تقديم وترجمة: أنطوان جوكي

كنا نظنّ أننا نعرف كل كتابات تلك التي رأى فيها رائد السورّيالية، أندريه بروتون، «المرأة الشاعرة» بامتياز، ونقصد المصرية جويس منصور (1928 ـ 1986). لكن ها هي الباحثة الفرنسية ماري لور ميسير، التي تنقّب منذ سنوات طويلة في أرشيف الشاعرة، تُخرِج لنا مجلداً يتضمّن نصوصاً لا أثر لها في «أعمالها الكاملة» التي صدرت عام 1991، علماً بأنها توازيها حجماً وقيمةً! نصوصٌ معظمها لم يُنشَر من قبل، بينما يشكّل الباقي كتابات منسية في مجلات وكتالوجات وكتب فنية.
متنوّعة وغنية، تمنحنا هذه النصوص، التي صدرت حديثاً عن دار «جان ميشال بلاس» الباريسية، مساراً موازياً ومثيراً للأعمال المعروفة. متنوّعة لأنها تمثّل جميع الأنواع الأدبية التي مارستها منصور خلال حياتها (شعراً، نثراً، مسرحاً، نقداً فنياً...)، وغنية لأنها تكشف أكثر من النصوص الأخرى تلك التجربة الحميمة والهشّة لكتابةٍ حقيقية، إلى جانب تشكيلها القالب أو المختبر الذي انبثقت وتبلورت فيه جميع العناصر التي غذّت عمل منصور الكتابي، وهو ما يُلزِمنا بقراءة جديدة له، بين شعر وفن.
وفعلاً، تركن منصور داخل نصّها متعطِّشةً للكلمات والعلامات القادرة على إيصال صراخها إلى أسماعنا. وفي هذا السياق، توكّد «أنا» خاصة، صوتاً فريداً تطبعه القسوة والرقة على حد سواء، محوِّلةً شِعرها إلى جسدٍ من لحمٍ ودمٍ، تداعبه تارةً وتعتدي عليه، تقطّعه أو تلتهمه تارةً أخرى. ويفرض هذا التلاحم المدهش مع نصّها، والمعقّد على أكثر من صعيد، نفسه لدى قراءة أعمالها الشعرية والمسرحية المعروفة وتلك التي كنّا نجهل وجودها. وإذ لم يُخطِئ قرّاء منصور الأوائل في مدح «عطر السحلبة السوداء، السوداء جداً» في قصائدها (بروتون)، أو في التحدّث عن «عنفها التحريضي» (أندريه بيار دو مانديارغ)، لكن هذه القراءات، على أهميتها، لم تفلت أحياناً من نظرة استشراقية تتجلى، على سبيل المثال، في وصف بروتون لها بـ«الطفلة الدرنيّة للحكاية الشرقية». وبالتالي، تبقى هذه القراءات ما دون مُنجَزها، كما تشير الباحثة إلى ذلك في البحث الذي وضعته حولها عام 2005 بعنوان «جويس منصور، آنسة غريبة»: «أعمالها صدمت وما زالت تصدم أولئك الذين يتكلّمون بسخرية مبطّنة وجائرة عن قصائدها المكتوبة بيد... بروتون».
وبجمعها وتقديمها اليوم نصوص منصور المجهولة، تسعى ميسير إلى إعادة الاعتبار إلى عملها الكتابي ككُلّ، بكل غناه وغموضه. فأكثر من مجرّد صديقة حميمة لبروتون بين عامَي 1956 و1966، أو من «المرأة الشاعرة»، أو من موحية للمجموعة السورّيالية الباريسية، منصور هي مسيرة كتابية فريدة من نوعها يسمح المجلّد الصادر حديثاً برؤية مراحلها وثمارها اللذيذة، بدءاً بعنوانه المعبِّر، «لوالب سائحة وتوازيات أخرى على شكل متاهة»، الذي ينبؤنا بالجانب الحيوي لعملها وبالخطوط التي يرسمها، على حدود المكتوب والمصوَّر. فاللوالب والتوازيات المتاهية هي فعلاً خطوط مفارِقة تمنح جسداً لنصوصها: «أتبع دوماً دربي/‏‏‏ الموازي/‏‏‏ لذلك الذي/‏‏‏ لا وجود/‏‏‏ له». ومن هذا المنطلق، يتبع ترتيب النصوص الذي اختارته الباحثة مساراً حرّاً، على صورة مسار شعر منصور. ترتيب معتوق من المعايير المعمول بها، يوفّر خريطة غير زمنية لشعرٍ يحضر كصرخة فريدة ومختلفة عن الشعر الجماعي الذي مورِس داخل المجموعة السورّيالية. ترتيب يعكس إرادة حميدة في تحرير أعمال منصور من القيود التي فُرِضت عليها، كي تستعيد مكانها الصحيح.
وإذ يشهد هذا الترتيب على قراءة متأنّية وحاذقة لأعمال منصور، وعلى انزلاق ناجح ومرهف تحت جلد الشاعرة، يأخذ الإسهام النقدي الضروري لهذه الأعمال شكل «ملاحظات عضوية» وضعتها ميسير في نهاية المجلد، وتوفّر لنا تحليلات ومقاربات ثمينة حول كتابة سورّيالية مذهلة. ملاحظات تستمدّ قيمةً إضافيةً من كون «الأعمال الكاملة» التي صدرت في مطلع التسعينيات مجرّدة من أي جهاز نقدي. وحولها، كتبت الباحثة في مقدّمتها: «اخترنا عدم توزيعها داخل المجلد وجمعها في نهايته كي لا نعيق تنفّس النصوص. فسواء انحرفتم يميناً أو يساراً داخله، يتربّص الوحش بكم، لأن كتابة منصور ما برحت تشكّل تهديداً للمنطق».
وبأمانة، تقرّ الباحثة بصعوبة مهمّة الإمساك بهذه الأعمال، نظراً إلى مقاومتها غالباً أي محاولة لأخذ مسافة ضرورية منها من أجل قراءتها، وتحرّكها الثابت الذي يجعلها تفلت جزئياً من أي خطاب نقدي. ولا شكّ في أن قوة هذا المجلد تكمن تحديداً في تسطيره ومرافقته هذه التحرّكات عبر جمعه ومنحه للقراءة نصوصاً شعرية أو مسرحية، إلى جانب تلك التي وضعتها منصور في الفنون التشكيلية. صديقة حميمة لفنانين سورّياليين كبار، مثل روبرتو ماتا وبيار أليسينسكي وخورخي كاماشو وويلفريدو لام، ساهمت منصور في معارضهم من خلال نصوص ذات صبغة شعرية، لكن لا هي قصائد ولا هي مداخلات نقدية تقليدية، بل كتابات مبتكَرة تقع خارج أي إطار معروف أو محدَّد سلفاً. نصوص حول الفنانين المذكورين وعملهم الرسامي، لكنها تحضر كفضاءات تأمّل فريد في كيفية ابتكار لغة متحرّكة وناريّة تنبثق الصور والأجساد داخلها وتحترق في لهيبها.
وسواء في هذه النصوص أو في تلك الشعرية أو المسرحية، تبقى منصور شاعرة الفيض والتقطيع والتهشيم من أجل اختبار ما يعبر الجسد والنفَس، وما يحدث فيهما. ومن هذا المنطلق، لم تستبقِ من لغتها الأم، داخل اللغة الفرنسية التي تبنّتها وكتبت فيها، سوى عِظام الحروف، هيكل أبجديتنا الصامتة، كي تُنجب كلمتها الجسد، قبل تمزيقه. ومن المنطلق نفسه دعت إلى تحطيم كل شيء تحت «عَقِبٍ من صلب»، وإلى «بقَر بطون الممثلين، اقتلاع الأموات من التربة، الابتلاع، البثق، العلك، القذف». ولأن الموت كليّ الحضور يقرع طبوله في صحراء نصّها المجمَّرة، تردّ أفعالها عليه بإيقاعٍ عنيف، خارج أي تصريف نحوي، وتستعين الشاعرة، للتعامل مع قلقها منه، بقوة الحياة المتفجِّرة فيها وفي نصّها، وبسخرية جارفة لا تستثني أحداً، بما في ذلك نفسها. وهذا تحديداً ما يجعل من إيروسيتها احتفالاً طقوسياً بالعنف، انتهاكاً، وبالتالي سيرورة مرتبطة بضرورة الفعل.
وبالنتيجة، لا نعجب من رؤية بروتون في منصور «الكاهنة السوداء الكبرى»، وهي التي مارست سورّيالية غريبة قاتمة، تفيض عن تاريخ حركته. سورّيالية تتراقص وتناور داخل «حلقة الأشجار التي تحيط بمهبلي»، حيث تحضر الطاقة لزجة، مكثّفة، حارقة، ويولّد النص نفسه، بين صورة صاعقة وأخرى.

أضعك بعَجَلةٍ في نعشك الرخيص
شعر: جويس منصور
أرفعكَ بذراعيّ
للمرة الأخيرة
أضعك بعَجَلةٍ في نعشك الرخيص
أربعة رجال يرفعونه على أكتافهم بعد تسميره
على وجهك الممتقِع، على أعضائك القلقة.
يهبطون الأدراج الضيّقة وهم يجدّفون.
وأنت تتحرّك في عالمك الضيّق
رأسك منفصل عن حنجرتك المقطوعة
إنها بداية الأبدية.
***
شعرها الأصهب له رائحة المحيط.
شمس الغروب تنعكس على الرمل الميت.
الليل يتمدد على سريرها الاحتفالي
بينما تستقبل المرأة اللاهثة المرتجفة

القبلات الأخيرة لشمسٍ تموت.
***
جسدكِ الصغير الهزيل بين شراشفه الناعمة
غرفتكِ الزهرية المتدثّرة بالصمت
عيناكِ اللتان تتدحرجان بين الأثاث الغني
تصطدمان في العتمة بجرذان ميتة على الوسائد
ونحن الذين ننتظر انتفاضتك الأخيرة
لتمزيق وصيتكِ.
***
امرأة واقفة في مشهدٍ عارٍ
الضوء الباهر على بطنها المنتفِخ
امرأة وحيدة امرأة غنية بلا عيب
امرأة تصرخ ازدراءها في أحلام بلا راحة
سيكون السرير جحيمها.
***
توفّيتِ منذ أمس يا أمي
حرّريني من عذاباتك
أنتِ متجمّدة من الفزع تحت قناعكِ الزجاجي
حرّريني من قبلاتكِ الأمومية
التي تزحف على جسدي الراكع
مثل بزّاقات
ساعديني يا أمي
لأن عينيّ تغوصان في مستنقع الرغبة
حرّريني من ظّلك الثقيل
شبع الموت بطيء
حرّريني من غيابكِ
حرّريني من المطر.
***
انسَني
كي تتنشّق أمعائي الهواء العليل لغيابك
كي تتمكن ساقاي من السير دون أن تبحث عن ظلّك
كي يصير نظري رؤيا
كي تستعيد حياتي أنفاسها
انسَني يا إلهي كي أتذكّر.
***
فتحتُ رأسك
كي أقرأ أفكارك
قضمتُ عينيك
كي أتذوّق رؤيتك
شربتُ دمك
كي أعرف رغبتك
وجعلتُ من جسدك المرتعش
طعامي.
***
تلقَّ صلواتي.
تلقّف أفكاري الملوّثة.
نقّيني كي تنفتح عيناي
كي ترى ابتسامة القتلة الداخلية.
وما أن أصير نقيّة
يا يهوذا اصلبني.
***
ادعيني لتمضية الليل في فمك
قصّ عليّ فتوّة الأنهار
اضغط لساني على عينك الزجاجية
اعطني ساقك كمرضّعة
ثم فلنَنَم، يا شقيق شقيقي،
لأن قبلاتنا تموت بسرعة أكبر من الليل.
***
كنتَ جالساً براحةٍ
على دبٍّ أسوَد
مزّقتَ أشلاء جلدٍ
بأصابعك المشعّة في وجه السماء المدمّاة
وبينما كنتَ تخلق عالماً جديداً
كان الثلج يتساقط.
***
مكايد يديك العمياء

الحركات البطيئة للسانك المشلول
في أذنيّ المثيرتين للشفقة
كل جمالي الغارق في عينيك اللتين بلا بؤبؤ
الموت في بطنك الذي يأكل نخاعي
كل هذا يجعل مني آنسة غريبة.
***
النهار يموت معلّقاً على الجدار
وأنا في سريري

قدماي قطعتا ثلجٍ لا أحد يحطّمهما
ساقاي نسيتا قفزاتهما في المرج
فقط فمي ما زال يتألم ويرتعش.
***
سئمتُ الجرذان
التي تأكل الأجنّة والشمندر بجشع
سئمتُ الأطباق.
سئمتُ الأسماك ذوات الحسك الشرير
الذي يرقص في حنجرتي.
سئمتُ الفقراء
سئمتُ اللعنات
التي أسكبها على رؤوسهم
من دون أن أرحم القُرْع.
سئمتُ الجرائم
سئمتُ قبري
الذي ينتظرني في ظلّ الغد.
سئمتُ كل شيء
وقرفي مات من السأم.
***
فتح فمه الذي لا شفتين له
كي يحرّك لساناً ضامراً.

وبخطوة ثابتة لها وقْعُها
عبر رأسي باكياً.
***
عينُ ثورٍ في ثقبٍ
كانت تقضي الشتاء مجهولة الهوية
بين الدبب.
وأنا، من دون صوفٍ ولا إبر، كنتُ أحوك
ثياب اللاواقع الداخلية
في انتظار المسيح.
***
في المخمل الأحمر
في سواد صرخاتك السرّية
دخلتُ...
في الساتان الأحمر لموتك
في رواق عينيك المعتم
دخلتُ...
والأرض تتأرجح وهي تدور وهي تغنّي
ومن السعادة رأسي ينفكّ.
***
أنتِ فتاة عاقلة
في فستان من نسيجٍ قطني رقيق وحذاءٍ مدبَّب
أنتِ الصباح الثالث للشجرة المقطوعة
أنتِ رغبة وغضب
البزّاقة على الحصية
الرجل الوحيد على الشاطئ
الذبابة ذات الأرجل الملتصقة على رقعة
الجريمة
أنتِ الفتاة العاقلة التي تغنّي البذاءة
التي تطفئ القربان
وتمنح عذريتها مقدّمةً للصيف.
***
غنية تحت شَعري
أصلّي برصانة
أحلم
بشريطٍ عريض من ظل
يفصل
وجهك عن يقينه السيئ
يقع الحزن ببطء
رائحة عقب سيجارة
مبيضة كاسدة
تانغو
جثّتي ترتكز عاريةً
بلا قيود فائضة
ولا يأس عبثي
لا يمكن أن يكون حاجزٌ بين الثلج والليل.