«دعني أدخل».. سينما الغواية والصدمة
قليلة هي الأفلام التي تصنف في خانة (الرعب) وتحوز في النهاية على قدر من الرضا النقدي، أو الانتباه الفني لمكوناتها كأفلام جيدة، وكون الفيلم جيدا في إطار هذا التصنيف يفرض على صنّاعه الانتباه لعنصر مهم، وهو خلق حالة من التوازن والتناغم بين الفكرة المطروحة في السيناريو وبين التنفيذ المعتمد على خطة أو بنية الإخراج، مع إضفاء لمسة إنسانية وبعد جمالي على هذا المزيج البصري الهائج والشرس من الرؤى والأفكار التي تخترق قشرة المألوف والتقليدي والمتداول.
نادرة أيضا هي أفلام الرعب التي نجت أو تخلصت من الكليشيهات الدموية والملامح المنفّرة التي تشكل قوام وهيكل ومناخ هذه السينما المرتكزة على الخوف والغموض والرجفة الصادمة، ذلك أنها سينما درجت واعتادت على التعامل وبشكل متطرف مع الحبكة ومع الصورة السينمائية المبثوثة فيها، لدرجة يشعر فيها المتفرج أنه يتابع سلسلة متشابهة من المشاهد التي لا تفترق في بعض المواضيع والمعالجات الدرامية، إلا وتجتمع في النهاية على ذات المكونات الصارخة والمفزعة والمقززة أيضا حول كائنات خرافية ضالة، وأشباح منتقمة، ووحوش متحوّلة نراها تارة تهبط من السماء وتارة أخرى تخرج من القيعان المظلمة للأرض.
في فيلم “دعني أدخل” Let Me In يتجنب المخرج وكاتب السيناريو “مات ريفز” التطرق وبشكل مبالغ به لتلك الخيالات الراعشة والعواطف الممزقة والعذابات الدفينة التي تجتاح مصاص الدماء، والذي رأيناه في أفلام كثيرة سابقة تناولت ميراث “دراكيولا” بصورته التقليدية الأنيقة والمخادعة والتي تتحول في ليالي الشبق والعطش الجسدي إلى صورة ضارية تكشف عن وحش جهنمي أو كائن مسعور وماكر يعاني من وطأة البقاء حيا لمئات السنين، بحيث يتحول الخلود بالنسبة له إلى عبء ولعنة ومطاردة دائمة وانجذاب لا ينتهي للفرائس البشرية، ولرائحة الدم الطازج المتدفق في عروقها. وعلى عكس هذه الصورة المكرسة، يقدم لنا فيلم “دعني أدخل” ـ ابتداء من عنوانه الذي يشيع هالة من الوقار والألفة ـ صورة مغايرة تماما لمصاص الدماء في طلته الظلامية وحضوره الكابوسي، فصورة الوحش البهيمي هذا تتداخل هنا مع صورة فتاة في الثانية عشرة من عمرها، تعيش حالة من الهيام الأنثوي والتوق الإنساني الذي يشاركها فيه طفل آدمي على أعتاب المراهقة ويبحث هو الآخر عن علاقة تنقذه من ضعفه وعزلته وشتاته النفسي في عالم قاس تنتفي منه الصداقة ولا يتوفر على أي قدر من الرحمة والتواصل العائلي.
مخاوف ناعمة
ورغم أن الفيلم مستوحى من فيلم سويدي ظهر في العام 2008 بعنوان: “دع الشخص المناسب يدخل” للمخرج جون ليندكفست وبخصوصية مكانية ومعالجة درامية تنتصر لأسلوب السينما الأوروبية بكثافتها البصرية وحمولاتها الفنية، إلا أن ظلال وانعكاسات الهاجس الأصلي للفيلم ظلت حاضرة ومهيمنة على النسخة الهوليودية، مع أن شروط الإنتاج التجاري تستطيع أن تضع مصير فيلم بهذه المواصفات الخاصة في مهب الإلغاء أو التأجيل.
يوظف المخرج مات ريفز في نسخته المعدلة هنا، كل العناصر المكونة لبنية الفيلم من مشاهد وحوارات ومونتاج وموسيقا وأداء تمثيلي ـ من الأطفال خصوصا ـ لتتحقق لديه الصورة الصافية لفيلم رعب فائض بالسحر ومكتنز بالفتنة، فرغم المناخ السوداوي الداكن للعمل والبيئة المنعزلة التي تدور فيه أحداث القصة وسط الليالي الباردة والثلوج المنهمرة والصمت الطاغي، إلا أن الشرارات الجمالية المتولدة وسط هذه العتمة المشهدية سرعان ما تنتشر وتهيمن على مفاصل وتفريعات ولقطات الفيلم بأكمله.
ينطلق المشهد الأول لفيلم “دعني أدخل” من حيز زمني يعود بنا إلى القرن الماضي وتحديدا في حقبة الثمانينات، (أو الحقبة الريجانية، نسبة إلى الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان وخطاباته الشهيرة حول محاربة الشر العالمي بكافة أشكاله الملموسة والمتوارية) ــ والذي نراه في الفيلم من خلال لقطات تلفزيونية خاطفة ــ وفي لقطة علوية على طريق متعرج داخل غابة متجمدة في منطقة لوس ألاموس بمكسيكو سيتي، تنتقل اللقطة التالية إلى عربة إسعاف تحمل رجلا خمسينيا مصاب بحروق شديدة جراء انسكاب مادة كاوية على وجهه وجسده.
وفي المستشفى نرى المحقق ـ يقوم بدوره الممثل إلياس كوتياس ـ وهو يبحث مع الأطباء عن هوية هذا الشخص الغامض والمشرف على الموت، ولكن صرخة مدوية من إحدى الممرضات تنهي كل أمل في التعرف عليه، حيث نرى الرجل المشوه وقد سقط من غرفته العالية نحو الأرض مشكلا بذلك مقبرة بيضاء وسط الثلوج المنهمرة في الخارج.
يعود بنا الفيلم مباشرة إلى ما قبل وقوع الحادثة بأسبوعين، كي نتعرف على الطفل أوين ـ يقوم بدوره كودي سميث ماكفي ـ المقترب من سن المراهقة والمحاط بوضع عائلي مربك بعد طلاق والديه وبقائه تحت وصاية أمه المشتتة بين الالتزام الديني والإدمان على الكحول، ووضع أوين في المدرسة لا يبدو أفضل مما هو في البيت، حيث يلاحقه ثلاثة من الطلبة المشاكسين، متسببين له بمشاكل ومضايقات عديدة تجعله فريسة لضعفه الداخلي وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه.
حيوات مريبة
وسط هذا المناخ المحتشد بالعزلة والإقصاء ووسط رغباته الذكورية المتشكلة على استحياء، يحلم أوين بفتاة تشاركه أحلام اليقظة هذه، وتنتشله من عذاباته الدفينة والمطمورة في داخله، وعندما تأتي فتاة مع والدها كي يسكنا في ذات المبنى الذي يسكنه، يعتقد أوين أنه عثر على ضالته، ولكن مع اقترابه أكثر من الفتاة ومن خلال حواراتهما المختصرة والمكثفة، يكتشف أنها لا تشبه في تصرفاتها الفتيات اللاتي في سنها، فرغم كل البراءة المرتسمة على ملامح الفتاة (آبي) ـ تقوم بدورها كلوي مورتيز ـ إلى أنها تخفي معها سرا كبيرا يبدو أنه يلاحقها ويلاحق والدها، خصوصا بعد أن بات يستمع لحوارات مريبة بين الاثنين الذين لا يعزلهما عنه سوى جدار هش وضعيف يسرب كل الأصوات التي تصدر من الجانب الآخر.
ورغم العلاقة الغريبة والحذرة بين أوين وآبي، إلا أن رغبة كل منهما في تخطي الأسرار المؤلمة، والتماهي مع العشق الغريب والآسر للدخول في تجربة عاطفية صادقة وحميمة ومشتعلة، تساهم في كسر حاجز الخوف والممانعة وتمنحهما طاقة داخلية عارمة لمجابهة كل النتائج المحتملة.
يكشف لنا الفيلم تدريجيا عن الستار الغليظ الذي يخبئ وراءه القصة المروعة التي تجمع بين آبي ووالدها ـ أو الوصي عليها كما يرد في الفيلم بعد ذلك ـ فآبي ما هي إلا مصاصة دماء لا تجد بديلا عن دماء البشر كي تحافظ على ملامحها الإنسانية التي استقرت منذ سنوات طويلة على هيئة طفلة في الثانية عشرة من عمرها، ولأنها تكره القتل والخروج في الليالي الموحشة لاصطياد البشر فإنها باتت تبعث بوالدها الافتراضي كي يقوم بمهمتها ويزودها بالدماء الطازجة للضحايا، وبعد محاولتين فاشلتين يضطر الأب لحرق وجهه بمادة الأسيد الكاوية حتى لا ينكشف أمر آبي أمام محققي الشرطة في المنطقة، ـ وهنا يعود بنا الفيلم إلى المشهد الافتتاحي الغامض حول انتحار الأب في المستشفى ـ تضطر آبي للاعتراف أمام أوين بحكايتها المفزعة والمدوخة هذه، وتعاهده بأن تحميه من كل الشرور التي يجابها في الحياة، وهو ما يحدث فعلا عندما تنقذه من الموت بعد أن ينصب له الطلبة الأشقياء في المدرسة كمينا قاتلا للتخلص منه.
في المشهد الختامي للفيلم نرى أوين في القطار وهو يغادر البلدة، وكأنه يغادر طفولته المعذبة وتاريخه الشخصي الملوث والمتأزم والمليء بالصدمات، وبجانبه صندوق كبير ينقر عليه بإشارات وشيفرات “مورس” الصوتية، ليأتيه الرد من داخل الصندوق، هذا الصندوق الذي بات الآن حاميا وحارسا لعشق سري بين الإنسان وبين الوحش الذي يسكنه، أو بين الوحش وبين الإنسان الذي يتطلع إلى تقمصه، صندوق سوف يحمي آبي نفسها من وهج الخارج ومن قسوة الآخرين وسوء تقديرهم للكائنات الصغيرة المعذبة والمتروكة لريح الأقدار وهبّاتها الموحشة.