د. المعز الوهايبي

آسيا جبار (1936 ـ 2015)، كاتبة جزائرية بلسان فرنسي، تطبع دراستُها للتاريخ منجزَها السردي. فالتاريخ، بعِيدُهُ وقريبُهُ، يحضر محورا مركزيا في مختلف رواياتها وقصصها (معظمها لم يُترجم إلى العربية)؛ بل هي تشكِل منه عالَمها الأدبي فتُحاوِر سِيَرا وأخبارا تاريخية، أضحت مقدسة إلى درجة ما بفعل التقليد، محاوَرَة تتبع فيها تقنية «الجَرح والتعديل» ـ إذا ما توسلنا بهذا المصطلح الفقهي ـ لكنها لا تجرح وتعدل بوصفها مؤرخة، وإنما بوصفها أديبة مخيِلة؛ فإذا هي تحل الزمن السردي محل التدوين التاريخي فاسحة المجال أمام المشافهة النسوية في مواجهة المكتوب الذكوري.
لفهم الاشتغال أدبيا، لدى آسيا جبار، على التاريخ لا بد من بسط طريقتها في تحويل مجرياته إلى زمنية temporalité كتابية؛ فلا يتعلق الأمر، هاهنا، بالزمن الذي تستغرقه حركة حدوث الشيء أنطولوجيا؛ وإنما باستجلاب أزمنة مختلفة وعركها في زمنية الكتابة. هي تنسج مؤلفاتها من خليط تاريخي وثقافي يشكل التراث الذي يبقى هاما لديها؛ فهي تحيل إلى أحقاب غابرة من التاريخ العربي الإسلامي، لكنها تحيل بالأساس إلى لحظة استعمار الجزائر في بدايات القرن التاسع عشر، ثم إلى خمسينيات القرن الماضي عندما اندلعت حرب الجزائر، أو إلى أحداث قريبة مؤلمة فجرتها الحركات المتشددة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعيناته في سعيها المحموم إلى تحويل وجهة البلاد.
ولكون الكاتبة امرأة؛ فإن ذلك من شأنه أن يؤثر في نوعية الكتابة لديها وفي أسلوب السرد وحتى في بنية اللغة. إلا أننا وإن كنا نهتم بهذا البعد، فإننا لا نهتم به، هاهنا، ضمن الاتجاه الموسوم بـ«النسوي» سواء استقر بعدُ مصطلحا واضحا أو لم يستقر. وإنما نهتم به من حيث هو يفيدنا في التقصي عن مكونات إنشائية النص الذي يكون مجمل أثرها الأدبي.
تأنيث التاريخ
فلما كانت الكتابة أسلوبا حيث الأسلوب لا تمييز فيه بين شكل ومضمون، فإن فاطمة التي تنتفض معترضة في رواية «بعيدا عن المدينة» (1991) هي فاطمة أسلوب الكاتبة، وجلوس سلمى بنت مالك في هودجها إبان معركتها ضد خالد بن الوليد هو حتما غير جلوسها في اللغة العادية وغير جلوسها في الواقع؛ إنه هودج يرتفع وسط غبار لغة آسيا جبار في معركتها ضد ما تناسته ذاكرة التاريخ وهي تنزاح بعيدا عن المدينة. بل هو جمل آخر ذاك الذي يتهادى في معهود اللغة، فزمنية تهادي الجمل في الكتابة هي زمنية فعل لغوي تخييلي في جمل متخيَل، وزمنية تهادي الجمل في اللغة العادية هي زمنية الإخبار عن جمل واقعي مشار إليه بعلامة «الجمل». وإذا كان يمكن قياس الفارق بين زمنية ما ينجز في اللغة العادية وزمنية ما يجري في الواقع قياسا كميا؛ فإن زمنية الكتابة بوصفها زمنية ذاتية إنما هي تقاس بغير مقياس الكم. ذلك أن زمنية الواقع عقارب الساعة أما زمنية الكتابة فمقياسها تمثلها بالقراءة والتأويل.
في هذه السردية الروائية للتاريخ تغدو سلمى بنت مالك، وأم الحكيم، وسجاح، وغيرهن أخوات صغريات تأخذ بأيديهن، قبل ألف وأربعمائة سنة، هذه الكاتبة الجزائرية (بعيدا عن المدينة) لتطلق ألسنتهن من جديد.. إنه نوع من الوجودية النسوية Existentialisme féministe.
هناك، إذن، ضرب من تأنيث التاريخ تصير بموجبه تلك المرأة المنتسبة إلى زمن الرسالة منتسبة إلى الراهن النسوي (النساء المقهورات والمنكسرات، ولكن أيضا النساء المتمردات في «بعيدا عن المدينة»)؛ فنصادف عندئذ نساء يستكملن بفضل الكتابة صورتهن التي بترتها فجوات الصمت الكثيرة التي تخترق التاريخ العربي الإسلامي.. فآسيا جبار تقول من خلال كتابتها بأن لها نصيبا في الماضي ولها شراكة مع تلك النسوة.
وهي تقول في «هذه الأصوات التي تحاصرني» (1999) «في ما يخص الديمومة التقي بنساء من أرض طفولتي، نساء من كل الأعمار (عجائز، أو شابات، أو حتى بنيات) راميات لي باستمرار حدة كلامهن، طلقات أصواتهن، ضحكاتهن، تنهداتهن المكظومة، وبعبارة واحدة لغتهن المتحركة، والحياة نفسها.. ولكل منهن كلامها». وإجمالا، فإن الوثاق الرابط بين كل رواياتها هو الصوت الراوي الأوتوبيوغرافي نسويا.
هكذا يجاور/‏‏ يزامن القرنُ العشرون القرنَ السابع في المدينة بالجزيرة العربية، والقرنُ الواحد والعشرون يزامن/‏‏ يجاور، في قصة «نساء من مدينة الجزائر بشقتهن» (1978)، القرنَ التاسع عشر. فالكتابة لديها فعل يُخرِج النسوة/‏‏ الطرائد من غفوتهن التاريخية فإذا بالسرد تمزيق لستائر التاريخ.

سردية الغياب
في روايته «أبيض الجزائر» (1995)، تسعى إلى أن تفهم بلدها من خلال إعطاء الكلمة للغائبين، أولئك المثقفين الجزائريين، وبخاصة غياب أصدقاء ثلاثة لها، تم اغتيالهم في 1993 (محفوظ بوسبسي، طبيب نفسي وكاتب. محمد بوخبزة، عالم اجتماع وكاتب. عبد القادر علولة، كاتب ومخرج مسرحي). فبما أنها لم تكن تعيش في بلدها، فإنها ولئن كانت تحتفظ بمسافة إزاء الأهوال التي هزته في التسعينات، فإن ذلك لا يحول دون سعيها بلا كلل إلى فهم مصادر الشر الذي أصابه، وبخاصة الاغتيالات التي طالت أصدقاء لها في العشرية السوداء. ولذلك فإن «أبيض الجزائر» هي رواية حداد في تذكير بلون المآتم في بعض بلدان شمال إفريقيا. فآسيا جبار إذْ تعطي الكلمة لموتاها إنما تجعل روايتها صرخة من خلف بياض الحداد ضد مواكب الجنازات التي كانت تتلاحق في جزائر تلك الحقبة. ولديها يتخذ الفقْدُ والغياب ملامح كثيرة ومتنوعة؛ فهذا الغياب هو الكلمة الثاوية في الصمت، وهذا يسمح لها باستعادة إبداعية لبعض حلقات حرب الاستقلال التي كانت قد مرت، هي بدورها، تحت جُنح الصمت. هذه الاستعادة من شأنها أن تنير التاريخ اللاحق للحرب الأهلية في التسعينيات. وفي الجملة، فإنها وهي تتذكر غائبيها لا تفعل غير أن تعيد بناء بلدها منذ العقود الغابرة إلى اليوم.
تتولى «لغة الموتى»، عنوان الفصل الأول من «أبيض الجزائر»، بسط ذكريات عن نقاشات كانت قد تمت قبل رحيل أصدقاء الكاتبة، بل وحتى ثرثرة من وراء الموت، وحوارات تخترعها آسيا جبار لحظة إنشاء قصتها. وهي تقول عن موت أصدقائها الثلاثة «يحل مصحوبا بصخب في الدم المسفوح، فهو يهز أجلنا ويغتصبه، يتركنا في لهاث». فمسار القص، في هذه الرواية وغيرها، تتخلله فقرات خارج سياق تعاقب الأحداث بحيث يمكن اعتبارها بمثابة الثقوب التي تجسّم الفراغ والغياب المقترنين بالصمت.
اضطلاع الكتابة بترميم الغياب يتحقق كذلك في كثير من أعمال آسيا جبار؛ فهي لا تفعل في «امرأة بلا لحد» (2002) غير أن تبني قبرا من السرد، بل مزارا من الكتابة لزليخة، تلك المرأة التي صعدت إلى الجبال للمقاومة في ربيع 1957، ثم اعْتُبِرت مفقودة بعد سنتين من إيقافها. هذا القبر السردي تُشيده الكاتبة من شهادات ابنتيها وهما تتحدثان عنها أما، ومن شهادات أخريات يتحدثن عنها صديقة وحبيبة. فإذا بالرواية نشيد ضد النسيان والتقاء حميم بنساء عادة ما ينساهن الخطاب، بما في ذلك الأدبي، قابعات في بيوتهن أو على هامش الأحداث. لكن هاهنا ننصت إليهن وننصت من خلال أصواتهن إلى زليخة تتكلم من وراء ستار غيابها.

شعرية الصمت
الماضي بالنسبة إلى نسائها هو الصمت. ولذلك هي تمد لهن حبل اللغة مشتغلة على إدراج الصوت المكتوم في كتابتها.
لكن كيف يمكن أن نعرف الصمت، ماديا، إن لم يكن بواسطة الغياب؟ وكيف نتعرف على هذا الغياب عندما ننشغل بنص مكتوب؟ في الواقع، كان رولان بارت قد تكفل من قبل بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة؛ وذلك في «الدرجة الصفر للكتابة». فمن بين الحلول التي يقترحها خلق كتابة بيضاء يحددها على أنها «محررة من كل خدمة لنظام للغة معلوم». لكن كتابة آسيا جبار بعيدة أن تكون بيضاء بالمعني الذي يقصده بارت. فهي تعبر عن الصمت بعلامات ومفردات مختلفة نجد من بينها «الإضمار» أو «الحذف» أو «الإيجاز» على نحو يتواتر بكثرة في «أبيض الجزائر»، وبتفاوت في «نساء من الجزائر المدينة في شقتهن». فضلا عن ذلك، هي تصف الصمت بجمل قصيرة أو بملخصات عن الأحداث التي دامت طويلا.
لديها تستحيل الكتابة فضاء للالتقاء بنساء محبوسات في التاريخ فإذا بها، عندئذ، تمكين وجودي جديد لنساء أخرستهن كتب الأخبار والسير. لكنها لا تتولى فقط إحياء نساء من التاريخ بل تحيي نساء من الاستشراق المتلصص؛ فكأن الواحدة من «نساء من مدينة الجزائر بشقتهن» تقول كونها تريد الخروج من لوحة ديلاكروا التي تتسمى باسمها القصة (رسمها في فرنسا سنة 1834). فهذه اللوحة ليست إلا علامة على انتماء خادع، تريد الخروج من هذا السكون الذي يغلفها بصمت النسيان، تريد التدثر بحرارة الكلمات. على أن بيكاسو قد مهد لها الطريق عندما تمثل لوحة ديلاكروا تكعيبيا (1954). فهي تؤكد، وهي تتأمل لوحته «لا أثق إلا بالباب المفتوح على الشمس تماما، الذي أقامه بيكاسو، فهو تحرير مجسد ويومي لهؤلاء النسوة». ونساؤه مرسومات عاريات كما في حمام قصتها الذي تدخل إليه بطلاتها. فهي تفهم عري النساء في اللوحة هكذا: «البطلات عاريات تماما، كما لو أن بيكاسو قد عثر على حقيقة المفردة المستخدمة في العربية، التي تماثل بين (مكشوفات) و(متعريات). كما لو أنه بهذه التعرية لا يضع فقط علامة تحرر، وإنما بالأحرى علامة ولادة جديدة لهؤلاء النسوة في أجسادهن»؛ لا خارجها. وهي ولادة أصواتهن أيضا حيث الجسد العاري لفاطمة، المدلكة، وقد عُرِك بكلمات النسوة وثرثرتهن تنبجس من مسامه حكايات النسوة ووشوشاتهن إذا ما تجولتْ في الجزائر المدينة كأن هذه المسام طبقات أصوات نساء أخريات كثيرات.
تسعى الكاتبة، إذن، وهي تفك الشفرات البصرية للوحتين إلى أن تنقل هؤلاء النسوة من إطار التشكيل إلى إطار القص، من الفضاء البصري إلى فضاء الحكي. فتحررهن باقتلاعهن من الموديلات التي خلقها الرسامان وتوفر لهن، في الوقت نفسه، تحررا عينيا بما أن الأمر يتعلق بتخليص المرأة من أفضية الانغلاق وبخاصة الحريم، أي إخراجها من دائرة الصمت. فهي تحيي بين هؤلاء النسوة النقاش الذي جمده ديلاكروا في اللوحة»؛ وقد خلعت عليهن أسماء وأخرجتهن إلى الفضاء العام مستخدمة لقصتها مسارات تعبير خاصة بالحلم (الذي يطغى على اللوحة)، حتى تستطيع أن تشتغل عما تخفيه صور الرسام.
وإذ تمد آسيا جبار حبل التعبير للنساء فهي تنطلق من الجسد بما هو لغة نحو الصوت. وفي ذلك لا تزهد البتة في وصف حوار الأجساد كما هو الشأن في «القبرات الساذجة» (1967): جسد رشيد وجسد زوجته نفيسة. الجسد يتكلم الأحاسيس، والرغبات، والطموحات التي تجعلها اليقظة قابلة للقراءة بوضوح. على أن لغة الجسد هذه ليست فقط ثمرة لرؤية الكاتبة بوصفها سينمائية أيضا؛ وإنما هي اللغة التي تستخدمها النساء تلقائيا عندما تعز القدرة على الكلام. ويضاف إلى ذلك أن الجسد والصرخة مقترنان حميميا. وهاهنا نلفي معجم الكاتبة غنيا: صراخ، نواح، لهاث، نحيب.. أصوات تمفصلها آسيا جبار لتحويل الصمت إلى عبارات.

«عروبة» الفرنسية
ظلت آسيا جبار طيلة مسيرتها الأدبية تستشعر إحراجا ملازما لها باستمرار في ما يخص كتابتها باللغة الفرنسية التي حولت إليها أصوات نسائها وصرخاتهن المحبوسة، نسائها اللواتي لا يعرفن هذه اللغة الدخيلة التي ينطقن بها في نصوص الكاتبة. وقد قالت هي نفسها ذات مرة بأنها تكتب بالفرنسية، لغة المستعمر القديم، التي أصبحت لغة تفكيرها، في حين أنها تواصل الحب، والألم، والصلاة أيضا بالعربية، لغتها الأم. أما العربية الفصحى، لغة القرآن، فهي تقول عنها في «الحب، المحفل» (1985) بأنها ذات قوة مؤثرة حيث «نلج إليها كما في الحب، بفحيح يخلب القلب». وقد كتبتْ أيضا في «هذه الأصوات التي تحاصرني»: «اللغة الفرنسية التي أكتب بها تقوم على موت لغاتي.. أما اللغة الأم فتنبثق من قبرها».