كثيرون من الكتّاب نشروا وتحدّثوا عن خبراتهم في الكتابة، لكن قلّة هم الذين كشفوا عن تجارب فنّية مميزة في هذا المجال. الكاتب التشيكي العالمي ميلان كونديرا يعد أحد أبرز من كتبوا عن فن الرواية من وجهة مختلفة، وبتصورات ما بعد حداثوية؛ بعد تجربة لافتة له في تجديد بناء النص السردي بأشكال مفارقة لما سبقها. صاحب «كائن لا تحتمل خفته» و»كتاب الضحك والنسيان» يبدو، وهو يؤلف عن فن الرواية، كأنّه لا يريد أن يحدد قاعدة ومنطلقات لهذا الفن، مع أنه إذْ يتحدث عن تجربته ويتناول كتابات وأساليب من سبقه وعاصره، يكون قد قدّم تصوره، أيضاً، في معظم السجالات المتعلّقة بالرواية. في حوار معه نشر في كتاب «فن الرواية»، ترجمه للعربية بدر الدين عرودكي، دار الأهالي، دمشق1999 يتحدث عن المؤلف الموسيقي ليوس ياناسيك الذي بدأ ثورته حين أدرك «أن توليفة الأوركسترا ترزح تحت وطأة علامات موسيقية لا فائدة منها»، من خلالها يتبع الموسيقيون متواليات تقنية، محددة مسبقاً «إذ باستطاعتهم على الأقل وضع سوناتا دون أي فكرة جديدة، وذلك عن طريق تفصيل قواعد التأليف الموسيقي على نحو سيبرنيطيقي». مع الرواية، وجد كونديرا «الشيء ذاته تقريباً: هي الأخرى مرهقة بـ (التقنية) بالمواضعات التي تعمل بدلاً من المؤلف: عرض شخصية ما، وصف بيئة ما، إدخال الفعل في وضع تاريخي ما، ملء الامتداد الزمني لحياة الشخصيات بحلقات غير مفيدة؛ كل تغيير في الديكور يتطلب عروضاً وأوصافاً وشروحاً جديدة». وإذا كان هدف ياناسيك هو تدمير (العقل الالكتروني) المتواجد في رؤوس المؤلفين الموسيقيين، فبدلاً من الجسور المتسلسلة المتتابعة «تقريب مفاجئ للألحان، وبدلاً من التنويعات، التكرار، والمضي دوماً إلى قلب الأشياء: وحدها العلامة الموسيقية التي تقول شيئاً جوهرياً تملك الحق في الوجود»، فإن هدف كونديرا كهدف ياناسيك: «تخليص الرواية من آلية التقنية الروائية، واللفظية الروائية، وجعلها كثيفة»؛ فما يسحب مظهر الرواية «هو غياب وحدة الفعل»، وهي وحدة «من الصعب علينا تصور رواية بدونها». ومع إعطائه أهمية للوحدة الثيمائية التي تضمن تماسك الرواية، يرى «أن شكل الرواية هو حرية شبه غير محدودة». رواية الكائن المنسي مبرر وجود الرواية عند كونديرا هو «اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها دون سواها أن تكتشفه»، حسب عبارة هيرمان بروخ التي يرددها كثيراً. فالرواية «هي تأمل في الوجود تتم رؤيته عبر شخصيات خيالية». وهي تصاحب «الإنسان على الدوام وبإخلاص منذ بداية الأزمنة الحديثة». لقد صار الإنسان الذي ارتقى سابقاً مع ديكارت «مرتبة (سيّد الطبيعة ومالكها) مجرد شيء بسيط في نظر القوى (قوى التقنية، والسياسة، والتاريخ) التي تتجاوزه، وترتفع فوقه، وتمتلكه. لم يكن لكيانه العياني، لـ(عالم حياته) في نظر هذه القوى أي ثمن ولا أي مصلحة: فقد انكسف، ونسي سلفاً»؛ لكن إذا كان صحيحا، كما يقول «أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان، فإنّه يظهر بوضوح أن فنّاً أوروبياً كبيراً قد تكوّن مع سرفانتس، وما هذا الفن إلاّ سبر هذا الكائن المنسيّ». مع هذه الملاحظة ينحو كونديرا في قراءته لتاريخ الرواية منحى يكتشف فيه «أن جميع الثيمات الوجودية الكبرى التي يحللها هيدغر في كتابه (الكينونة والزمان) معتبراً أن الفلسفة الأوروبية السابقة كلّها قد أهملتها، إنّما تم الكشف عنها، وبيانها، وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية (أربعة قرون من إعادة التجسيد الأوروبي للرواية). لقد اكتشفت الرواية، واحدة بعد أخرى، بطريقتها الخاصة، بمنطقها الخاص، مختلف جوانب الوجود: تساءلت مع معاصري سرفانتس عما هي المغامرة، وبدأت مع صموئيل ريتشاردمسون في فحص (ما يدور في الداخل)، وفي الكشف عن الحياة السرية للمشاعر؛ واكتشفت مع بلزاك تجذّر الإنسان في التاريخ؛ وسبرت مع فلوبير أرضاً كانت حتى ذلك الحين مجهولة، هي أرض الحياة اليومية؛ وعكفت مع تولستوي على تدخّل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري. إنها تستقصي الزمن: اللحظة الماضية التي لا يمكن القبض عليها مع مارسيل بروست؛ واللحظة الحاضرة التي لا يمكن القبض عليها مع جيمس جويس. وتستجوب مع توماس مان دور الأساطير التي لا تهدي، وهي الآتية من أعماق الزمن، خطانا، إلخ، إلخ». روايات كونديرا عبارة عن تنويعات على المعمار ذاته القائم على الرقم سبعة، وذلك، حسب قوله، ليس «افتتاناً وهمياً برقم سحري، ولا حساباً عقلانياً، بل أمر عميق، ولا واع، غير مفهوم، أي كل ما لا أستطيع الإفلات منه». في رواية «المزحة» نجد هذا النظام الرياضي، كما يشرحه المؤلف الذي يقارن الرواية بالموسيقى: «إن الجزء هو حركة. أما الفصول فهي وحدات القياس. ووحدات القياس هذه هي إما قصيرة أو طويلة أو ذات ديمومة غير منتظمة». ولهذا كل جزء من رواياته «يمكن أن يحمل إشارة موسيقية تدل على إيقاعه: موديراتو، برستو، آداجو، إلخ» والتي تشير إلى طبيعة حركة العازفين: بطيئة، شديدة السرعة، حالمة، إلخ. وهكذا، فإن «نظام الديمومة في (المزحة) هو على هذا النحو: قصير جداً، قصير جداً، طويل، قصير، طويل، قصير، طويل. أما في (الحياة في مكان آخر) فالنظام معكوس». خيانة الوصايا في كتابه «خيانة الوصايا» (ترجمه إلى العربية لؤي عبدالإله، دار نينوي، دمشق 2000) يوسع كونديرا موضوعات كتاب «فن الرواية»، وفيه يلاحظ أن «الروائي المعاصر، الذي يشتاق إلى الحرّية المرنة، التي كتب بها المؤسسون الأوائل» لا يستطيع «أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر. إذ عليه أن يجمع الحرّية مع متطلبات التأليف القاسية» في الكتابة والتخطيط المنظم، الصارم. ويشدد على أن «في عالم الرواية النسبي ليس هناك موقع للكراهية: المؤلف الذي يكتب رواية لتصفية حسابات شخصية (أو أيديولوجية) لا يحصد سوى عالم مخرّب جماليا». وإذا كنت الرواية فنا وليست فقط (جنسا أدبياً)، فالسبب «يعود إلى أن مهمتها الانطولوجية يكمن في اكتشافها للنثر، وهذه المهمة لا يمكن أن يؤديها أي فن آخر عدا الرواية بشكل كلي»؛ والنثر «ليس فقط نوعا من الخطاب المختلف عن الشعر، بل هو أحد أبعاد حقيقة الواقع، إنه بعدها اليومي المحسوس، الآني، وهو العنصر المقابل للأسطورة». من هذا المعاش اليومي، يرى كونديرا (الستارة، ترجمة معن عاقل) أن الشخصيات الروائية لا تستدعي أن نحبّها لفضائلها، بل «تحتاج أن نفهمها» فـأبطال الملحمة «ينتصرون، أو إذا هزموا يحتفظون حتى الرمق الأخير بعظمتهم. دون كيشوت هزم، وبلا أية عظمة، لأن كل شيء يتضح في الحال؛ الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة. والأمر الوحيد الذي بقي لنا إزاء هذه الهزيمة المحتومة التي ندعوها الحياة، هي محاولة فهمها. وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية». التشيكي المتمرد ولد ميلان كونيدرا في الأول من ابريل للعام 1929 لأبٍ وأمٍ تشيكيين. كان والده، لودفيك كونديرا (1891 ـ 1971) عالم موسيقى ورئيس جامعة برنو. كتب كونديرا بواكير شعرية أثناء المرحلة الثانوية. بعد الحرب العالمية الثانية عمل كتاجر وكعازف على آلة الجاز قبل أن يتابع دراسته في جامعة تشارلز في براغ حيث درس علم الموسيقى والسينما والأدب وعلم الأخلاق. تخرج في العام 1952 وعمل بعدها أستاذاً مساعداً ثم محاضراً لمادة الأدب العالمي في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية. في أثناء هذه الفترة نشر شعراً ومقالاتٍ ومسرحياتٍ والتحق بقسم التحرير في عدد من المجالات الأدبية. انضم كونديرا إلى الحزب الشيوعي العام 1948 تحدوه الحماسة شأنه شأن العديد من المثقفين التشيكيين آنذاك. في العام 1950 تم فصله من الحزب بسبب نزعاته الفردية لكنه عاد للالتحاق بصفوفه ابتداءً من العام 1956 حتى العام 1970. عمل كونديرا خلال خمسينيات القرن الماضي ككاتب ومترجم مقالات ومؤلف مسرحيات، ونشر في العام 1953 أول دواوينه الشعرية إلا أنه لم يحظ بالاهتمام إلا مع مجموعته القصصية الأولى «غراميات ضاحكة» 1963. بعد الغزو السوفياتي لتشكوسلافاكيا بتاريخ 21 أغسطس 1968 فقد كونديرا وظيفته كمدرس بحكم أنه كان من طليعيي الحركة الراديكالية فيما عرف باسم (ربيع براغ) كما منعت كتبه من التداول في المكتبات وفي كل أنحاء البلاد بشكل كامل العام 1970. في العام 1975 أصبح كونديرا أستاذاً ضيفاً في جامعة رين في بريتاني، فرنسا. وكردة فعل على روايته «كتاب الضحك والنسيان» 1978 تم إسقاط الجنسية التشيكية عن كونديرا لكنه حصل على الجنسية الفرنسية في العام 1981. منذ العام 1985 أصر كونديرا على إجراء حوارات مكتوبة فقط ذلك بسبب شعوره أنه تم نقله بشكل مغلوط أحياناً إلى اللغات التي ترجمت إليها أعماله، وهو يقول عن هذه النقطة بالتحديد في أحد الحوارات معه: «للأسف، فإن من يقومون بترجمة أعمالنا، إنما يخوننا، إنهم لا يجرؤون على ترجمة غير العادي وغير العام في نصوصنا، وهو ما يشكل جوهر تلك النصوص. إنهم يخشون أن يتهمهم النقاد بسوء الترجمة وليحموا أنفسهم يقومون بتسخيفنا». أولى أعماله التي كتبها باللغة الفرنسية كانت «فن الرواية» 1986 ومن بعدها رواية «الخلود» 1988. وبكون كونديرا محاضراً في مادة علوم اللغة المقارنة في جامعة رين لعدة سنوات، تمكن من توقيع عقد مع دار غاليمار الشهيرة ابتداءً من العام 1978.