شربل داغر: أقف وحدي فوق الخشبة
شاعر وناقد وباحث في التراث العربي الإسلامي شعرا ونقدا وفنونا تشكيلية وزخرفية، صدرت له مجموعة كتب مهمة، وعدد من المجموعات الشعرية المثيرة للجدل، آخرها كان ''لا تبحث عن معنى لعله يلقاك'' الصادر عن دار شرقيات في القاهرة· عن هذه المجموعة وعن تجربته عموما هذا الحوار:
؟ مجموعة ''لا تبحث عن معنى لعله يلقاك'' مجموعة إشكالية بما تضمه من نصوص، خصوصا الأول والأخير فيها فهما نصان يمزجان الشعر والمسرح، ويقومان على بناء سريالي ورمزي، فما وراء هذا التجريب؟ وأي كوابيس شكلت مرجعية النصين؟
؟؟ أتحقق مرة تلو مرة من أن هذه المجموعة تثير أسئلة عن بنائها، كما عن ''مرجعيتها''، كما تقول· وفي هذا دلالة انتباه لما يحدث في النص، وفيه مع غيره· قد يرتاح البعض للفظ ''التجريب'' الذي تطلقه على هذه المجموعة، بل تجعله شاغلها، فيما أنظر إلى الأمر نظرة مختلفة، تنبع من داخل الكتابة، ومن تطلباتي منها· ذلك أنني، في ما أرى إلى ما أفعل، لا ''أمزج'' بين الشعر والمسرح، ولا ''أجرب'' بالضرورة، وإنما أسعى إلى قصيدة توافق نظرتي المتجددة إلى القصيدة بالنثر· فهذه القصيدة انتهت عربياً إلى أن تكون قصيدة تقليدية، هانئة بما حققته، حتى أنها باتت تستثمره وتلوكه تبعاً لكسل الورثة، لا وفق مكابدات المجددين· أصبح لهذه القصيدة شكل مستقر، أصبحت شكلاً جديداً لذيوع ''أنا الفحل''، الأنا النرجسية، وإن بعبارات تتخذ من الهامشي والصعلوك والغريب كنايات لها· فأنا مثلما أشدد على أن التسمية الصحيحة لهذه القصيدة، والموافقة للأصل الفرنسي، هي ''القصيدة بالنثر''، أشدد كذلك على أن لشاعرها أن يأتي بعناصر النثر إليها، على أن الشاغل يبقى القصيدة· إن الإتيان بالنثر إلى القصيدة يعني، في حسابي، إغناء القصيدة بأشكال بناء غير معهودة فيها· هذا يشمل أشكالاً عديدة، بعضها من المسرح، وبعضها الآخر متأتٍ من الصورة، ومن المحاورة وغيرها· كما أن بنيان القصيدة في تجربتي ينطلق من أن الكتابة تجربة في حد ذاتها، أي أنها تتفلت سلفاً من قالب جاهز، له أن ينتظرها كما في ممرات ومساحات مأهولة سابقاً·
في العنوان
؟ تقول: ''لا تبحث عن معنى لعله يلقاك''، بينما يقول جدنا الجاحظ إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق· ما الذي أردت قوله في مجموعتك التي تحمل هذا العنوان؟
؟؟ قيل الكثير في هذا العنوان، وفي تفسيره· وما يعنيني قوله هو إنه عنوان يحتمل أكثر من تركيب، وبالتالي أكثر من معنى· فلو وضعت العنوان مفككاً، في جملة غير متتابعة، وفوق أكثر من سطر ـ وهو ما ظهر عليه فوق غلاف المجموعة ـ لانتبهت إلى تعددية أكيدة فيه: فقد تكون الجملتان، اللتان يتألف منهما العنوان، واردتين في سياق حواري، فيقول الأولى متكلم، والثانية متكلم آخر· وقد تكون الجملة الثانية ـ في تفسير آخر ـ استدراكاً من قبل المتكلم عينه لجملته الأولى··· وهي وضعية حوارية، تواصلية، تنبىء بل تعلن عن هوية النصين اللذين ذكرتهما أعلاه· يحمل العنوان سلفاً قلقاً ما في ما يقوله، وفي حديثي عن ''لا تبحث''، أريد التأكيد على أن الشاعر الحديث ليس له أن ''يبحث'' لكي ''يجد''، وإنما عليه أن يسعى، أن يعايش في الكتابة محنة قولها، لا أن يصدح بخطاب اعتدادي، غنائي، مسبوق ومستلحق· وهو عنوان يرسم، بتردده هذا، مساراً للقول، للمعنى، أي أن فيه ما يتم العمل عليه وشطبه وتعديله· وهو في ذلك نص قيد العملان، قيد الإتيان، قيد التقدم·
ذهاب في الزمن
؟ مفهوم الزمن وتجسيداته حاضرة بكثافة في كتابتك، وهو حضور نجده لدى المبدعين عموما، من أين يأتي إحساسك المعمق والدقيق بالزمن وأهميته؟
؟؟ بل أذهب أبعد من ذلك، إذ أقول إن الصلة بالزمن تعين السمة الأقوى في القصيدة، وهي حداثتها· فلو تعود إلى شعرنا القديم لما وجدت دلالة على زمانه إلا في التفاتات قليلة، كما في شعر أبي نواس وابن الرومي تحديداً، فيما ترى الشعر الآخر ينطلق مثلما يصب في خطاب شعري سابق على التحقق، ومستدرك له، في آن· ولو عدتَ إلى بدايات التحديث، أو التجديد، في الشعر العربي، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لوجدت أن ما أُطلقَ عليه تسمية ''الشعر العصري'' في بيروت ـ وهو يعين الحقبة الأولى في حداثة الشعر العربي، على ما درست ـ يعين الصلة بالزمن، بتغيراته، أي ما تدركه العين والحس والعقل في ما تعايشه وترقبه وتنتبه إلى حدوثه في الوجود·
وهو ما أجمعه، في ما يخصني، في مفهوم ''التجربة''، الذي طالما شددتُ، في كتاباتي، على قيمته· ذلك أن ''التجربة'' تحدد، في نظري، ما للصلة بالزمن أن تكون عليه· وهي صلة تتعين عندي في موجبين متداخلين ومتشابكين، لو شئت التبسيط والعرض: أن أكون منفتحاً، متعايشاً، مع ما يحدث ويجري، من جهة، وأن أكون متبصراً فيه، بما فيه نقده، من جهة ثانية· فالكتابة تتيح مثل هذا الرواح والمجيء في فضائها، لا بما يفيد التعديل والشطب والإضافة وحسب، وإنما بما يفيد أيضاً ''تقليب'' المعنى، واستبيان الممكنات التي للقول الشعري· فالتجربة هي تجربة في الحياة، في الكتابة، وفي آن، من دون أن تعني دوماً - مثلما ينساق إليها البعض - ''فيض الخاطر''، و''التعبير الصادق عن النفس''· فالقصيدة، في حسابي، ليست اعترافاً، وإن كانت لها هيئة نفسية لازمة، وهي ليست ''إعلاناً هيهياً'' (أي عن النفس، كما هي)، لأنها تعبر ، كما هو عليه الحال في شعرنا الحديث ،عن ''فحولة'' مستجدة لها تعبيرات مختلفة ومتنوعة، لا تعدو كونها الإعلان النرجسي عن النفس، وتأكيد صورتها عن نفسها··· لهذا وجب التنبه إلى المعاني المخصوصة اللاحقة بصور ''الهامشي'' أو ''المتمرد'' وغيرها من سجلات الجمالية ''السلبية''، أو ''الضدية''، التي تقوم عليها الشعرية الحديثة، حيث إنها تبقى ''اعتدادية'' بالنفس، وأن تحمل بعض هواء مختلف في الفضاء التعبيري·
أنا والقارئ
؟ ''أكتب، فيما يخصني، لقارئ لا وجه له''، تقول، وتوضح ''إن أي كتابة، مهما صعبت أو غمضت معانيها ومراميها، تنبني بالمقدار الذي يقف فيه القارئ أمامها، شريكاً لازماً لها، وعلى الرغم من ممانعتها''· إلى أي قدر تراهن على قارئ محدد في ذهنك؟
؟؟ أنا أذهب إلى القصيدة مثلما أدعو القارئ إليها، كما في عرض مسرحي، وفي ''المونولوج'' تحديداً· ففي هذا النوع المسرحي يقف الممثل وحده فوق الخشبة، من دون غيره، وما يقوله يتوجه به إلى نفسه، عارضاً تقلبات ما يعايشه وينفعل به، وهو قد يتوجه به إلى غيره بالحرية نفسها التي يتوجه بها إلى نفسه، بل بقوة أكبر منها·· إلا أن هذا الممثل يدرك تماماً أنه ـ وإن وحيداً فوق الخشبة، وتحت الضوء وحده من دون غيره الغارق في العتمة - ليس وحيداً، بل هناك من يستمع إليه، وإن كان يعرف أنه لا يتوجه إليه تحديداً· فأنا إذ أكتب أعرف تماماً بوجود مثل هذا الجالس في عتمة الكتابة، وهو جالس معي، وأنا معه، في عتمة أخرى، هي عتمة المعنى·
وما لي أن أتلقاه، أو أخرج منه، واقعٌ في أفق واحد، هو أفق الصدور التاريخي للمعنى في لحظته، وهو أفق القبول له·
؟ تقول إنك ''تسعى إلى الانطلاق من العالم دوماً، من محسوسه، من معايناتك فيه، لا من أي مكان آخر''، و''لا تعنيك الفكرة نفسها إن لم تتعين في مشهدية''· وفي المقابل ترى أن ''القصيدة تذهب حيث لم تذهب الحياة'': ألا ترى تناقضاً في هذا؟ وكيف تبرر ذلك؟
؟؟ قد لا أجد تناقضاً بين هذين القولين، إلا إذا اعتبرتُ ـ وأنا أعتبر ذلك ـ أن حقيقة الشعر إنسانية، وهي نزاعية بالتالي· فأنا أشدد على أن طلبي للقصيدة يقع في العالم، في معايشاتي فيه، لا في خطاب سابق عليه، وهو ما يسهله ويبنيه الطلب على مبان صورية للقصيدة· ولهذا أتحدث دوماً عن ابن الرومي وأبي نواس، حيث إنهما - بخلاف غالب الشعر العربي القديم - ينهلان من عيش ومعاينة، على اختلافات فيما بينهما· ذلك أن بعض الشعر ينبني ابتداء من خطاب مسبوق، بل تبدو القصيدة تتلفظ هذا الخطاب· أنا أنهل من العالم، من دون أن يخفى عني أن ما تبنيه القصيدة في فضائها ليس تعبيراً ''أميناً'' أو ''صادقا'' لما عايشته، لما عرفته خارجها· القصيدة، بل كتابتها، عيش هي الأخرى، للشاعر أن يمتحنها مثل تجربة، سواء في الألم أم في الحب·
ملكة القبول
؟ وماذا عن قولك إن الشعر ''يقع دوماً، وإن افترق في الوجود، في اللغة، في ملكة القبول الاجتماعية والتاريخية للمعنى، لا خارجها أبدآً''؟ وكيف ترى العلاقة بين اللغة الشعرية ومحيطها الاجتماعي؟
؟؟ ما توصل إليه أبو تمام منذ قرون بعيدة، وهو أن القصيدة بناء لغوي، بتصرف الشاعر، لا يتنبه إليه كفاية الشعراء الحديثين· فالقصيدة تبدو، في حساب بعضهم، تدويناً فوق ورق لما سبق نموه وتشكله فوق اللسان· والقصيدة في ذلك مبنية خارجها، لا فيها· إلا أن قولي هذا ـ وأشدد عليه دوماً ـ لا يعفيني من القول بأن القصيدة غير قابلة للتلقي إلا وفق ملكة القبول التي تتعين في زمانها، في قرائها، في ذلك العقد الذي يحدد ''أفق المعنى''·