الجسر، كما تعرّفه كثير من القواميس العربية، هو «القنطرة ونحوه مما يُعبَر عليه». إنه ما يربط بين طرفين، وما يشكل وسيلة للاتصال والتفاهم. يمتدّ هذا الاتّصال من المعنى الحسي المباشر، إلى المعاني الرمزية التي تدعو جسراً كل ما يربط فيما بين الشعوب والثقافات واللغات، ساعياً إلى أن يوحّدها أو يقارب بينها، فيسمح بالوصل والمجاز والعبور. في هذا المعنى يميّز الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير ما يدعوه المعنى «الصلب» للجسر، وما ينعته بالمعنى «الليّن». لكن، مما يثير شيئاً من الاستغراب كون بعض المعاجم العربية (وعلى ذكر المعاجم، لا ينبغي أن ننسى أنها، هي كذلك، جسور)، بدل أن تقتصر على هذا الوجه الاتصالي للجسر، تذهب عكس ذلك أيضاً، فتحدّد الجسر على أنه «حدّ فاصل بين أرضين». لا شك أن استغرابنا سيزداد حدّة عندما نتبيّن أن هذا الوجه الانفصالي في تحديد الجسر لا يقف عند المعنى اللّغوي للّفظ فحسب، وإنما يجد دعامته في الفكر الفلسفي، وعند واحد من أكبر الفلاسفة المعاصرين.

اللغة والدلالة
يذهب الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر إلى أن الجسر، بما يسمح به من قدرة على العبور، فإنه لا يكتفي بالربط بين ضفتين، وإنما «يأتي بالضفتين بما هما كذلك، يأتي بهما إلى الظهور». يكشف الجسر، قبل كل شيء أن الضفتين اللتين يربط بينهما لا يتقدمان وجوده، إنهما ترتسمان عند الحاجة مثل خطوط الهروب التي يتحدث عنها دولوز. صحيح أن الضفتين كانتا موجودتين حين لم يكن هناك جسر. لكن الجسر، رمز الوصل واللقاء هو الذي يجعلنا نتبيّن انفصالهما عن بعضهما. «الجسر يوصل الضفتين بعضهما ببعض، ومن ثمة فهو يميّز بينهما. بفضل الجسر تنفصل الضفة الثانية لتنتصب في مواجهة مع الأولى».
الجسر إذاً أداة وصل وفصل في الآن ذاته. لا ينبغي أن نفهم الفصل هنا على أنه إبعاد. إنه ضمّ وتوحيد. إلا أنه ليس توحيد المتطابق L’identique وإنما توحيد الاختلاف Le même. نلمس معنى هذا الفصل الواصل إن نحن توقفنا عند الاشتقاق اللغوي لكلمة اختلاف Différence ذاتها في اللغة الفرنسية. نقرأ عند أحد كبار شرّاح هايدغر، وهو الفيلسوف ج. بوفري الذي كتب: «لنتأمل كلمة اختلاف، différence هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفياً للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيري الذي يعني في اللغة اليونانية، ثم في اللاتينية Feri، حمَل ونقل (...) الاختلاف ينقل إذاً، فماذا ينقل؟ إنه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافور فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعاداً وفجوة... الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعداً إحداهما عن الأخرى. إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاماً. إنه، على العكس من ذلك، يقرّب بين الطرفين اللذين يبعد بينهما. لذا كان هيراقليطس يقول عمّن لا يكنّ له المحبة: إنه لا يعلم أنه لا يتفق مع نفسه إلا نتيجة الاختلاف».
هذا الضمّ المفرّق، وهذا التوحيد المتعدّد، وهذا القرب المُبعِد، والوصل الفاصل، هو ما يكشف عنه فيلسوف «الكينونة والزمان» في مفهوم اللوغوس Logos وفعل ليغيين، يقول: «هذا التوحيد الذي ينطوي عليه فعل ليغيين لا يعني أننا نقتصر على جمع الأضداد وضمها والمصالحة بينهما، الكل الموحِّد يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته، مثل الليل والنهار، الشتاء والصيف، السلم والحرب، اليقظة والنوم، ديونيزوس وهاديس، إن هذا الذي ينقل (الشيء نحو ضده)، عبر المسافة البعيدة التي تفصل الحاضر عن الماضي، إن هذا الديافيرومنون هو ما يعرضه اللوغوس في حركة انتقاله. وفعل اللوغوس ينحصر في عملية النقل هذه. إنه ما ينقل. اللوغوس، الوجودُ الموحِّد ناقل وحامل». اللوغوس إذاً هو ما ينقل، إنه جسر، وهو «ما يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته». وهو، ككل جسر، ينقل طرفين لا يتمايزان في البداية مبعداً أحدهما عن الآخر، إلا أنه ابتعاد يقارب فيما بين الطرفين المتخالفين بالفعل ذاته الذي يفصل بينهما. ما أبعدنا إذاً عن التوحيد الميتافيزيقي الذي يصنع هويات واهمة وتطابقات تقضي على كل تفرد. يقيم الاختلاف هويات تعدّدية تضمها وحدة غير ميتافيزيقية تترك لكل عنصر نصيبه من التميّز، وتتيح بالنسبة للمجموع حرية الحركة.
لا عجب إذاً أن يعمد واحد من أهم «مفكري الاختلاف»، وأعني ميشيل فوكو، إلى التوقف عند علامة المساواة التي يحدّد عن طريقها منطقُ التطابق مفهوم الهوية، كي يرى فيها قنطرة وحركة تفصل الهوية عن ذاتها لكي تضمّها إليها. يقول: «تنطوي المساواة أ=أ على حركة داخلية لا متناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. يتعلق الأمر ببُعد إيجابي بين المتخالفين: إنه البُعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان». علامة المساواة هنا لا تدل على تطابق متخشب، وإنما تصدع الهوية وتؤكد الاختلاف، فتجعل الذات في بعد دائم عن نفسها، بحيث لا يكون الآخر إلا هذا الابتعاد. لن يعود السلب، والحالة هذه، تعارضاً بين هويتين، وإنما هو يقطن الهوية نفسها. الاختلاف يسكن الهوية، والآخر يقطن الذات. إنه انفصال الذات اللامتناهي عن نفسها والتقاؤها اللامتناهي معها.

الأصل والنسخة
لعل مثال جسر آخر، لا يلاقي بين ضفتي نهر هذه المرة، وإنما ينقل لغة إلى أخرى، من شأنه أن يوضّح لنا هذا الاقتراب الذي يتخلله التباعد. يشبّه موريس بلانشو عمل الترجمة، وهي تحاول التقريب بين لغتين، بعمل هرقل وهو يحاول التقريب ما بين ضفتي البحر. هذا العسر، وهذه الصعوبة التي تتطلب قوة جبارة في مثل قوة هرقل، يدلان على أن ذلك التقريب هو، في الوقت ذاته إبعاد، وعلى أن الترجمة إذ تحاول أن تقرّب فيما بين اللغات، تعمل في الوقت ذاته، على خلق الاختلاف بينهما وإذكاء حدته. على هذا النحو فالترجمة لا ترمي هي كذلك إلى إلغاء الاختلاف بين اللغتين، وإنما تسعى إلى توظيفه ورعايته. من هذه الزاوية لا ينبغي أن يُنظر إلى المجاز من لغة إلى أخرى أساساً كعملية لخلق القرابة، وإنما كفعالية لتكريس الغرابة. فالترجمة ليست هي النصّ الذي كان سيكتبه المؤلف لو أنه تكلم لغة المترجم. إنها لا تهدف إلى أن تكون الآخرَ ذاتَه. فالمسافة بين الذات والآخر لا يمكن أن تُلغى إلغاء تاماً، والنصّ المترجَم ما يفتأ يَعْلَق بترجمته، وكل ترجمة تظل شفافة لا تستبعد النصّ المترجَم ولا تصبح بديلاً عنه. الترجمة أداة لتمكين اللغة من أن تمتحن ذاتها على ضوء الآخر، إنها وسيلة لتعريض الذات لمحنة وامتحان تتلقى فيهما دفعاً عنيفاً يأتيها مما هو أجنبي. هذا الدفع هو الذي يجعلها تشعر بالغربة، لا أمام الآخر فحسب، بل أمام ذاتها كذلك. بهذا تغدو الترجمة انفصالاً للثقافة عن نفسها وللغة عن ذاتها، وللأنا عن نفسه.
وأكبر الزلات التي يمكن للمترجم أن يقترفها هي أن يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصدفة، عوض أن يخضعها للدفع العنيف الذي يتأتى من اللغة الأجنبية.
هنا تغدو الترجمة عبوراً وحركة انتقال لا تنفك بين «أصل» ونسخة. هذه الحركة لا تنشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما تسعى إلى إذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقاً، ليس خلقاً للقرابة، وإنما تكريس للغرابة.
لا ترمي الترجمة إذاً إلى أن تجر ضفة إلى أخرى، إنها لا تريد أن تجرّ لغة إلى أخرى، وإنما تسعى لأن تخلق لغة ثالثة تلاقي بين لغتين، بين نصّين وثقافتين. في هذا الصدد كتب بلانشو عن ترجمة هولدرلين لــ«أنتيغون» و«أوديبوس» سوفوكليس: «لقد كانت هذه الترجمات آخر أعماله، وقد أنجزت وهو على عتبة الجنون. إنها أعمال بلغت حداً بعيداً في العمق والمهارة والقدرة على التحكم. قادتها الرغبة، لا في نقل النصّ الإغريقي إلى اللغة الألمانية، ولا في توجيه اللغة الألمانية نحو المنابع الإغريقية، وإنما في توحيد القوتين اللتين تمثل إحداهما تقلبات المغيب (الغرب)، والأخرى تحولات المشرق لينصهرا في بساطة لغة كلية خالصة».

القرب والبعد
على هذا النحو، فإن الجسر سواء أكان «صلباً» أو «ليّناً» بتعبيرات ميشيل سير، فإنه لا يقضي على الاختلاف، ولا يصهر الطرفين في وحدة مطلقة، بل يربط أحدهما بالآخر فيحوّل «القرب والبعد بين الأِشياء والإنسان إلى مجرد مسافات Distances». أي أنه ينقل المكان إلى امتداد هندسي تحدده أبعاد ومسافات. وهي مسافات يمكن قهرها بمجرد قطعها. وعلى رغم ذلك فإن الجسر لا يُبنى في محل قائم قبله، إن المحل يتولد انطلاقاً من الجسر. بناء الجسر يفتح طرقاً ويعيّن جهات. ليس المكان الهندسي هو الذي يفسح المحل ويسمح به، بل الجسرُ هو الذي ينظم المكان ويجعله قابلاً للصياغة الهندسية. الجسر فضاء يحوّل الانفصال إلى مجرد بُعد مكاني فيجعل الإنسان يشعر أنه «يقيم بالقرب من الأشياء»، وأنه يقطنها وأنها «موطنه». فتتحول علائق البعد والغربة، بما تحملانه من حمولة نفسية، بله وجودية، إلى مجرد امتداد مكاني ومسافات هندسية.
يبيّن هايدغر العلاقة القوية التي تربط فيما بين بناء الجسر والسكن، وذلك عبر تحديده لمعنى الفعل الألماني bauen الذي يعني في الوقت ذاته: سكن، وأقام وبنى وشيّد وعالج وربى، وأحاط الشيء بالعناية. على هذا النحو فالبناء يعنى إقامةً وسكناً. أن يسكن الإنسان كما تقول محاضرة «البناء، السكن والتفكير»، يعني أن يكون في أمان وسكينة. يجمع الجسرُ فيما بين النهر وضفتيه والمشهد الطبيعي المحيط به، وبذلك يُمَكّن النهرَ من أن يظهر في ماهيته كنهر، على عكس المولِّد المائي للكهرباء الذي لا يصون ماهية النهر، بل يجعله مجرد موْرد للطاقة المائية.