فنانون «مهمشون» ينصبون مسارحهم في طرقات المغرب
يقدم فنانو الشوارع بالمغرب عروضا فنية تجتذب الناس وتخفف عنهم هموم الحياة اليومية، وتتميز هذه العروض التي تقام في أغلب الشوارع المغربية بالتلقائية والبساطة، حيث يختار هؤلاء الفنانون موقعا بالشارع قرب ساحة أو حديقة لتقديم العرض الفني ودعوة الناس للاستمتاع به بشرط تقديم بعض المساعدة المالية في نهايته، وبعضهم يتجول داخل الأسواق، ويتنقل من حارة لأخرى وأغلب هؤلاء من المغنيين ومروضي الثعابين والقردة الذين يسهل عليهم تقديم عروضهم في أي مكان، بينما تحتاج بعض العروض إلى مكان خاص لتقديمها كعروض البهلوانيين والراقصين والرسامين والحكواتيين.
تلعب العروض التي يقدمها فنانون في الشوارع دورا أساسيا في الحفاظ على التراث واستيعاب البطالة وإضفاء نوع من البهجة على الشارع العام وتنمية السياحة، وتتميز عروض فناني الشارع بتقديم فقرات ورقصات وعروض مسرحية وموسيقية وبهلوانية مختلفة حيث تقدم فرق الموسيقى الشعبية أغاني ومواويل تراثية شهيرة تجتذب الجمهور وتقدم هذه العروض في أغلب الأحيان من طرف مغن واحد يعزف على آلة الكمان أو العود ويشدو بالأغاني الطربية التي تشنف آذان المارة. كما يقدم أبطال كمال الأجسام والمغامرين عروضهم في الشارع حيث يتحلق الجمهور من حولهم للاستمتاع بعروضهم الخارقة أبرزها جر شاحنة ومرور دراجة نارية على أجساد العارضين، ويقدِم بعضهم على ابتداع عروض خطرة كالقفز من علو أربعة أمتار بعد أن يتم تشكيل هرم بشري من البهلوانيين الذين يصعد كل واحد منهم على كتف الآخر، أو حبس أجسامهم في علب صغيرة وربطها بسلاسل حديدية واقتراح الرهان على الجمهور حول قدرة هؤلاء المغامرين على فك قيدهم.
ألعاب سحرية
إضافة إلى الفنون الاستعراضية والفنية والحركات البهلوانية يقدم مروضو الثعابين والقردة عروضهم الشيقة والمخيفة للجمهور في الشارع كما يقدم آخرون الألعاب السحرية المبهرة الحافلة بالخطورة والإثارة، مثل تمرير قضيب حديدي في الوجه والقفز من خلال إطار دائري تشتعل النار فيه أو وضع ثقل على الجسم والاستلقاء على المسامير الحديدية، وعلى إيقاعات الطبول يبهر الساحرون الناس بفنونهم الشيقة، ويقدم المنشدون الدينيون وصلات في الهواء الطلق من المدائح النبوية والشعر الصوفي كالتي يقدمونها في الموالد والمواسم الشعبية وفي شهر رمضان والمناسبات الدينية والاجتماعية، بينما تجتمع ناقشات الحناء والوشم داخل الساحات العامة والحدائق لجذب النساء إليهن وإقناعهن بخوض التجربة تحت ظل شجرة حيث أنهن ماهرات ومبدعات في نقش الحناء والوشم ويستطعن إنهاء المهمة في دقائق معدودة.
ولا تقتصر عروض فن الشارع على الفن الشعبي التراثي بل أن إبداعات الفنانين “الحقيقيين” الذين يعترف المجتمع بفنهم متواجدة هي أيضا على الأرصفة حيث تجد الرسامين والمصورين إلى جانب العازفين والمنشدين والبهلوانيين يقدمون عروضا خارج الجدران وفي الهواء الطلق، فبينما يختار المصورون الأماكن العامة الجميلة وناصيات الشوارع الشهيرة وقرب النافورات لجذب الزبائن اليهم وإقناعهم بأخذ صورة يحرص رسامو البورتريه على نصب حمالة اللوحة في أماكن بعيدة عن ضوضاء وزحمة الشارع لتوفير أجواء عمل مريحة نسبية، ويبدع رسامو البورتريه العاملون في الشارع في التقاط تفاصيل الوجه في دقائق قليلة ورسم بورتريه جميل وجذاب، بينما يعرض آخرون أعمالهم ورسومات أشهر الفنانين والسياسيين.
مطاردة السلطات
يحظى فنانو الشوارع باحترام المغاربة الذين يدركون أنهم فنانون حقيقيون اضطرتهم الظروف إلى التسول بفنهم وتقديم عروضهم في الشارع الذي يعرضهم أحيانا لمواقف صعبة ومحرجة، وينتمي أغلب هؤلاء الفنانين إلى السيرك والمسارح الشعبية التي تتنقل بين المواسم، حيث تؤدي خسارة وتصفية سيرك أو مسرح شعبي بفعل انحسار الإقبال عليه إلى تشريد العاملين به وخروجهم إلى الشارع بحثا عن جمهور ضل طريقه اليهم حين كانوا على المسرح، فآثروا الاقتراب منه وتقديم عروضهم أمامه في دقائق معدودة لا تربك يومه المليء بالمواعيد والمهام. ويتعرض فنانو الشوارع بسبب اختيارهم الاقتراب من الجمهور لمطاردة السلطات واستهزاء بعض الفضوليين من عروضهم كما يؤكد الحكواتي عمر بنهمو الذي يتنقل بين الشوارع بحثا عن جمهور يستمع بانصات دون مقاطعة لقصص ونوادر شعبية مليئة بالحكم والمواعظة تُذكر المرء بزمن الأجداد الذين كانوا يحرصون على صلة الرحم وإصلاح ذات البين ويتكاثفون في الأزمات ويساعد بعضهم بعضا. ويقول بنهمو:”حين أبدأ بسرد الحكاية احتاج إلى جمهور متفاعل ينصت إليّ بتمعن ولا يحدث الفوضى ليقاطعني ويخرجني من جو الحكاية، وفي بعض الحالات أجد صعوبة في مواصلة سرد الحكاية بسبب تعليقات الجمهور فاضطر إلى اختصارها لإنهاء العرض، والحقيقة أنه في أغلب الأحيان أجد جمهورا متذوقا متعطشا لفن الحكاية يمتثل لشروط العرض ويحترم فن الحكواتي”.
مسرح مفتوح
يتهم البعض هؤلاء الفنانين بأنهم يبيعون الفن بدراهم بخسة، ويصفونهم بأنهم هامشيون وفاشلون يجولون في الشوارع ليعرضوا عملهم لمن هبّ ودبّ، والحقيقة أن بعض الدخلاء على ميدان فن الشارع أساؤوا إلى المبدعين منهم واستغلوا مكانتهم عند الناس ليتسولوا بفنهم الرديء، بينما المبدعون منهم الذين توارثوا هذه المهنة ووقعوا ضحية إفلاس السيرك يقدمون استعراضاتهم الجميلة دون تقدير واهتمام ويرضون بالدراهم القليلة التي يمنحها لهم المتفرجون ويعانون من ملاحقة رجال الأمن وعدم اهتمام البعض بعروضهم.
ويقول العربي بن التهامي الذي يعزف على الكمان التقليدي ويردد الأغاني والمواويل الشعبية في الشارع إن “العديد من الأنشطة الفنية والفقرات الفلكلورية التي تتوزع بين الفنون الاستعراضية والفنية والحركات البهلوانية يؤديها فنانون محترفون يتمتعون بمؤهلات فنية وإبداعية ولا يقلون عن فناني الصالات في شيء سوى انهم اختاروا التواصل مع الناس في الشارع”.
ويشير إلى أن الشوارع صارت موسما دائما وعيدا يوميا بفضل هؤلاء الفنانين الذين حولوا الشارع إلى مسرح مفتوح يمتع المارة ويحافظ على التراث، ويوضح أن هذه العروض الفنية التي تتم بالشارع تعمل على تقريب الجمهور من الفن واطلاعه على تاريخ المجتمع وعاداته كما أنها تساعد على الترويج عن النفس وإثراء المعارف وتساهم في جذب السياح الذين يهتمون بالتراث الشفوي والممارسات الاجتماعية والعادات أكثر من المناظر الطبيعية والسياحية.
فعل إبداعي
تأسست بعض الجمعيات للحفاظ على هذا الفن الذي يتم استعراضه في الشارع المغربي كل صباح ومساء، وتضم هذه الجمعيات العديد من الفعاليات الفنية والثقافية القريبة من مجال اختصاص هؤلاء الفنانين وتعمل هذه الجمعيات على تقديم الدعم لفناني الشارع ومنحهم الفرصة للعمل في الفرق الفنية وتنظيم سهرات لإحياء الموروث الفني والشعبي العريق الذي يقدمه هؤلاء الفنانين.
إلى ذلك، يقول الباحث في التراث محمد الذهبي إن “هذه العروض تخلد إبداعا إنسانيا جدير بالتأمل والاهتمام أما العارضون فهم فنانون حقيقيون بل هم رموز فنية تؤسس الفعل الإبداعي وتستحق الاهتمام والتقدير لأنها تعمل في ظروف قاسية للتعريف بالموروث الشعبي وإحياء الذاكرة وتنشيط الممارسة الفنية في الشارع”. ويضيف أن هذه العروض تشكل موعدا يوميا للفرجة بطقوس فنية رائعة وبتلقائية وتشويق تضفي نوعا من الترفيه والألفة على الشارع الذي تحول بفضل هذه العروض إلى فضاء للاستمتاع ومسرح لتنشيط وتطوير الفن بأنشطة أكثر خصوبة وإمتاعا.
ويدعو الذهبي إلى الحفاظ على هذا الفن الجميل ودعم هؤلاء الفنانين وإقامة معارض لفنهم من أجل رد الاعتبار لهم والتعريف بالعروض المتنوعة التي يقدمونها والتي يجد فيه الجمهور مادة مهمة للاستفادة والتعلم والمعرفة، معتبرا أن تراجع الإقبال على تعلم هذه الفنون يهدد باختفائها من الشارع لاسيما أمام تجاهل السلطات لها وتقاعسهم عن تطويرها ودعمها وحل المشاكل والأزمات التي يعاني منها هذا القطاع
المصدر: الرباط