صمت
ببرودة مستفزة أخرج الطبيب ورقة ملونة من جهازه المؤتمت، قبل أن يردف ببساطة من يرد التحية بمثلها: ''كما توقعنا، إنَّه ورم في الحبال الصوتية، لا ندري بعد إذا كان حميداً أو خبيثاً، علينا أن نستخرجه ونخضعه لزراعة مخبرية في البداية، ثم نقرر الخطوة التالية لاحقاً·· يجب أن تتوقف عن التدخين··''
هكذا بدا الأمر أشبه بفاتورة حساب تأخرت بعض الوقت، وكان الظن أنها دخلت في أدراج النسيان، لكنَّ منظر الطبيب وهو يقبض على تلك الصورة الملونة بيده كان حقيقياً إلى درجة مرعبة، لقد حان وقت تصفية الحسابات، والجسد البشري بدا هو الآخر أشبه بجهاز مؤتمت، يماثل جهاز الطبيب في دقته وصلادته، حيث لا يمكن لأي خلل مهما بدا ضئيلاً أن يضيع أو يتلاشى، دقة أقل ما يقال فيها إنَّها مفزعة إلى حدود الضحك·
متعة السيجارة صارت أثراً بعد عين، وكونها رفيقة اللحظات المصيرية الحاسمة، والشاهدة على ولادة الأفكار الخطيرة والقفشات الموغلة في طرافتها، لم يشفع لها· هي تحولت، في لحظة صمت تلت كلام الطبيب، إلى عشير خائن، استغل اللحظات الحميمة في إلحاق الأذى بعشير حسبه وفياً مخلصاً·
في لحظة واحدة تبدلت مفاهيم وتعدلت قيم، وكان على الجسد الذي طالما حسب نفسه فتياً متمرداً على علامات الضعف والوهن أن يخضع لقوانين الجاذبية باستلاب كلي، باختصار انتهى زمن الحرية في الحركة والسلوك، وجاءت مرحلة الالتزام بأوامر من كان في الأمر عليماً· وكان في سلوك أصحاب الياقات البيضاء ما يعكس ثقة من جانبهم بكونهم المرجع والخاتمة في نهاية المطاف، وأنه لا بد من العودة إليهم في زمن الجد مهما طالت مرحلة العبث واللعب· وهي قصيرة دوماً، أو هكذا تبدو لحظة انتهائها·
ورم صغير في الحبال الصوتية يضع المرء أمام تحدي الخاتمة المرعبة، تتلاشى الأحلام والهواجس، وتتراجع التحديات، يصير الفوز رديف الفشل، ويتحول الربح إلى شكل آخر للخسارة، النجاح والرسوب يصبحان وجهين لعملة واحدة هي الحياة الآيلة إلى نفاد·
متاهة طويلة أعقبت الموقف العصيب:، ياقات خضراء، غرف العمليات الباردة، ومصابيح مثلثة معلقة في السقوف، كان الظن أنها متواجدة على الشاشات الصغيرة والكبيرة فقط· في النهاية نفس الإشارات المحايدة ارتسمت فوق ملامح طبيب آخر، وهو يقول: ''الورم ليس خبيثاً، تحتاج إلى صيام عن الكلام لأسبوعين، حتى يلتئم جرح الحبال الصوتية''· هكذا إذن أسبوعان من الصمت هما فترة ضرورية للتفكر في رسائل الحياة، ومن بعيد تبدو السيجارة عنصر إغواء قاتل، وثمة قواعد وشروط صارمة تعرض جائزة على المتقيدين بها: وقت بدل من ضائع، لمزيد من اللعب المقونن·
علي العزير