«سارة» امرأة العقاد الحقيقية
كتب الاديب والمفكر الراحل عباس محمود العقاد رواية واحدة هي “سارة”، صدرت طبعتها الأولى عام 1938 والثانية في 1943، وتوالت طبعاتها الى اليوم، وقد شغل النقاد أنفسهم بالبحث في الأسباب التي دفعت العقاد الى ان يدخل عالم الرواية، فبينهم من ذهب الى أنه ربما أراد أن يمارس جنسا أدبيا جديدا، وبعضهم قال انه يريد انه يجرب الكتابة في كل المجالات، ولم يكن هذا ولا ذاك دقيقا، فلو صح ذلك لوجدنا العقاد يكتب المسرحية والقصة القصيرة، لكنه لم يفعل.
العقاد نفسه سخر من هؤلاء جميعا في تقديمه للطبعة الثانية لرواية “سارة” حين قال “كتبت هذه القصة ـ فيما زعم بعضهم ـ لغير شيء إلا أنني أردت أن أجرب قلمي في القصة.. لهذا السبب وحده كتبت سارة. وهو سبب قد يصح أو يكون له نصيب من الصحة لو أنني اعتقدت أن القصة ضريبة على كل كاتب، أو اعتقدت أن القصة أشرف أبواب الكتابة في الفنون الأدبية، أو اعتقد انني مطالب بالكتابة في كل موضوع تجول فيه أقلام المؤلفين”. ثم يقول “ولست أعتقد شيئا من ذلك، فإن القصة عندي لا تعدو أن تكون بابا من أبواب الكتابة الأدبية ليست بأشرفها”.
هجاء الرواية
العقاد لا يستريح كثيرا للرواية ويندد باحتفاء الشيوعيين بها واعتبارهم انها فن يعبر عن “الطبقة الدهماء” وفيما بعد في عام 45 سوف تنشب معركة بينه وبين نجيب محفوظ حول فن الرواية - لكنه في مقدمة “سارة” يقول إن رواية سارة كانت في ذهني وكنت قد نويت ان اكتب قصة سارة لأنها تجربة نفسية لابد ان تكتب في يوم من الايام وان كنت قبل كتابتها فقد ارجأتها من حين الى حين متخيرا الوقت ملاحظا ما تقتضيه دواعي التفصيل والاجمال.
عادة ينفر الروائي من ان يطابق الناقد بين روايته وبعض تجارب حياته والروائيات العربيات يعانين هذه الحالة ووحده بين الروائيين يعترف العقاد بأن سارة تعبر عن تجربة خاصة في حياته مر هو بها وصرح مرارا في احاديث صحفية حتى قبل وفاته بسنوات محدودة بأن “سارة” كانت شخصية حقيقية في حياته ومن هذا التصريح لامه بعض القراء. لأن اسم “سارة” يرمز الى امرأة يهودية أو اسرائيلية وإن لم تكن ذلك فهي اجنبية واضطر الى ان يدافع عن نفسه نافيا ان تكون سارة اسرائيلية أو اجنبية ومن هذا المنطلق بدأ البحث عن هوية تلك المرأة.
الباحث المدقق احمد حسين الطماوي من آخر العقاديين وكان تلميذ العقاد ومن رواد صالونه والمترددين عليه لكنه لم يكن الاقرب اليه والطماوي قام بتحقيق شامل حول هذه الشخصية، وقدم لنا كتابه “سارة العقاد”.
الطماوي يأخذ على الباحثين العرب عدم اهتمامهم بمثل هذه القضايا فهم يخجلون من أن يذكروا أو يعلنوا ان كاتبا كبيرا مر بتجربة عاطفية وهم كذلك يتجنبون ذكر اسم الفتاة او السيدة التي عرفها الكاتب حتى لا يحدثوا مشكلة لأي طرف، بينما في الآداب الغربية يعرف ذلك مثلا بات معروفا غادة الكاميليا لديماس الصغير هي “الفونسين بليس” وان شارلون صديقة الشاعر الألماني جيته هي بطلة “الام فرتر” وغير ذلك فإن الرواية التي كتبها موليير لها بطل حقيقي هو “شاربي دي سانمت كروا” وكان دجالا يتظاهر بالتقوى.
والقاعدة لدى الطماوي هي ان الشخصيات التي تطل علينا في الاعمال الروائية والقصصية ليست كلها من وحي الخيال بل لها اصل في الواقع وإن حاول الكاتب ان يخفي بعض معالمها وبهذا المعنى انطلق الى سارة يبحث عنها.
أليس أو سارة
سارة هي الكاتبة والمترجمة “أليس داغر” ولها اسم آخر هو “أليس عبده هاشم” وهي ابنة الرائدة والكاتبة المعروفة لبيبة هاشم مؤسسة مجلة فتاة الشرق، وتزوجت أليس من صحافي سوري كان مقيما في مصر ومؤمنا بالعروبة هو عبده هاشم وحملت اسمه. وكان طاهر الجبلاوي قد نشر كتابا عن المرأة في حياة العقاد اشار فيه الى ان سارة ابنة رائدة نسائية في الصحافة وكاتبة طليعية، واهمية الجبلاوي انه صديق العقاد والذي ورد اسمه في الرواية “أمين” والذي كلفه البطل بمراقبة سارة لشكه في سلوكها ثم كتب بعد ذلك عبدالرحمن صدقي في مجلة الهلال عام 72 ان سارة كانت كاتبة ومترجمة وكانت توقع مقالاتها باسم “أليس داغر” وصدقي كان صديق العقاد الصدوق ومحل ثقته.
كان العقاد قد تعرف بأليس عام 1924 حين ذهب الى احد البنسيونات في شارع الازهر بمصر الجديدة ليزور صديقه د. صبري السربوني حيث كان يقيم ولم يجده والتقى صاحبة البنسيون وكانت سيدة ايطالية متحضرة وكانت اليس هناك معها فدار حوار بينهما واتفقا على اللقاء في اليوم التالي في احدى الحدائق بمصر الجديدة ثم زارته في بيته اليوم الثالث وهكذا كانت العلاقة حتى وهن الحب وضعف واخذه الشك في سلوكها وكان ما كان مما اورده في الرواية لكن الصداقة بقيت بينهما.
كانت أليس تجيد عدة لغات من بينها الانجليزية والفرنسية والايطالية والألمانية وكانت تترجم عنها.
وتتبع الطماوي حياة أليس داغر قبل ان تعرف العقاد ويرصد تفاصيل العلاقة بينهما حيث كانت قد التقته إثر انفصالها عن زوجها وشكت للعقاد من هذا الزوج الذي كان يكبرها كثيرا ولم يكن مناسبا لها فقد تزوجته لأن اسرتها ارادت لها ان تتزوج على النحو المعروف في الاسر العربية التي تتخوف على بناتها من شبح العنوسة.
الطماوي ذهب الى مجلة “فتاة الشرق” التي كانت تنشر بها أليس داغر وجمع مقالاتها المكتوبة او المترجمة ونشرها في نهاية بحثه ليقدم للقاريء انتاج كاتبة لم يهتم بها الدارسون ولا النقاد ولا عرفوا انها هي “سارة” العقاد.
الطريف ان العقاد غضب من تعقيبات النقاد وتعاملهم مع الرواية حين راحوا يخمنون اسبابا لكتابة الرواية واعتبر ذلك من باب “حب الانتقام والتشويه” الذي هو “غريزة في بعض الناس” وللرد عليهم قال “من الحق ان يلقموا حجرا حينما كانت الحجارة بهذا اليسر وبهذا الافحام”. أما الحجر الذي قرر ان يلقمه النقاد فهو انه راح يؤكد ان سارة شخصية حقيقية وادلى ببعض صفاتها التي قادت الطماوي الى من تكون هي على وجه التحديد.
ترى هل يغري هذا البحث وتلك الدراسة بعض الدارسين بالتفتيش في بعض اعمال كبار الأدباء العرب وإعادة البحث حولها، وربما ادى ذلك الى اكتشافات مهمة وجديدة للحياة الثقافية.