أنطوان جوكي
في سنّ المراهقة، مَن منا لم يعلن استقلاليته ويخرّب هندسة محيطه لاعتباره إياها بالية وخبيثة؟ مَن منا لم يُقدِم على اختطاف كتاب أو قلم أو أي شيء آخر، فقط كي يثبت لنفسه بأنه قادر على تجاوز أي محظور؟ مَن منا لم يقفز في الفراغ الملازم لسنّه كي يتذوّق المجازفة ويختبر حرّيةً مطلقة؟ خارج تصنيفات الراشدين وأبعد من حدود المجتمع، لا يملك المراهق سوى رغبة واحدة: تمزيق الغفلية التي تلفّه وإرساء فرديته.
من رحم هذه الرغبة انبثق فن الغرافيتي في ستينيات القرن الماضي، في نيويورك، قبل أن ينتشر في العالم أجمع، مستمدّاً طاقته من الضرورة الملحّة التي شعر بها ممارسوه -البخّاخون- لاقتلاع أنفسهم من الغيتوهات التي وُلدوا وترعرعوا فيها، والانتقام ممن شيّد الجدران الرمادية حولهم. فنّ الغرافيتي هو إذاً مراهقة نضجت قبل أوانها، أزمة وعي خلّاقة ومبكرة تتجدّد وتتعزّز باستمرار بفعلِ حيوية المنافسة بين ممارسيه، بفعلِ نشوة المجازفة الملازمة لفنّهم، وبفعلِ فيض الهورمونات الذي يدفع بهم إلى استكشاف فضاءات جديدة وهويّات جديدة.
غريزة الحية
«وحده فعل المقاومة يقاوم الموت، سواء اتّخذ شكل عملٍ فنّي أو شكل نضال»، كتب الفيلسوف جيل دولوز. وفن الغرافيتي يتضمّن هذين الشكلين معاً. فباقتياده البخّاخ المراهق بعيداً عن شرعية المحترف الذي لا يملكه أصلاً، يحرّره من الحواجز الثقافية كي ينتهك، بإبداعه، المحظور الاجتماعي الأوّل: عدم المساس بالملكية العامة أو الخاصة. ولأن الظرف الاجتماعي الذي يدفع فتياناً إلى أخذ قرار الخروج من غيتوهاتهم من أجل «تشويه» علامات العدو برسومهم، هو التالي: بؤس مستشرٍ في محيطهم، نظام تربوي في غيبوبة، عصابات ناشطة وقاتلة، مخدّرات في متناول اليد لمَن يرغب في الفرار من مأزق حياته؛ من الخطأ ردّ ممارسة هذا الفن إلى أزمة مراهقة عاديّة مع ما تتضمّنه من إيحاء بانعدام النضج وجهل الواقع. إنها شيءٌ آخر. فالعيش في بيئة خاضعة للظرف المذكور يعزّز غريزة الحياة ويسرّع بشكلٍ كبير عملية العبور إلى سنّ الرشد. ومن دون أن ننكر البُعد اللعبي والسعي خلف الشعور بالدوّار والنشوة والانتصار أثناء هذه الممارسة، لا يمكننا عدم التسليم بأن جوهر فن الغرافيتي ومحرّكه هما الغضب.
تلطيخ جدران المدينة بالرسوم سلوكٌ لا يختلف عن النزول إلى الشارع ورفع القبضة بسخطٍ ونقمة في وجه الطاغية أو المسؤولين السياسيين، فالدافع في الحالتين هو ضرورة مهاجمة قوانين وبنيات العالم الآخر بشكلٍ مباشر، العالم الذي حبسنا خارجه وهمّشنا إلى حدّ القطيعة وانحلال أي رابط اجتماعي بيننا. حركة «القوة السوداء» (Black power) في أميركا قامت في الأصل على إرادة اتحاد بين أفراد مهمّشين، السود والبورتوريكيين، لتحقيق هدف نضال مشترك. ويمكن طبعاً مقابلة جهد النضال الجماعي هذا بفردانية الفتى الذي يبخّ أحياناً اسمه، واسمه فقط، في مختلف أنحاء المدينة. لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فعلى رغم انعدام أي بيان جامِع، روح العصبة موجودة أيضاً بين البخّاخين، ولم تتوار لصالح فردانية قصوى في التعبير.
لكن بينما يفضّل المناضل الراشد إضفاء طابع رسمي على مطالبه، يحافظ البخّاخ المراهق على جسارته في المطالبة عبر القذف برسومه وتخطيطاته دون الخوف من المغالاة. يقذف بهامشيّته، يمنحها اسماً حربياً ويحوّلها إلى عملٍ بصري، إلى علامة تتجاوب أصالتها الفنية مع إرادة القوة والفرادة المتجدِّدتين لديه، علامة تدلّ على حضوره وتقول بلغته: «أنا في كل مكان». جنوحٌ في مواجهة التحلل والاختفاء؟ لمن لا يفهم هذا السلوك، إنه نزعة مدمِّرة، وللمقتنِع باصطفافه الاجتماعي، إنه نزعة مسمِّمة، في حين أنه في الواقع الوسيلة التي يُشيّد فتى الغيتو نفسه بواسطتها ويبلور علاقة جديدة، وإن نزاعيّة، مع الجماعة. علاقة لم يعد إطارها مفروضاً عليه لأنه هو مَن ابتكرها وفرضها بلغةٍ لا يستطيع فكّها إلا هو وأمثاله. وفي ذلك تناقضٌ في مسعاه الترويجي لنفسه يثير الإعجاب. فهو لا يكتفي بتحدّي مجتمع وسط المدينة عبر مقابلة لغة الإعلانات الدعائية المنتشرة فيه، باسمه أو رسومه. فلأنه مبدع قبل أي شيء، يقوده تحرّره الشكلي من أي ضابط أو مرجع فنّي إلى صوغ مفردات تعبيرية وتشكيلية خاصة به وحده. وفي وجه التلوّث البصري الناتج من غزارة هذه الإعلانات، يبتكر علامات جديدة، علامات مضادّة، محوّلاً الكلمة إلى عملٍ فنّي ومكوّناً مجتمعه الخاص من أولئك الذين يفهمون كلامه المبخوخ.
لغات فريدة
وتشكّل إعادة استثمار فضاءات المدينة فنّياً سلاحاً فعّالاً ضد الإقصاء الجغرافي والثقافي. فبإغراقه المجتمع «النظيف» والوظيفي برسومه واسمه، يحوّل البخّاخ ديكور المدينة -التي باتت أشبه بمركز تجاري- إلى مكتبة كبيرة تسجّل كل مداخلة فنية له فيها ذكرى عبوره وتذكّر بوجوده. لكن ثمة مفارقة معبِّرة في عملية الترويج للذات التي يضطلع بها، تكمن في طبيعة رسومه أو تخطيطاته الملغَّزة، وبالتالي في تعذّر فكّها وقراءة مضمونها من قبل قاطني وسط المدينة. مفارقة تعكس في الواقع عدم توق البخّاخ إلى بيع هؤلاء أي شيء أو إلى نيل شهرة أو نجاح داخل مجتمعهم، فطموحاته تقنية، أسلوبية، واستراتيجيته الترويجية حربية ولا تتضمن أي بُعد تجاري.
وفعلاً، بقدر ما يتطلّب هذا «الجنوح» الفني ذكاءً بصرياً ومهارات رسامية، تتضمّن ممارسته خطراً أكيداً. فالبخّاخ لا يرسم في أي مكان، بل يختار بفطنة المواقع التي توفّر أفضل إمكانية انقشاع لرسومه. ولأن هذه المواقع غالباً ما تكون خاضعة للمراقبة أو الحراسة، يطوّر استراتيجيات اختراق وتسلُّل شبه عسكرية لبلوغها. وخطر قمعه أو توقيفه أثناء ذلك هو الذي يجذبه إلى هذه الممارسة ويفسّر بالتالي افتتان المراهقين المهمّشين عبر العالم بهذه الوسيلة التعبيرية.
ومن نشوة العلامات المرسومة، من نشوة الأجساد التي تخطّها وتنشرها في الفضاء المديني، يمكننا استخلاص لغات (idioms) فريدة ومختلفة تردّنا مفرداتها التعبيرية والتشكيلية إلى خصوصيات تقنية وبصرية. فلكل أسلوب اسمه، مبتكره، هالته الصوفيّة والأسطورة التي يسيّرها. وفي تداخُل الكلمات والأشكال العضوية أو الهندسية، في طفرة العلامات وعربدة الألوان، ثمة توكيد لهوية فنية فريدة، وثمة أيضاً رغبة في تجاوز الذات والآخر الممارِس لهذا الفن، على مستوى المهارات الموظَّفة. وبينما تبدو الخطوط حيّة في هذا العمل أو ذاك، تتّخذ طابعاً عنيفاً أو قاطعاً مثل سكين في أعمالٍ أخرى. وسواء كانت تجريدية أو تصويرية، مستقبلية أو شديدة الواقعية، تعيد هذه الأعمال هندسة الركيزة المبخوخة عليها (مبنى، رواق، نفق، جسر...)، والتي غالباً ما تكون في حالة مزرية، فتبثّ الحياة فيها وفي محيطها، مفجِّرةً رتابة خطوطها وبهتان ألوانها.
وفي قدرته على الارتقاء بالمبتذَل أو الرثّ أو الطَّلل، على الاقتصاص من الترويج الدعائي، وعلى ضخّ معنى جديد داخل الكارثة المدينية الواقعة، ثمة مَن يرى في الفتى البخّاخ كاهناً ساحراً. ألا تعلن موجة رسومه المرتجَّة مراسم ذبيحة؟ ألا تجعل ترخيماته البصرية وخطوطه الـ«هيروغليفية» من المدينة مخطوطاً مفتوحاً على تجلّيات؟ الأكيد هو أن حروف لغته المتحوّلة على الجدران تصير استعارات ويصبح اسمه المخطوط ركيزة لمعرفة روحية ملغَّزة.
لكن ماذا عن أهمية الغرافيني كفنّ؟ هل هو فنّ قاصر كما يدّعي بعض النقّاد؟ بذاته وبالرسالة السياسية التي يسيّرها، يبرّر فعل البخّ كلياً العمل الناتج منه ويعزز قيمته الجمالية. ولأن الشروط التي يمارس البخّاخ فيها فنه تختلف كلياً عن الرسم في المحترفات، لا يمكن الحكم على عمله بالتطلّب الفني والمسلّمات التاريخية والثقافية التي نحكم بها على عمل فنان تشكيلي عادي. فقبل أي شيء، علينا أن لا ننسى أن هذا الفن قادم من الغيتوهات وليس من أكاديميات الفن والمتاحف. ولأن ممارسه لم يخضع لمنهج تعليمي محدَّد ومتَّفق عليه، بل لحالة إقصاء وتهميش وبؤس، يتوجّب أخذ هذا البُعد السوسيولوجي في الاعتبار قبل اتّخاذ أي موقف نقدي من عمله. يتوجّب أيضاً عدم نسيان أن البخّاخ يعمل غالباً بشكلٍ سريع وطارئ كي يتجنّب القمع أو التوقيف أثناء نشاطه، الأمر الذي يحدّد فعل خلقٍ يختلف كلياً عن السيرورة الكلاسيكية. وفي حال أضفنا أن الفنّ الذي يمارسه هو شكل تعبيري مفتوح، لخضوع الأعمال الغرافيتية غالباً لتدخّلات وإسهامات متعاقبة على يد بخّاخين مختلفين، الأمر الذي يلغي مفهوم الملكية الفنية، يصبح من المتعذّر مقاربة ثماره كما نقارب لوحة تقليدية مُنجَزة ومعلّقة على جدار.
ومع كل ذلك، منحتنا هذه الممارسة وجوهاً فنّية مهمة، بعضها بات يحظى بشهرة دولية يستحقّها، مثل بانسكي وشيفرد فيري وسوون وإنفيدر وجي آر، علماً أنه من المستحسن، في نظرنا، مقاربتها كلغةٍ أولاً قبل تقييمها كفنّ. وحين نفعل ذلك، لن تفوتنا روابط القرابة الشديدة التي تجمعها بالفن التصوّري والحروفية، كما لن تفوتنا جماليات مفرداتها وغناها بالدلالات.