هاشم صالح
عندما ندرس سير العباقرة والعظماء وبخاصة عباقرة العلوم والفنون والآداب من أمثال ليوناردو دافنشي وغاليليو ونيوتن، فإننا قد نكتشف أشياء مدهشة وربما مزعجة لا تروق لنا. وبشكل عام فإنهم أشخاص غريبو الأطوار. وهذا الأمر ينطبق على حياة ذلك الشخص الذي وصفه فولتير بأنه أعظم عبقري ظهر في تاريخ البشرية على مدار العصور.. فهو الذي أسس العالم الحديث الذي أدى إلى تشييد كل الحضارة العلمية والتكنولوجية الراهنة. وهذا لا يقلل من أهمية غاليليو أو كيبلر أو ديكارت أو سواهم. ولكنه يشير إلى حجم الإنجازات التي حققها هذا العالم الإنجليزي الشهير على إثر كل هؤلاء. فاكتشافاته كانت أكبر من اكتشافات جميع العلماء الذين سبقوه أو لحقوه بمن فيهم أينشتاين نفسه. أنا شخصيا كنت أعتقد أن أينشتاين هو أكبر عبقري في التاريخ. ولكن يبدو أن نيوتن أعظم منه.
فمن هو هذا الشخص يا ترى؟ لقد ولد نيوتن عام 1642 ومات عام 1727 عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، وهو عمر طويل جدا بالنسبة لذلك الزمان. ويبدو أن الطفولة التي عاشها نيوتن كانت حزينة جدا وكئيبة ليس فقط لأن والده مات قبل ولادته بشهرين وإنما أيضا لأنهم أبعدوه عن أمه وعن المنزل كله، وأرسلوه إلى جدته التي اهتمت بتربيته وحلت محل أمه. وهذا يعني أنه خسر حنان الأب والأم في آن معا منذ نعومة أظفاره. ولا ريب في أن ذلك ترك آثاراً عميقة على نفسيته. وهذا ما يفسّر لنا سبب ميله إلى الوحدة والانطواء والعزلة. ولعل عبقريته كانت نتيجة لهذه الطفولة غير الطبيعية. والواقع أن معظم العباقرة كانوا يتامى الأم أو الأب أو الاثنين معاً. نضرب على ذلك مثلا ديكارت الذي فقد أمه وهو صغير، أو كانط الذي فقد أمه أيضا في الثالثة عشرة. وكان متعلقا بها جدا. وأما جان جاك روسو فقد كانت مصيبته أكبر بكثير: فقد ماتت أمه أثناء ولادته أو على أثرها. ولذلك ظل معذبا طيلة حياته كلها ويعتبر نفسه السبب في موتها المبكر. يقول ما معناه: لقد كلّفت أمي حياتها. ولن أغفر لنفسي ذلك ما حييت.
الفتى الفقير
وعلى عكس ما نتوقع فإن نيوتن لم يكن تلميذا نجيبا في البداية. ففي أثناء دراساته الأولى، أي في المدرسة الابتدائية، كان طفلا عاديا بل وأقل من عادي. كان مغفلا شارد الذهن ولا يهتم بالدروس. ولكن في سن الثانية عشرة التقى بالصدفة بشخص صيدلي زرع في نفسيته حب الكيمياء والعقاقير الطبية والتجارب العلمية.
وفي أواسط القرن السابع عشر عام 1656 عندما بلغ الرابعة عشرة أجبرته أمه على ترك المدرسة وطلبت منه العودة إلى البيت من أجل الاهتمام بالمزرعة العائلية. ولكن بما أنه لم يكن يحب الفلاحة والأعمال الزراعية فإن أمه قبلت على مضض أن يعود إلى مقاعد الدراسة من جديد لكي يكمل تعليمه بعد أن تفتحت روحه فجأة على حب المعرفة.
وعندئذ أرسلوه إلى جامعة كامبردج التي طالما خرّجت العباقرة. وهناك درس مؤلفات الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت. كما درس مؤلفات عالم الفلك والرياضيات الإيطالي غاليليو الذي مات في السنة التي ولد فيها نيوتن عام 1642، كما درس مؤلفات عالم الفيزياء الألماني كيبلر (1571 - 1630). وكان هؤلاء الثلاثة أكبر علماء أوروبا في ذلك الزمان بل إنهم هم الذين أسسوا العلم الحديث بالمعنى الحرفي للكلمة. وقد جاء نيوتن على أثرهم لكي يرسّخ أعمالهم ويضيف إليها إنجازات جديدة واكتشافات باهرة تفوقهم كلهم.
«جرثومة» العلم
ويقول لنا المؤرخون بأنه في عام 1665 اكتسح وباء الطاعون إنجلترا. واضطرت جامعة كامبردج عندئذ إلى إغلاق أبوابها. ومعلوم أن هذا الوباء كان يرعب الناس آنذاك لأنه كان يحصدهم بالملايين. ويقال بأنه قتل ثلث سكان أوروبا في إحدى المرات. ولكن ذلك لم يمنع نيوتن من مواصلة بحوثه العلمية في بيته بعد أن أغلقت الجامعة أبوابها. والواقع إن «جرثومة» العلم، أي حب المعرفة، كانت قد أصابته ودخلت إلى قلبه ولم يعد قادرا على التخلي عنها. وهنا تكمن إحدى سمات العباقرة. فهم يشعرون بأنهم مكلفون برسالة عليا تتجاوزهم. والغريب العجيب أنه في تلك السنة المرعبة استطاع نيوتن أن يحقق أعظم اكتشافاته. فقصة التفاحة التي سقطت على رأسه وهو جالس تحت الشجرة في أحضان الريف الإنجليزي الساحر حصلت آنذاك. وهي التي جعلته يكتشف قانون الجاذبية الكونية الشهير. لذلك دعيت تلك السنة من عمر نيوتن بسنة الإلهام الرائعة. ولكن يبدو أن قصة التفاحة هي عبارة عن أسطورة لأن نيوتن لم يذكرها أبدا ومعلوم أن الأساطير تنتشر أحيانا وتترسخ في عقول الناس أكثر من الحقائق الواقعية. الناس بحاجة إلى الأسطورة أكثر من حاجتهم إلى الحقيقة لأنها أحلى وأبهى. والحال أنه بدون أساطير خيالية عذبة لا يستطيع أن يعيش الناس. وهم يتعلقون بها وكأنها حقيقة فعلية لا أسطورة. ثم فتحت جامعة كامبردج أبوابها من جديد عام 1667 وعندئذ عاد إليها نيوتن لكي يتابع دراساته ويحصل على شهادة الماجستير. وعندما بلغ السادسة والعشرين من عمره عام 1669 أصبح أستاذا للرياضيات في الجامعة نفسها وظل يمارس هذه المهنة لمدة ستة وعشرين عاما. ولكن قبل ذلك كان نيوتن قد أرسل نظريته عن كيفية تشكل الألوان إلى الجمعية الملكية البريطانية. وهي أعلى هيئة أكاديمية في إنجلترا وربما في أوروبا كلها في ذلك الزمان. ولكن نظريته لم تلق الترحاب الذي كان يتوقعه فقد انهالت عليه انتقادات العلماء المتخصصين. وعندئذ عزل نيوتن نفسه أكثر فأكثر وقرر ألا ينشر شيئا بعد الآن. وراح يعيش حياة الوحدة والصمت ولكن دون أن يتخلى عن بحوثه. على العكس لقد ظل يواصلها بكل عناية وحماسة منقطعة النظير. وفي عام 1684 التقى نيوتن بعالم الفلك الإنجليزي ادموند هالي فشجعه هذا الأخير على نشر أبحاثه التي أعجبته جدا بل وأدهشته. وعندئذ نشر كتابه الشهير: «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» عام 1687 وهو من أعظم الكتب في تاريخ العالم كله وربما أعظمها على الإطلاق. وفيه يشرح حركة الكواكب في السماء ويكتشف القوانين الثلاثة للحركة ثم قانون الجاذبية.
وعندئذ حقق العلم قفزة هائلة إلى الأمام لا تكاد تصدق. عندئذ شعر الناس أنهم فهموا للمرة الأولى القوانين التي تتحكم بالطبيعة والكون. عندئذ شعروا أن نيوتن اكتشف لهم سر الأسرار ومجهول المجاهيل. وهذا ما شعر به الفيلسوف الألماني الكبير ايمانويل كانط الذي ولد بعد وفاة نيوتن بثلاث سنوات فقط. ولذا كتب عبارته الشهيرة: بعد روسو ونيوتن أصبح الإيمان مبررا ومشروعا. بمعنى أن روسو اكتشف القوانين الأخلاقية الحديثة ونيوتن اكتشف القوانين الفيزيائية والرياضية التي تمسك الكون. وبالتالي فالإيمان بالله الذي خلق الكون على أحسن تقويم أصبح مبررا ومشروعا بعدهما. وهذا يعني أن الإيمان الحديث القائم على نور العلم والعقل راح يحل محل الإيمان القديم القائم على التسليم الأعمى. وهنا يكمن الفرق بين إيمان العصور الحديثة المستنير/ وإيمان العصور الوسطى المظلمة أو الظلامية. ولكن كانط كان يعني شيئا آخر أيضا. لقد فهم أن الثقة بالعقل البشري أصبحت مبررة ومشروعة بعد اكتشافات نيوتن الهائلة. فإذا كان عقل نيوتن قد استطاع التوصل إلى فهم قوانين الكون الهائلة والعويصة فهذا يعني أن العقل البشري قادر على كل شيء تقريبا. وعلى هذا النحو شعر كانط بثقة كبيرة بنفسه وراح يبلور الفلسفة النقدية الحديثة على أسس راسخة علمية ويفصلها عن الميتافيزيقا والتهويم في متاهات الفراغ. لكأنه راح يقول بينه وبين نفسه: إذا كان نيوتن قد استطاع اكتشاف قوانين الكون والطبيعة فلماذا لا أستطيع أنا اكتشاف قوانين الفلسفة والفكر؟ ولهذا السبب قيل: لولا نيوتن لما كان كانط! هكذا نلاحظ أنه توجد علاقة وثيقة بين الفلسفة وتقدم العلم.
وفي عام 1703 وكان قد بلغ الستين من عمره انتخب نيوتن رئيسا للجمعية الملكية الإنجليزية بعد أن وصل إلى ذروة مجده. وعندئذ راح يتربع على عرش العلم الإنجليزي والأوروبي بدون منازع حتى توفي عام 1727.
ثم خلعت عليه الملكة «آن» لقب النبالة الاستقراطية وأصبح يدعى السير اسحاق نيوتن. وكان أول عالم يتوصل إلى مثل هذه المرتبة الرفيعة في المجتمع الإنجليزي. وعندما مات عام 1727 دفنوه في كنيسة ويستمنستر التي لا يدفن فيها عادة إلا أبطال الإنجليز وعظماؤهم. وهكذا وصل ذلك اليتيم الفقير ابن الفلاحين إلى أعلى المراتب ونال كل الأمجاد. وعوض بذلك عن طفولته البائسة الحزينة..
«مرض» العبقرية
نقول ذلك ونحن نعلم أن التحليل النفسي يفسر العبقرية على أساس أنها تعويض عن عقدة نقص أصابت الإنسان في طفولته الأولى. بدون مشاكل وعقدة نقص عميقة لا عبقرية. الناس السعداء وأبناء العائلات الغنية لا يمكن أن يصبحوا عباقرة. أهلا وسهلا إذاً بالمشاكل والفواجع بل وحتى بالكوارث! استبشروا خيرا أيها الناس كلما نزلت على رأسكم مصيبة بشرط ألا تكون قاتلة. ألم يقل نيتشه: الأزمة التي لا تقتلني تقويني؟ ولكن على الرغم من عظمة الإنجازات التي حققها اسحاق نيوتن إلا أنه وقع في حالة من الأعياء العصبي والاكتئاب النفسي بعد موت أمه الحبيبة عام 1692. ويقال بأنه سقط صريع الهذيان والجنون لفترة من الزمن. ولكنه تجاوز هذه المحنة بعد بضع سنوات من المعاناة والعذاب. وهذا يعني أن مؤسس العلم الحديث والعقلانية الحديثة لم يكن عقلانيا إلى الحد الذي نتصوره!. ويرى أحد علماء النفس أننا نجد لدى أب الفيزياء الحديثة كبقية الشخصيات التاريخية الكبرى نفس الظاهرة: وهي أنه كان يعاني من مرض عقلي حقيقي ولكن في ذات الوقت كان يتمتع بطاقة إبداعية خلاقة. بمعنى آخر: جنون هائج من جهة، وعبقرية خارقة من جهة أخرى. ويرى آخرون أن معظم العباقرة كانوا مصابين بلوثة جنونية معينة أو جرعات جنونية محددة. ولولاها لما أصبحوا عباقرة. وبالتالي فالتركيبة النفسية للعبقري لا يمكن أن تكون هي ذات التركيبة النفسية للإنسان العادي. حقا لقد دفع نيوتن ثمن اكتشافاته الكبرى غاليا. ولكنه قدم للبشرية أكبر خدمة يمكن أن تحلم بها.
العالِم المؤمن
لا يمكننا إلا أن نعجب بهذه العبارة العميقة للسير اسحاق نيوتن: «الجاذبية تفسر لنا حركة الكواكب. ولكنها لا تفسر لنا من الذي جعل هذه الكواكب في حالة حركة. من الذي أعطاها النقرة الأولى؟ وحده الله هو الذي يتحكم بكل شيء وييسر كل شيء. وحده الله عز وجل يعرف ما هو موجود أو ما يمكن أن ينوجد». هكذا نلاحظ أن أكبر عالم في التاريخ لم يكن ملحداً وإنما كان مؤمناً حقيقياً. وتنطبق عليه عبارة العالم الفرنسي الشهير لويس باستور: «القليل من العلم يبعد عن الله، والكثير منه يعيد إليه»!