كافكا... الحياة في أقرب نقطة من تخوم الجنون
صنف علماء النفس العبقرية إلى صنفين، عبقرية صاعقة، تنفجر انفجاراً عفوياً كالشلالات والينابيع، أو حتى كالزلازل والبراكين وهذه هي حالة رامبو مثلاً أو هولدرلين أو نيتشه... وعبقرية هادئة متدرجة تصنع نفسها عن طريق الصبر والمثابرة والعمل المتواصل، وهذه هي حالة فلوبير، بودلير وجان جاك روسو... ولكن العبقري في جميع حالاته يكون عادة كائن غير اجتماعي، يميل إلى العزلة والوحدة.
يشترك العبقري مع المريض العقلي بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تتحول إلى إبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. حيث إن العبقري شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. (1)
ولد كافكا في مدينة براغ عام 1883، وفي عام 1896، دخل إلى الجامعة لدراسة علم الكيمياء، ولكنه سرعان ما غير موضوع دراسته لكي يدرس علم القانون. وفي عام 1902 التقى بذلك الشخص الذي سيصبح ناشر كتبه بعد موته، ماكس برود. وفي عام 1906 أنهى دراسته في الجامعة الألمانية بمدينة براغ، وأصبح موظفاً في مكتب للمحامين، وقد تنقل بعدئذ من وظيفة إلى أخرى وفي الوقت ذاته كان يمارس عملية الكتابة، ولكن بدون نشر، ففي عام 1912 كتب روايتين شهيرتين بعنوان: «التحولات»، و»المحاكمة»، وفي عام 1922، أي قبل وفاته بسنتين ألف كافكا رائعته: «القلعة». وفي عام 1924 مات الكاتب الكبير بمرض السل.
عوالم كابوسية
يُعَدُّ الأدب عند كافكا فرار من الواقع، إذ كانت كتاباته الأولى مناجاة داخلية يترجم بها انطباعاته وأحاسيسه، كما أُعتبر رائد الكتابة السوداوية أو الكابوسية فالبطل في أعماله الأدبية يعيش الحدث الكابوسي، حيث تتزاحم عليه التفصيلات الواقعية، بأن هناك قوى ما تتخذ موقفاً مضاداًّ لها بصورة تتحول معها الحياة الطبيعية لهذه الشخصية إلى ما يشبه الكابوس، وهذا ما نراه متجلياً في أعمال كافكا الشهيرة، مثل: المسخ، مستعمرة العقاب، أبحاث كلب، الجحر، القضية، القلعة، المحاكمة. هكذا تبدو أعماله: إحساس عالٍ وعميق بالمرارة والظلمة، ففي روايته «المسخ» يقدم رؤية سوداء للإنسان، يصحو الموظف المبتئس بوظيفته المرهق تحت ضغط احتياجات أسرته، حيث يعول والديه وأخته.. يصحو ليجد نفسه يعامل كحشرة كبيرة تشبه الخنفساء، ويتحول من مصدر احتفاء إلى مصدر إزعاج. وتتنفس الأسرة الصعداء حين تموت تلك «الحشرة»، وكأنما الذي يربط الإنسان بأسرته حاجة مادية إذا لم يستطع أن يحققها تخلت الأسرة عنه وحاربته كما تحارب أي حشرة ضارة!!. فالفكرة التي بنيت عليها رواية المسخ – وهي الرواية الأشهر لكافكا – هي السخرية من مجتمع ضاعت فيه القيم الروحية... فالكون – كما يصفه كافكا - ليس بحد ذاته لعنة، بل هذه الشياطين البشرية التي أصرت على صبغ التاريخ بلون قاتم. والمفارقة التي تثير الانتباه عن جد وجدارة هي شعور جريجور سامسا بعجزه، وقد حاول أن يعود إلى سابق عهده! ولكن قسوة الشعور بالعجز، ولعنة المسؤولية العائلية، وضريبة العقار الروحي لمارد الوظيفة الروتينية الباردة... كل ذلك زاد من القهر والعزلة لدى «سامسا».. حيث أنه واع بالمصير الذي آل إليه، ولكنه لا يستطيع الخلاص، لا يستطيع أن يخرج من سجن الحياة الذي فرضته عليه حضارة الآلة.. لقد أراد كافكا أن يبرهن من خلال «سامسا» على عزلة الإنسان في هذا الوجود، فليست الأزمة مبنية على أزمة رياح عاتية يمكن أن تهب على الكون فتزيح وتدمر كل ما هو جميل، ولا هي قصة فيضان غاضب يبتلع الأطفال والشيوخ والنساء، أو حتى زلزال يهشم أجزاء الأرض بقسوة.. بل هي قصة الزمن الداخلي للإنسان، في ظل حياة ملغمة بالعقد، الإنسان فيها لا يعدو كونه مربعات جامدة، يبحث عن شيء يملأها ولكن دون جدوى.(2)
الهوس إلى آخره
لقد كان الشيء الوحيد الذي يهم كافكا في الحياة هو الأدب، كان مشغولاً به إلى حد الهوس، وكان يقول: «كل ما ليس أدباً يضجرني بما فيه الحديث عن الأدب نفسه». كان يسقط على الأدب كل هلوساته، وقلقه وجنونه ومخاوفه. فالأدب كان عبارة عن علاج نفسي يشفيه من مرضه وأوجاعه، ولذلك كان يخلع على شخصياته الروائية كل مخاوفه وعذاباته الداخلية وعقده النفسية، ولو لم يصبح كاتباً لربما كان قد جنَّ تماماً، ولعلها الكتابة كانت خلاصه ومنقذته من من الانهيار أو من الانتحار. لم يكن كافكا ضحية الوظيفة بقدر ما كانت الوظيفة مجرد عائق مزعج أمام ترف لطالما حلم به كل كاتب. وهو تكريس كامل الوقت للكتابة. إن النزاع بين الكاتب والموظف هو النواة الجوهرية التي تدور حولها أعمال كافكا. فبسبب هذا النزاع تحديداً يفسح في كتاباته للتعبير عن مشاعر يمكن وصفها بالميكروسكوبية. أليس كاتب «المسخ» هو القائل: «تاريخ العالم كامن في غرف المنازل. ليس من الضروري أن تخرج من بيتك. الزم كرسيك واصغ. كلا، لا تصغ، انتظر فحسب. كلا، لا تنتظر، يكفي أن تكون صامتا ووحيدا، إذ سيجيء العالم ليرتمي عند قدميك ويرجوك أن تخلع له أقنعته. لا يسعه أن يفعل غير ذلك. سوف يتلوى منتشياً أمامك». كان كافكا مقتنعا بأن تاريخ العالم مرتبط بما يحصل في روح إنسانية واحدة، وبأن شحنة الحياة كامنة، لا في تراكم التجارب العظيمة والاستثنائية، بل على العكس من ذلك في عيش التجارب البسيطة والعادية، تلك التي يصفها بعض المتعالين بـ «التافهة» ويغضّون النظر عنها. لذا غاص الكاتب في وحول التجربة الإنسانية حتى أدرك ذروتها (3).
الوصايا المهشمة
يرى كافكا ان والده سبب كل بؤس يصيبه وحتى أنه هو الذي يدفعه للكتابة، يقول: «أنت سبب معاناتي كلها، أنت خلف كل كتاباتي. لقد قلت فيها ما لا استطيع أن أقوله وأنا على صدرك». وثمة مسألة بالغة الأهمية يلحظها كافكا هي مسألة الوصايا التي يفرضها الأب على ابنه ويخالفها أمامه محطماً مفهوم القدوة. يروي كافكا هذا المقطع على سبيل التذكير: «وكان علينا ان نحترس من عدم سقوط الطعام على الأرض، لكن تحتك كانت معظم البقايا على المائدة, ولا يجوز الانشغال بغير الطعام، لكن أنت كنت تنظف وتقطع أظافرك، تبري أقلام الرصاص وتنظف أذنيك بنكاشة الأسنان, كان من شأن هذه الأمور ان تكون بحد ذاتها تفاصيل لا أهمية لها على الإطلاق، ولم تثقل على نفسي إلا لكونك أنت الإنسان القدوة بالنسبة لي، لم تكن نفسك لتحافظ على الوصايا التي فرضتها عليّ». (4) وكافكا.. حالم أبدي وكابوسي أبدي، لا يستفيق من كابوسيته وأحلامه التي تخلقها الفتيات العابرات في حياته. ينتظر شبح المرأة ويؤجل لقاءه الجسدي بها إلى ما لا نهاية. لقد جعل من المرأة كائنا يحسه من خلال رسائله اليها، ولم تكن المرأة اكثر من كائن للكتابة، يجد كافكا في علاقته بها المسوّغ الحقيقي للنص الأدبي الروائي والقصصي. ورغم ذلك يشعر كافكا ان العازب «ليس أفضل من حشرة». لقد استطاع كافكا الذي لم يعش أكثر من واحد وأربعين عاماً أن يُحدث خرقاً في الكتابة الروائية وأن يصبح قدوة لكل من جاءوا بعده. فتأثيره على الرواية الألمانية والأوروبية بشكل عام أشهر من أن يذكر. بل ووصل تأثيره إلى أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية والعالم العربي وحتى اليابان وآسيا. فالعزلة والحزن واليأس والغضب، سمات طبعت حياة كافكا، بل إن كل المقربين منه يشهدون انه كان مختلفا في تعامله وعلاقاته بالآخرين، سمة حياته التوتر والشعور بالظلم والقهر وهي العوامل التي انعكست في كافة رواياته وجعلت منه كاتباً عالمياً شهيراً. فقد ظلت النهايات الفاجعة في أعمال كافكا، تلخص الحياة البائسة نفسيا التي كان يعيشها واليأس المحدق به، ولم تبتعد خاتمة رواياته عن الموت بكافة أشكاله.. وكأنه يحاكم العالم في طيات كتبه، ويحقق عدالته الخاصة.
* مسرحي عراقي مقيم في الإمارات