1
تطوان 1653
وصية أبي الأخيرة كانت أن يدفن في كوينكا. من حيث طردنا أحياءً أراد أن يعود ميتًا. وكما أنها وصية، والوصية دَين، قمت بالمغامرة. (كم مغامرة أخرى كان ينبغي أن نقوم بها وتقاعسنا؟ كم مرة عجزنا عن نجدة الأحياء لإرضاء الموتى!). الحيلة كانت أن يخرج تابوت أبي مع تجارة بحرية. لم أفكر كثيرًا في أي عقاب يمكن أن يقع على تاجر يهرّب ميتًا؟ (هل حدث من قبل أن اضطر أحد إلى أن يخفي ميتًا؟ هل حدث من قبل أن هاجر ميت ليستريح في أرض أخرى؟ ما الفرق بين أن تُدفن رفاتك هنا أو هناك؟)
لم أعرف إن كان مرسوم التهجير يشمل كذلك طرد الموتى أم يخص الأحياء وحدهم. بقلق رافقت التاجر كمساعد. كحارس سرِّي لجسد فارق الحياة. لم يكن الأمر، على ما يبدو، أكثر من عبور مضيق، ومن الضفة الأخرى سيكون الانتقال بالعربات، شاقًا. هذا ما يبدو للعيان. لكن الأكثر مشقة الانتقال بجثة أبيك. أن تسير بجثة أبيك يعني أن تسير بتاريخ أسلافك، أن تجر مستقبلك كماضٍ. حَمْل جثة أبي لخّص معنى الغروب مع نسمات الصبح الأولى. لخّص الذهاب والإياب في لحظة. وجثة أبي لم تكن محض جثة. كانت، دون مجاز، تجسيدًا لمصير ينتظرني على بعد أشبار، أو مصير أقرب إليّ من حبل الوريد.
في المركب، وسط البضائع المتراصة في صناديق ضخمة، كان تابوت أبي منكمشًا بحياء، كتابوت ارتكب معصية. وفيما كان البحارة ومساعدوهم يتسامرون، كنت أجلس وحيدًا بجوار أبي، ومن آن لآخر يبعث لي التاجر نظرة مواساة. في لحظة انتبهت إلى أن الصندوق الذي يعانق أبي عناقه الأخير نموذج مصغر من الصناديق الأخرى. غير أن نوع البضاعة يختلف. ظهرت أمي في الأفق، بنفس النظرة التي ودّعتنا بها، أشارت بيدها سلامًا واختفت. فيما كانت كارمن، صغيرة كما كانت، تدلدل قدميها وتهدهدهما من فوق سحابة عابرة.
في الطريق البرية لم يتوقف المطر. اختار الحوذي، لسوء الطالع أو حسنه، أن يسير في نفس مسار التهجير. احتفظت عيناي، كذكرى أبدية، بالمرتفعات المكسوة بالأخضر، بالشوارع المشيدة فوق التلال، بأبواب البيوت المقوسة. تأملت الجوامع وقد استحالت كنائس، والأهّلة صلبان. مع ذلك كان عبقنا يملأ الهواء. كانت بصماتنا تعلو البنايات. الرائحة والبصمة. رائحة أبي وبصمة محمد دي مولينا. رائحة أمي الممزوجة برائحة أبي. وبصمة دي مولينا المنصهرة في بصمة عائلة إرنانديث. رائحة وبصمة الأندلسيين. لحظات عابرة ومقيمة، شجرة جذورها في الأرض محجوبة، وفروعها يابسة، وأوراقها صفراء.
فكرت في مانويل وخوانا وكارمن، وعلى غفلة مني هربت دمعة. أبي الآن كان في صندوق ينتظر مأواه الأخير. وأنا وإخوتي بقينا في صناديق أخرى. استرحنا في قادش. استرحنا في مالقة. استرحنا في غرناطة. شربنا بعض الماء أمام قصر الحمراء. القصر في تبّته العالية أطل علينا. وأنا في السفح لويت رقبتي للأمام لأتأمل جدرانه. بدا لي مثل عجوز متصابٍ. بدا لي كرجل يرتدي ثياب النساء ليتخفّى. ثم وصلنا لـ خآين. وفي خآين صرخ الحوذي: «الحصانان يسيران على هواهما». صرخ الحوذي: «الحصانان لا يستجيبان لي». كنت أرى انحراف الحصانين وأتأمله. رغبة الحوذي في السيطرة عليهما لم تزدهما إلا عنادًا. أن تمسك بالزمام لا يعني تحكمك في الأرواح. كلما أرخيت الزمام كلما زادت سلطتك، قلت للحوذي: «اتبع هوى الحصانين». ثم سألته: «لو اتبعنا رغبتهما، إلى أين سنصل؟» «إلى حصن التراب يا سيدي، إلى حصن التراب». أومأت برأسي وأشرت بيدي بالموافقة. أدركت ولو بريب أن قلوبنا متصلة بقلوب الحيوانات. هي تعرف أكثر منا لمّا يتعلق الأمر بالغيب.
هل استجبت لرغبة الجوادين أم لرغبتي الغائرة كندبة قديمة؟ أم طلبًا للعون؟ للعون أم للسلوى؟ هل كان يعوزني في تلك اللحظة شيء أكثر من طبطبة يد قريبة؟ يد تجري في عروقها دمي؟ خآين هي جيان في اسمها العربي، وجيان مفترق طرق القوافل. وجيان كانت مفترق طرق لنا.
تلقف الحوذي أمري كظمآن. ظننت أن السبب قرب المسافة وسرعة الراحة. غير أن الحوذي فاجأني بأنه من حصن التراب. وصف لي القرية كأنني أعرفها، وعلى خبب الجوادَين غنّى لي أغنيات قروية ظنًا أنني أعرفها. لم يعرف الحوذي أن في الصندوق ميتا. ولم يعرف أن الميت تطرب جوانحه لسماع تلك الأغنيات.
2
تطوان 1653

من العربة تطلعت إلى أطلال قلعة أندلسية بجوارها قلعة أخرى شيدها فرناندو الثالث، ثم ظهرت كاتدرائية في طور التشييد. قال الحوذي إنهم يشيدونها منذ مئة عام ولم ينتهوا بعد. في شوارع أعرفها، مررنا بحمّامات عربية أشار إليها الرجل الخمسيني بسؤال: «حمّام عربي، هل زرته من قبل؟» كان الرجل إسبانيًا يتحدث الإسبانية، وأنا، هل يمكن أن أقول له إني أندلسي؟ ألا يمكن أن يكون هو أيضًا أندلسيًا مثلي؟ أندلسيًا لا يعرف تاريخ أجداده أو يتجاهله؟ كنا نتكلم بنفس اللغة، بنفس الإيماءات، وكنا نحمل نفس الملامح. إلا أن أحدنا بقى والآخر طُرِد.
في الطريق المرتفعة المؤدية لحصن التراب، اضطررت للهبوط من العربة. بقلب يخشى سقوط التابوت رغم تأمينه بحبال، سرت بالخلف ساندًا جثة أبي بكلتا يديّ. ورغم أن الخشب كان حائلًا بيننا، إلا أن قلبه كان ينبض تحت راحتي. التل المرتفع، المضني. جثة أبي. قطرات المطر التي صارت جزءًا من المنظر. البيوت الصغيرة المرتفعة، وحقول الزيتون الممتدة في الأفق بشكل أبدي. كل ذلك كان يمثّل سنوات طويلة مضت، سنوات طويلة آتية. وأنا، رغم ضعفي وقلة حيلتي، في المنتصف منها. أنظر إليها كمن يعلم أن ما مضى هو ما سوف يأتي، أن ما سوف يأتي ليس إلا تكرارًا للماضي. المستقبل هو التاريخ، والتاريخ هو المستقبل. وأنا أرى الواقع مرتين، مرة في الحقيقة، ومرة في المرآة.
باتباع رغبة الحصانين، وصلنا إلى ساحة في حصن التراب. هناك توقفت العربة تحت ظلال شجرة ظل هائلة. شجرة تبدو بقِدَم القرية. لمّا ترجلت واقتربت من جذورها انتبهت لحروف عربية. لما دققت النظر في الحروف المحفورة قرأت «دي مولينا للأبد». قاطع الحوذي شرودي بكسرة خبز محشوة بالجبن. سألني إن كنت أعرف اللغة العربية. «نعم». حينئذ أشار بيده إلى بنايات من طابقين، قال «هنا تسكن عائلة موريسكية». «عائلة دي مولينا؟» «نعم، هل تعرفها؟»
كانت السماء لا تزال تنزف قطرات المطر. أدركت حينئذ أن الوقوف تحت الشجرة عواقبه أشد من مواجهة المطر. تحت الشجرة يأتينا الماء ملوثًا بالغبار المستكين فوق الأوراق. أطلّت من الشرفة الصغيرة صبية. أشار لها الحوذي بيده فاختفت. «هذه الصبية من عائلة دي مولينا»، قال مبتسمًا كمن حقق حلمًا لصديق قديم.
......................................
* مجتزأ من رواية «حصن التراب حكاية عائلة موريسكية»، صدرت مؤخرًا عن دار «العين» بالقاهرة.
........................................
(مصر)