هدى النعيمي: الإشعاع الخفي القادر على التغيير يقرِّب النص الأدبي من العلوم الفيزيائية
التأمل وقف وراء اختيارها التخصص في العلوم الفيزيائية، غير أن الفيزياء ليس مجال التخصص الوحيد الذي استقطب القطرية هدى النعيمي التي تخرجت في جامعة قطر، والحاصلة على الدكتوراه في الفيزياء الحيوية من القاهرة والماجستير في الفيزياء النووية من القاهرة، كونها متعاونة دائمة مع وزارة الثقافة وعضوة في المجلس الوطني للثقافة سابقاً، وعضوة في مجلس إدارة الجسرة الثقافي، ولها أبحاث في المجال العلمي فضلا عن مجموعات قصصية في الأدب.
هدى النعيمي مخلصة لعملها الوظيفي المستند إلى العلوم الفيزيائية غير أنها تحاول جاهدة في الوقت نفسه أن تظل محلقة في الفضاء الإبداعي والأدبي تحديدا، فجمعت بين الفيزياء وما تحمله من نظريات في المرئي واللامرئي وبين الحالة القصصية وما تتضمنه من أدوات فنية تروي الواقع بلغة تحمل أكثر من مجرد كلمات. “الاتحاد” التقت هدى النعيمي وأجرت معها الحوار التالي
? البيئة بمختلف مؤسساتها الأسرة، المجتمع، المدرسة؛ أيها كان له الأثر الأكبر الذي ساعد في انطلاقة هدى النعيمي؟
? أظنني لا أستطيع تحديد كثافة الدور الذي لعبته كل من هذه المؤثرات في بداتي الأولى، أسرتي كبيرة العدد ولكن صوت أمي هو الذي يطفو فوق الأشياء. كنا ثمانية أطفال في بيت لأب تقليدي وأم حنون تهب لصغارها ما لم تستطع أن تحصل عليه من التعليم، استطاعت أن تزرع بذرة “التفوق” في نفوسنا. وأظنني استقبلت تلك البذرة مبكرا وذهبت بها إلى المدرسة، كما خرجت بها إلى ملاعب الصغار في حي الريان الذي نشأت فيه، وكان شيئا ما يُخبر “بالاختلاف” وهذا الاختلاف عن الآخر هو بالتأكيد ما أدركته منذ السنين الأولى للمدرسة وهو “التأمل” في البشر والأشياء وحركة الكائنات والألوان على أوراق الشجر وأجنحة الفراشات، التأمل أخذني كثيرا من شاطئ البحر إلى أعماق لم يصلها جسدي الصغير ولكن بحثا عميقا نما حتى استوى في أعماقي، فتكثفت الأسئلة أسئلة لم يُعن بها مجتمع الصغار الذي كنت انتمي له، واكتشفت لاحقا أنها لا تعني مجتمع الكبار عندما صرت عضوا فيه، وما عاد من يحتمل أن يحمل الإجابة سوى “الكتاب” وفي تلك الحقبة ما كان من كتاب سوى الكتاب المدرسي وتلك التي تصطف برزانة على رفوف المكتبة في المدرسة. لكنها قلما تقدم إجابة.
? كيف جمعت بين العلمي والأدبي؟
? هي الرغبة بالمعرفة، كل المعارف المتاحة وغير المتاحة كل ما أعرفه أني كنت أبحث كي أعرف أكثر، وما كان القسم الأدبي في المدارس حينها سوى جماليات الشعر العربي وقواعد اللغة العربية أو صفحات تاريخ مكتوب بعناية مؤرخين، القسم العلمي شيء آخر في علومه وعوالمه نظريات يتم التحقق منها في المختبرات، ثم تتطور النظرية بنظرية أخرها تتماشى مع الأولى أو تعاكسها، لكنها حقائق لا تقبل التشويه أو التسويف. وفي مواجهة حقائق العلوم نحن نستمع ونلاحظ ثم نملي على أنفسنا “كيف لنا أن نُفيد من هذا وذاك؟ وكيف للبشرية أن تُستفيد من تلك المعارك العلمية المتجمعة في مواجهة بعضها البعض؟” كان اختيار طريق العلوم بالنسبة لي واضحا لا لبس فيه، لم أتردد ولكن حبي لقراءة روايات عربية ومترجمة - مما تحويه مكتبة المدرسة– خلق في نفسي حبا من نوع آخر، فبدأت في تلك المرحلة المبكرة أكتب خواطري وأسجل ما أرى وماذا يعني لي، سجلت سطورا لم أظنها بداية لدخولي عالم الأدب ولكنها كانت متنفسا شديد الخصوصية وشديد الصرامة، لكنني اعرف أنني أسجل “نصا” هو ملكي أنا فقط لأنني كتبته وبالتالي يجب أن يكون جميلا ومكتملا كما يجب أن تكتمل التجارب التي تصنع في المختبر، فبدون كافة الخطوات وبغير الأدوات الجيدة لا تكتمل التجربة ولا تعطي النتائج المرجوة، وكذا النص الذي أكتبه لا بد له من خطوات دقيقة وأدوات جيدة ليؤدي دوره الجمالي وأصل به إلى فرح ذاتي صغير، وجدت نفسي داخل دائرتين في وقت واحد وأشعر بالتصالح الشديد مع كلا الدائرتين.
?المعروف أن الفيزياء من العلوم الدقيقة، كيف جاء اختيارك لهذا الحقل العلمي المهم؟
? التأمل هو الدافع الحقيقي وراء هذا الاختيار، وجدت في مادة الفيزياء مشروعا للإجابة عن الكثير من الأسئلة، فهي علم الطبيعة بما تحوى، وأي شيء أبغي معرفته سوى الطبيعة؟ ومن داخل الفيزياء وجدت في علم “الإشعاع” بغيتي، علم الإشعاع بأنواعه وخواصه وتأثيراته البعيدة والقريبة، استخداماته السلمية وغير السلمية، ووجدت في التطبيقات المتنوعة لعلم الإشعاع شيئا ما يرضي غروري العلمي في الاستزادة والاستنارة والتحدي الذاتي، فالإشعاع عالم غير مرئي وغير محسوس، والذرات التي درسنا تركيباتها مبكرا، لا يستطع الإنسان أن يراها أو يرى نوياتها، ولكن القدرة على التخيل هي ما جعل العلماء يرسمون الذرة والنواة بمحتوياتهما من جسيمات متناهية الدقة والصغر، حتى أنها لا تحمل “كتلة” بمعنى أن لا وزن لها، في عالم المحسوسات تلك الجسيمات غير موجودة، لكن علم الفيزياء الإشعاعية أثبت وجودها من خلال دراسة تأثيراتها على المحسوسات أو الموجودات الأخرى ومنها الكائنات الحية كالإنسان، فأي تحدٍ هذا لعقل الإنسان، أن يتحكم في “اللاموجود” ليؤثر بلين أو بعنف على الموجودات والكائنات، الإشعاع وعلومه فجرت قدرة الإنسان الجبارة في التحكم، وكان لما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية من تدمير لمدينتي هيروشما ونجازاكي اليابانيتين أثره الكبير والعميق على كافة المستويات، وليس مجالي اليوم الحديث على التأثيرات الأساسية التي ما يزال العالم يرزح تحت طائلتها. لكن التأثيرات العلمية التي ما يزال علماء العالم في صدد دراستها والتعرف على تفاصيلها هي ما أستطيع أن أقول إنها أحد الحوافر التي جعلتني أخوض هذا الغمار وهذا التخصص الفريد الذي يحاكي المرئي واللامرئي، وكان شيء بين الحقيقة والخيال يُغزل في علم الفيزياء النووية الذي اتخذته مسرحا لدرجة الدكتوراه التي حصلت عليها من القاهرة فيما بعد، وتظل هيروشيما حلما يشبه الكابوس وكابوسا يشبه الحلم لأيامي العلمية والعملية، حتى زرتها مؤخرا لأجد آلاف القصص المحزنة وآلاف القطع المتبقية والصور البشعة تتجمع في متحف هيروشيما، تلك الزيارة للمدينة التي نهضت من الركام، أكدت لي أنني كنت محقة في حق نفسي التواقة للمعرفة في اختيار هذا التخصص.
? دراستك للفيزياء من أهم الاختصاصات، هل يوجد في البلاد العربية عامة، وبالخليج خاصة اهتمام وتطوير لهذا الحقل العلمي المهم؟
? على المستوى العربي، نعم وخاصة في مصر التي اهتمت ببناء مفاعل نووي، على أمل أن تتقدم العلوم النووية وأن تستطيع مصر والعالم العربي الحصول على الطاقة النووية والاستفادة السلمية منها، لكننا ندرك كل تلك المتغيرات السياسية والإحباطات بل الانكسارات التي مني بها العرب، والتي أدت إلى تحولات شتى في السياسات المصرية والعربية، تلك التي أثرت على كل الأشياء وكل المجالات، فصار المفاعل الذي أمر افتتح بداية ستينيات القرن الماضي، مركزا محدود الطاقات للأبحاث الأكاديمية فقط، ولسنوات طوال بقي الحال على ما هو عليه، لكن في هذه السنوات الأخير بدأت الاهتمام يشتد شيئا فشيئا لتعود الفيزياء النووية وعلومها على سطح الاهتمامات، في البلاد العربية، ربما بعد التأكد من أن استخدام الفيزياء النووية يمكن أن يكون سلميا بحتا ولم تعد مرتبطة بالهجوم المدمر على هيروشيما، وربما بعد أن هدأت المخاوف التي غيرت السياسات بعد الاغتيالات السياسية التي راح ضحيتها علماء الفيزياء النووية مثل الدكتور يحيى المشد، ربما الآن وبعد اتساع رقعة التطبيقات السلمية للطاقة النووية والمتزامن مع المخاوف من أن ينضب النفط من الآبار العربية لا نجد مخرجا من أزمة الطاقة إلا إذا أعددنا أنفسنا مسبقا، وأظن أنه عندما أدركت القيادات العربية تلك الحقائق والمخاوف، شرعت في الاهتمام من جديد فيما يجب عدم إهماله، ففي السنوات القليلة الأخيرة نجد عودة إلى دراسة الفيزياء الذرية والنووية والتطبيقات السلمية، وفي أبوظبي قامت الحكومة بالتعاقد مع كوريا الجنوبية على بناء محطة نووية لإنتاج الطاقة، وبدأ العقد في التنفيذ من الجانب الكوري، وأصبح تأهيل الطاقات المحلية بندا لا يمكن إغفاله في العقود الكبرى.
?رواد القصة القصيرة بدءا من تشيخوف إلى محمود تيمور وزكريا تامر وإبراهيم أصلان وصولا إلى عبد الحميد أحمد في الإمارات، هل كان اختيارك للقصة القصيرة موهبة خاصة أم تأثرا بأحد الرواد؟
? عندما قلت في بداية حديثي أنني بدأت كتابة الخاطرة، كنت أقصد نصوصا قد لا تكون قصصا قصيرة، لكن في مرحلة لاحقة وجدت أن حبكة أدبية لا بد لها من أن تتواجد في نصوصي، فكان علي أن اختار المشهد الإنساني بعناية فائقة ثم أوظف ذاك المشهد في قصة قصيرة، ولم يكن اختيار القالب تأثر بأحد، لكن قد يكون القالب نفسة تأثر بالآخر، فأنا من أشد المعجبين بقصص يوسف إدريس، فقد قرأتها وأعدت قراءتها وما أزال أشتاق إلى العودة إليها، كما أن مجموعات زكريا تامر أضافت إلى ذائقتي الأدبية بعدا سرياليا لا أنكره، فصرت أسأل القلم مع مشروع أي كتابة “كيف ستكون نمور قصتي بعد اليوم العاشر؟” القصة القصيرة عالم من التكثيف للفكرة وليس عالما لصب السرد الممل كما يحدث مع الكثير من الروائيين العرب، وهي ستبقى قالبا حاضرا في قلب المشهد الأدبي شرقا وغربا مع احترام الرواد الأوائل ولكن صياغات جديدة تفرض نفسها وتحكي عن نفسها في كتابات اليوم وقد يقيض لها أن تخلق مدارس جديدة.
? القصة تعتبر محطة انطلاق نحو الرواية، هل هناك مشروع رواية؟
? ليس بالضرورة أبدا، وليس ينقص من كاتب القصة أن يظل مخلصا لها طوال عمره الأدبي، وإن كنا رأينا وما نزال نرى عددا من الروائيين العرب شرعوا في كتابة القصة القصيرو أولا ثم تحولوا إلى الرواية، و نفسر ذاك بالاهتمام الإعلامي بعالم الرواية مقارنة بالمجاميع القصصية، حتى أن أغلب الجوائز الأدبية تذهب إلى الرواية وليس للقصة، من ناحية أخرى هناك الانتشار الهائل للدراما العربية على الفضائيات والتي جعلت من الرواية مادة يستقى منها كُتاب السيناريوهات مادتهم ليتم تحوليها إلى دراما تلفزيونية أو إلى أفلام سينمائية، حيث يحتفظ الروائي بحقة الأدبي وينتشر أوسع إعلاميا، ناهيك عن المكاسب المادية، أظن أن ما سبق هو ما شجع على التحول من كتابة القصة القصيرة إلى عالم الرواية، ونستطيع أن نقول إن اهتمام النقاد العرب بالرواية وتجاهل القصص القصيرة، أدى إلى انعزال كاتب القصة القصيرة عن القارئ الذي لا يجد ناقدا يقدم له المجموعة ويظل أيضا في معزل عن المشاهد الذي هو اليوم المتلقي الأضخم للإنتاج الأدبي المقولب درامياً.
? زرت العديد من بلدان الغرب والشرق، وآخرها اليابان، أي البلاد تركت تأثيرا أكبر في نفس الكاتبة هدى النعيمي؟ وفي أي مجال؟
? في الحقيقة منحني العمل في المؤسسة فرصة زيارة دولا عديدة شرقا وغربا، ولكل بلاد أثر تتركه في النفس، فلزيارة سور الصين العظيم إحساس خاص بالفخر، حيث يستطيع الإنسان أن يكون خلاقا، كما هي زيارة هيروشيما تدعو للحزن والغضب من قدرة الإنسان على التدمير والقتل، ليطفو على السطح سؤال “أي إنسان يجب أن أكون؟”
أما المكان الذي ترك في نفسي أثره الشديد فهو غابات كينيا، وموسم هجرة الحيوانات إلى حيث تتساقط الأمطار، هناك الحياة كما الله أوجدها على هذه الأرض، هناك رأيت قانون الغاب حياً نابضا أمامي، فالقوى كالأسد يهاجم الفريسة الجميلة الغزال ليأكل ويطعم صغاره، لكن هذا القوي لا يهاجم فريسة إلا إذا جاع، فالقتل رغم وحشيته إلا أنه بسبب الجوع فقط وليس لسلطان أو مكاسب أخرى كما حال البشر في القتل والتخريب والترويع. وبخلاف الحياة البرية في كينيا، هناك البشر الذين تعايشوا مع البيئة وعرفوا كيف يستخدمون مصادرها المتاحة، فأوراق الشجر والأعشاب تستخدم لأغراض كثيرة وعود من شجرة له مهمة معينة كإشعال النار أو بناء البيوت أو حتى تنظيف الأسنان، الحياة البدائية تلك تُعلم الإنسان كيف يكون بسيطا في متطلباته راضيا بما تهبه الطبيعة.
الكتابة بأسماء مستعارة
حول ظاهرة انتشار الأسماء المستعارة بين المبدعات في الخليج وخاصة في مجال الشعر، تقول هدى النعيمي إن الظاهرة كانت تعزى قبل عشر سنوات لسلطة المجتمع وسطوته الذكورية، لكنها تضيف “اليوم ومع كل مظاهر التحضر والتمدن وانتشار المدارس الأجنبية والجامعات على كافة مشاربها، لا أستطيع أن أقول إن سلطة المجتمع وسطوته على المرأة قد انتهت بشكل كامل ولكنها مازالت جاثمة على صدور الكثيرات في هذا المجتمع، والحقيقة أن كثيرا من النساء في مجتمعنا يفضلن السكينة على الحراك، بمعنى أنها تفضل عدم الصدام مع الأسرة فتكتب باسم مستعار طلبا للنجاة من ردود فعل قد لا ترضيها، فهو إذن الخوف من رد فعل غاضب محتمل رغم احتمال آخر برد فعل مرحب من الدائرة المحيطة، لكنه التعود الذي درجت عليه المرأة الخليجية بألا تكون ملفته للأنظار، إضافة إلى أن اسم المرأة مازال محروما من التداول على الملأ لأن ثقافة العيب لا تقبل به، ولا نزال نتلقى دعوات لحضور حفل زفاف في فندق سبع نجوم وينفق على تفاصيله مئات الآلاف لكن اسم العروس في بطاقة الدعوة يرمز له بـ”كريمة فلان”! فإذا رضيت العروس الصغيرة منذ البداية بهذا اللقب بديلا عن اسمها فهي سترضا بالانزواء والاستكانة وتفضيل السلامة على مواجهة الواقع ومحاولة تغيره، ومن ناحية أخرى علينا أن نعترف بأن الكتابة تحت اسم مستعار أفضل من عدم الكتابة وعدم النشر، فقد تتغير الظروف المحيطة بتلك الكاتبة يوما ما وتستطيع الكتابة في العلن، وتستطيع أن تفصح عن أوراقها دون خوف من ردود فعل المجتمع”.
ملتقى الكاتبات
بدأت فكرة الملتقى الأول للكاتبات العربيات من دمشق حين طرحتها الأديبة الكبيرة كولييت خوري ثم استضافت بيروت الملتقى الثاني ولما كانت الدوحة العام الماضي عاصمة للثقافة العربية ارتأيت أن يعقد الملتقى الثالث فيها وطرحت الفكرة على وزير الثقافة الدكتور حمد الكواري الذي رحب بها وقدم لها كل الدعم، وقد كان الملتقى الثالث للكاتبات العربيات مميزا بحضوره وعمق حواراته والأهم لقاء المبدعات العربيات على مدار أيام ليتدارسن همومهن وشجونهن ويتعرفن عن قرب على بعضهن البعض، يحدوهن الأمل بتغيير وضع المرأة العربية وتمكينها وإعطائها ما تستحق، فقد مضى زمن الصوت الأنثوي المكتوم وجاء عصر المرأة العربية الواثقة بما تقول وتفعل والقادرة على تحقيق أحلام مؤجلة من عصر الأمهات والجدات، ولا يمكن التكهن بالمستقبل بشكل كامل لكن يمكن القول إن البذرة تم غرسها بالشكل السليم والتوقيت الصحيح.
المصدر: أبوظبي