الأرجنتين... الأزمة الاقتصادية وشبح الفساد
اندريس أوبنهايمر
بيونس آيريس
في زيارة أخيرة قمت بها للعاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس، لاحظت أن معظم الناس محبطون وغاضبون ومتشككون في مستقبلهم الجماعي، بدرجة أكبر كثيراً من أي مرة سابقة قمت فيها بزيارة العاصمة. وعلى العكس مما قد يعتقده المرء، فإن إحساس القنوط الذي يعتري الأرجنتينيين، لا يرجع للاقتصاد، حيث نجحت الأرجنتين من الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الأخيرة، سالمة نسبياً، بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، كما يتوقع الاقتصاديون أن يحقق الاقتصاد الأرجنتيني نموا بنسبة 4 في المـئة هذا العام.
ويرجع هذا القنوط في الحقيقة لشيء آخر، وهو أن الأرجنتينيين باتوا لا يرون مخرجاً من الفساد السياسي المستفحل في البلاد، والذي يؤدي إلى جعل بلادهم متأخرة كثيراً، وعلى نحو آخذ في الاطراد، عن الدول المجاورة لها، وعلى وجه الخصوص البرازيل وشيلي، كما يحول بينها وبين تقليص معدلات الفقر والجريمة.
وعلى خلاف ما حدث في نوبات اليأس العامة السابقة في الأرجنتين، فإن الهجرة ليست من الخيارات المطروحة هذه المرة، وهو ما يرجع إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، وإلى تشديد القيود المفروضة على الهجرة سواء إلى الولايات المتحدة أو أوروبا.
والشيء الذي يبدو أنه كان سبباً في نوبة الإحباط الجماعي الأخيرة، هو تلك الأنباء التي أعلنت أثناء عطلات نهاية العام، برفض إحدى المحاكم في البلاد تهم الإثراء غير المشروع المرفوعة ضد رئيسة الجمهورية وزوجها بسبب ما طرأ على ثروتهما الشخصية من زيادات هائلة. أبلغ الزوجان"كيرشنر" عن زيادة بنسبة 158 في المئة في دخلهما عام 2008، علما بأن هذا الدخل كما هو مدون في بيان الذمة المالية للزوجين، عندما تولت كيرشنر منصبها في عام 2001 لم يكن يتجاوز 1.9 مليون دولار في حين يبلغ حاليا 12.1 مليون دولار. جزء كبير من هذه الزيادة يرجع لنسبة الفائدة الأكبر من المعتاد بكثير التي دفعتها البنوك الأرجنتينية على حساب الزوجين، كما يرجع إلى الأرباح المبالغ فيها التي حققاها من خلال صفقات عقارية قاما بها وهما في السلطة، وفقا للاتهامات التي يوجهها الساسة المعارضون والصحفيون الذين أجروا فحصا دقيقا لملف القضية المرفوعة ضدهما.
والكثيرون من الأرجنتينيين يتساءلون كيف استطاع الثنائي الرئاسي ـ وهو الاسم الذي يطلق على الزوجين ـ أن يحققا كل هذه الأرباح من خلال نشاطهما الاستثماري، في الوقت الذي رأى فيه معظم سكان العالم مدخراتهم وهي تهبط بشكل حاد؟..ثم كيف يمكن للبلاد أن تجتذب المستثمرين الأجانب وهم يرون النظام القانوني في البلاد موضعا سهلا للتلاعب ممن هم في القمة.
كتب "البرتو إتش. كامبوس" رداً من الردود التي تكررت كثيراً خلال الآونة الأخيرة في باب رسالة للمحرر نُشر في صحيفة" لانسيون" يقول فيه:"يجب أن يتم ترشيح الزوجين كيرشنير لجائزة نوبل للاقتصاد، طالما أنهما استطاعا التحول من شخصين لا يكادا يملكان شيئاً تقريباً إلى شخصين يعدا في الوقت الراهن من أثرياء الأرجنتين".
وقد بدا الحكم الذي أصدره القاضي، وكأنه يؤكد ما كان يشك فيه الكثيرون، وهو أن تهمة الفساد الموجهة إلى الزوجين كان وراءها الزوجان نفساهما، حتى يتمكنا من استغلال نفوذهما وهما في الحكم في إلغاء تلك التهم، ويحولا في نفس الوقت دون تعرضهما للتقاضي مستقبلًا بشأنها.
والحقيقة أن النظام القضائي الأرجنتيني قد أعطى انطباعا بأنه كان كريماً للغاية مع الزوجين. فالقاضي "نوربيرتو أويابايد"برأ ساحة الزوجين من جانبه ومن جانب آخر قام المدعيان الفيدراليان المعينان للقضية برفض استئناف الحكم، وهو ما يعني فعليا إغلاق التحقيقات في القضية بشكل نهائي. ومما زاد الطين بلة، هو أنه في الوقت الذي احتل فيه الحكم الذي أصدره القاضي العناوين الرئيسية للصحف الأرجنتينية في 29 ديسمبر الماضي، أعلنت حكومة كيرشنر المأزومة مالياً، أنها ستتحقق من مصادر دخل جميع المواطنين الأرجنتينيين، الذين ينفقون ما يزيد عن 780 دولارا شهريا بواسطة البطاقات الائتمانية.واشتكى المتصلون الغاضبون بالبرامج الحوارية من أنه في الوقت الذي تتمكن فيه الرئيسة وزوجها من الخروج سالمين بسهولة من دعوى مرفوعة ضدهما، فإنه يتم التدقيق على باقي الأرجنتينيين العاديين من خلال معايير أكثر صرامة. وقد رد الرئيس السابق على التحقيق في ثروته بالقول إن ذلك التحقيق كان"سليما تماما". وقال القاضي الذي أصدر الحكم بأنه برأ ساحة الزوجين من تهمة الفساد. تقديري الشخصي أن الأرجنتين قد مرت بالكثير من الأزمات خلال العقود الأخيرة مقارنة بباقي الدول، وأن الاحتمال الأرجح هو أنها ستتمكن من الخروج من هذه الأزمة أيضاً. فعندما يتحسن الأداء الاقتصادي إلى حد ما خلال هذا العام، وخصوصاً إذا ما أبلى اللاعبون الأرجنتينيون الأفذاذ بلاء حسناً في كأس العالم هذا العام، فإن المرجح هو أن تلفت الموضوعات الأخرى انتباه الجمهور علاوة على قرب موعد عقد الانتخابات الرئاسية عام 2011 سوف يفتح بدوره مساراً جديداً للأمل. مع ذلك، فإن الكثيرين من الأرجنتينيين لا يزالون يعتقدون أن دولتهم الغنية لن يقدر لها الإقلاع، ما لم تمنح درجة أكبر من الاحترام لحكم القانون، على أن يبدأ ذلك من القمة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«إم. سي. تي إنترناشيونال»