فعلى عكس الكولاج التكعيبي القائم على «الدافع الجمالي والمعماري»، فالكولاج السوريالي، حسب قوله يعد «شكلاً جديداً من أشكال الفن الصادم والمفاجئ»، وهو وسيلة لالتقاط صور العالم وإضفاء عليها شكلا وصورة شعرية وحُلمية.
وإن لم تكن الدلالة واضحة تماما، كما يخبرنا الباحث محمود أمهز، إلا أنها توقظ من خلال التواردات التي تولدها ردود فعل اللاوعي، وتبعث على التخيّل. وهو ما عبر عنه الفنان عندما قال: «إن تقنية الكولاج (الإلصاق) هي الاستثمار المنهجي للعلاقة المولدة من المصادفة، أو التي يثيرها اصطناعيا تجاوز واقعين أو أكثر من واقعين غريبين عن بعضهما البعض في وجودهما».
لذلك لا يتطور الكولاج كعملية تصوير فحسب، بل يصبح أيضا موضوعاً للتفكير والتأمل، بل حتى التفكير في الوسط الشعري الذي يستلهم منه آرنست أعماله، من حيث أن اللوحة عنده هي «عملية شعرية»، بتعبير لويس أراغون.

رفائيل القرن العشرين
خلال الحرب العالمية الثانية، هرب ماكس آرنست من أوروبا وذهب إلى نيويورك. ليواصل فنه مع مارك شاغال ومارسيل دوشان، حيث ساهم في ولادة التعبيرية التجريدية. مع ذلك، عاد إلى فرنسا في الخمسينيات، إلا عندما حصل على جائزة في بينالي البندقية، استُبعد من حركة السرياليين. غير أنه ظل يعتبر نفسه فنانا سورياليا بكل امتياز. فقد ارتحل بين التعابير الفنية والتيارات التصويرية الحديثة، تاركا إبداعات بصمت على مسار كبير غيَّر التفكير في العمل الفني، إذ إنه استطاع أن يزيح اللوحة عن اعتبارها وسيلة تصويرية إلى اعتبارها وسيلة التفكير، بل إنها هي عينها تفكر، لهذا وصفه أحد النقاد بكونه «رفائيل القرن العشرين». لكونه إلى جانب الشعر والتصوير الصباغي أبدع، أيضا، في تصوير العالم والحلم نحتا، وتعود أعمال آرنست في النحت إِلى ما بين عامي 1916-1919، ومنها منحوتة بعنوان «ثمرة تجربة طويلة»، نفذها بتجميع عناصر خشبية وحديدية مطلية بالألوان.

الأدب والفن
وقد مزج آرنست في الغالب بين الرسم والأدب من خلال كتابة تعليقات وجمل مرافقة لأعماله، فتصير هذه التعابير جزء من لغز العمل الفني، وكسرا للحدود بين الأدب والرسم. ويضع المتلقي ازاء تناقض بين التعبيرين الأدبي والبصري، ما يشكل جسرا بين الحلم والواقع، إنه نوع من فتحة في الحاجز للدخول في صلب اللوحة. أي الدخول في الوهم بالتعبير النيتشوي. إذ أن الفنانين السورياليين يعبرون الخط الفاصل بين الوعي والحلم، الفنتازيا أو الوهم، فإن رؤيتهم عادة ما تكون شاذة وارتحال تام عن العقلانية. فما أراده مؤسسو هذه الحركة، على رأسهم آرنست وبروتون، لم يكن أسلوباً فنياً محدداً فحسب، أو شكلاً وتقنية، بل كان تياراً فكرياً تجلى بصورة شتى في مجالي الأدب والفن، وسلوكاً أو طريقة خاصة في التفكير والشعور والحياة.

نيويورك.. قاعدة السوريالية
سعى آرنست إلى إعادة تشكيل العالم من زاوية نظره الخاصة ثائرا على كل الأعراف والتقاليد وبالخصوص الرؤية القومية الإقصائية التي دفعت به لاختيار المنفى في الولايات المتحدة. وبعد ملاحقة الشرطة السرية الألمانية له وسجنه لبضعة شهور، استطاع الهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1941 ليؤسس هناك مع أندريه بروتون ومارسيل دوشان قاعدة للحركة السوريالية حيث أصدرت المجموعة مجلة تهتم بنشر أسس ونظريات الحركة، وبهذا يكون مركز ثقل النشاط السوريالي قد انتقل من باريس إلى نيويورك. فانتقل بالتالي وجه العالم صوب قبلة الفن الجديدة. وكأن هذا الحدث يعد نوعا آخر من إعادة تشكيل العالم الذي انخرط فيه ماكس، بطريقة من الطرق.

............................................
* نظرية «الكاووس» أو «الفوضى» من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية، وتترجم أحيانا بنظرية العماء، التي تتعامل مع موضوع الجمل المتحركة اللاخطية