الفاهم محمد

يؤكد أغلب الباحثين المعاصرين أن مشكل المجاعة ليس مشكلاً طبيعياً، أو أنه قدر إنساني فرضته العوامل المناخية، بل هو مشكل اقتصادي وسياسي بالأساس وهذا على الأقل في الحضارة المعاصرة. تساعدنا التقنية اليوم على إيجاد الكثير من الأطعمة الجديدة، وعلى توفير كميات هائلة منها. لقد مكنتنا التكنولوجيا على تجفيف الأراضي وإعدادها للزراعة، واختراع الكثير من الأسمدة والمبيدات الحشرية، كما ساعدتنا على تعليب وحفظ الأطعمة من التلف. فالتكنولوجيا حاضرة في جميع المراحل، سواء تعلق بالأمر بالإنتاج أو بالتوزيع أو الاستهلاك. وإذن بالنظر إلى هذا الوضع ما كان ينبغي لمشكل المجاعة أن يوجد أصلا.تلك هي المفارقة الكبيرة التي تنطوي عليها هذه الظاهرة المميزة للوضع البشري في القرن العشرين وفي الألفية الثالثة: الكرة الأرضية تنتج اليوم ما يسد حاجيات كل البشر ويزيد، بينما حوالي 14% من ساكنة العالم يعانون من المجاعة وسوء التغذية. دولة الكونغو لوحدها تنتج من المزروعات ما يمكنه سد حاجيات أفريقيا بمجملها. السودان بإمكانه أن يطعم العالم العربي برمته، وربما لهذا السبب كان يطلق عليه لقب «سلّة الوطن العربي». نفس الشيء بالنسبة للهند التي تنتج ما يكفي لسد حاجيات سكانها الذين تجاوزوا في مستهل هذه الألفية المليار نسمة. غير أنه ورغم كل هذه الإنتاجية المرتفعة فإن نصف سكان الكونغو يعانون من نقص التغذية، والسودان يصارع المجاعة منذ 1998 وإلى الآن. أما الهند فثلث ساكنتها توجد تحت عتبة الفقر، وبالتالي تظل غير قادرة على توفير الطعام لنفسها. وما يزيد الأمر غرابة هو أن أكبر نسبة تعاني من المجاعة نجدها في العالم القروي، الذي يفترض أن يكون هو من ينتج المواد الفلاحية. 62% من سكان الكونغو هم مزارعون، أما في إثيوبيا فتبلغ النسبة 81% وفي الهند 54%. في مقابل هذه النسب المرتفعة نجد أنها في دول الاتحاد الأوروبي تتراوح ما بين 2% و 6% بينما لا تتجاوز في أميركا 2 %. غير أن ما تعاني منه هذه الدول المتقدمة ليس المجاعة بل السمنة والاستهلاك المفرط. فكيف يكون الفلاح في الدول الفقيرة الذي ينتج الحبوب والخضراوات واللحوم والألبان هو أول ضحايا المجاعة في العالم؟

ما هي المجاعة؟
حددت منظمة التغذية والزراعة العالمية حوالي 200 وحدة حرارية كحد أقصى للإنسان البالغ، فإذا نزلت العتبة ما دون ذلك فنحن في هذه الحالة نتحدث عن الجوع، الذي يمكن أن يعاني منه الفرد. أما المجاعة فهي تلك الوضعية التي تضرب جماعة بشرية واسعة الانتشار، والتي تكون ناتجة إما عن الجوع أو عن نقص التغذية الذي يسمى أيضاً مجاعة صامتة. وباختصار يصنف مجتمع ما باعتباره يعاني من المجاعة، إذا كان حوالي 30% من ساكنته يعانون من نقص حاد في التغذية، و 20% يفقدون حياتهم بسبب عدم القدرة على الوصول إلى الأطعمة الأساسية، مما يؤدي كذلك إلى ارتفاع نسبة الوفيات حيث يموت شخصان يومياً في كل عشرة آلاف. هكذا فالإحصاءات تقول بأن 227 مليون يعانون من الجوع في أفريقيا، وفي أميركا اللاتينية 37 مليونا. بينما يبلغ الرقم في آسيا 526 مليون شخص. هذا مع العلم أن أخطار سوء التغذية تطال حتى الناجين من الهلاك. فالجوع يؤثر على النمو الطبيعي للطفل، مما يجعله عرضة لكل الأمراض مثل الكوليرا وغيرها. بل إن نقص التغذية يؤثر حتى على الخصوبة. كما أن جميع قوى الإنسان الطبيعية تخور.
أما من الناحية الاجتماعية فالمجاعة تخلق ظواهر أخرى كالنازحين واللاجئين، وآلاف من المنكوبين الذين يعانون من شتى الأمراض. وهكذا في نفس الوقت الذي نتحدث فيه عن تقدم المجتمعات الإنسانية وعن النمو والازدهار ودول الرفاه، فإننا نتحدث كذلك عن المناطق التي فتكت بها المجاعة وأهلكت أهلها. وكرقم إجمالي فإن حوالي 800 مليون فرد سنة 2016 يعانون من المجاعة في العالم.
بالنظر إلى الوضع الذي كانت عليه الحضارة الإنسانية يمكننا أن نتفهم وجود المجاعة في العصور الماضية. فقد عانت البشرية كثيراً من هذه الآفة في قديم الزمان، لدرجة أن المؤرخين أفردوا لها المصنفات وتحدثوا عن «تاريخ المجاعات». بل إن الميثولوجيا القديمة ـ كما يذكر أنطوان جميل في كتابه «الجوع والمجاعات» جعلت للجوع آلهة هي على شكل: «امرأة هزيلة الجسم، نحيلة البدن، قد ذهب لحمها وذاب شحمها وشحب لونها، فبدت عجفاء جرداء مقوسة الظهر..» (ص 20). ورغم هول النكبات التي أصابت الإنسانية من المجاعات، إلا أن الأمر قد يظل مبرراً في زمن لم تكن الحضارة قد حققت تقدماً كبيراً، سواء على المستوى العلمي أو على المستوى الاجتماعي. فبأي معنى نتحدث عن الجوع في القرن العشرين والواحد والعشرين؟ هذا هو السؤال الذي يؤرق بال الباحثين. أصدرت منظمة الأغذية والزراعة العالمية FAO التابعة لهيئة الأمم المتحدة تقريراً تحت عنوان: «مستقبل الأغذية والزراعة: مسارات بديلة إلى عام 2050» حيث رهنت مستقبل الطعام بعوامل محددة، مثل النمو السكاني المتزايد والتغيرات المناخية، إضافة إلى التطور التكنولوجي. ورسم التقرير مستقبلاً قاتماً ينتظر البشرية في مجال التغذية. وحسب هذا التقرير من غير المستبعد «أن تتجاوز هذه المشاكل قدرة كوكب الأرض على التحمل، إذا ما ظل التوجه الحالي على حاله».

المفترسون
هناك العديد من الأسباب التي يمكن اعتمادها كمؤشرات لفهم هذه الوضعية المفارقة. منها العوامل المناخية وعلى رأسها الجفاف الذي يضرب الدول الأفريقية والآفات الزراعية الأخرى كالفيضانات والجراد وغيرها. هناك أيضاً الحروب والنزاعات التي تؤثر على استقرار الإنتاج الفلاحي. يمكن الحديث كذلك عن ضعف تجهيز الفلاح في الدول الفقيرة مقارنة مع الدول المتقدمة بالتكنولوجيا اللازمة من الأدوات والأسمدة والمبيدات الحشرية.
لكن ورغم كل هذه الأسباب تظل السياسات الاقتصادية القائمة على الليبرالية المتوحشة هي أهم عامل متحكم في هذه الظاهرة. في كتابه «الإبادة الجماعية» الصادر سنة 2014 يرى جان زيغلر Jean ZIEGLER على سبيل المثال ـ وهو سوسيولوجي سويسري متخصص في هذا المجال والمدافع في هيئة الأمم المتحدة عن الحق في الطعام ـ أن هناك جريمة منظمة تقضي على الملايين من البشر بوساطة سلاح التجويع. كل خمس ثوان يموت طفل أقل من 10 سنوات بسبب نقص الطعام. و37 ألف فرد كل يوم، بينما ما تنتجه الزراعة العالمية سنوياً يمكنها إطعام 12 مليار فرد، أي قرابة نصف عدد البشر الموجودين حالياً فوق الكرة الأرضية. ويتساءل جان زيغلر إذا كانت هذه جريمة وإبادة جماعية للبشر فمن يقف وراءها؟ إن السبب يعود في نظره إلى الليبرالية الجديدة، وإلى من يسميهم بـ«فرسان يوم القيامة» المفترسين الذين جعلوا من التبادل الحر وسيلة لاستعباد العالم. والذين يقومون بمضاربات ورهانات مالية في البورصات العالمية، مثل من يطلق عليهم Hedge Funds أي صناديق التحوط، وهي صناديق استثمارية متطورة تبحث عن أرباح خيالية تفوق متوسط عائد السوق، والتي بسبب مضارباتها ورهاناتها يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع هائل للأسعار وإلى انهيار للبورصة. كل هذا انعكس سلباً على الدول المانحة، التي كانت تقدم معونات من أجل مساعدة الدول الفقيرة على مواجهة آفة الجوع. في نظر جان زيغلر، دائما، كما صرح في برنامج تلفزيوني فإن مثل هؤلاء ينبغي محاكمتهم في محاكم نورنبرغ لأنهم يرتكبون جرائم ضد الإنسانية. إن الأطعمة الأساسية والأكثر استهلاكا في العالم، تسيطر عليها بضعة شركات تتحكم في أسعارها، وهكذا فالطعام موجود غير أن القدرة الشرائية المتدنية تحول دون الوصول إليه.
المجاعة إذن ليست قدراً مفروضاً على البشر، على الأقل في المجتمعات المعاصرة، هذا أيضاً ما يراه برونو بارمونتييه bruno parmentier وهو أحد الباحثين المرموقين في مجال الزراعة والتغذية. في كتابه «المجاعة صفر» faim zero الصادر سنة 2014 يؤكد بدوره أن المجاعة اليوم لا يمكن رد أسبابها إلى العوامل المناخية وآفات الطبيعة، بل هي نتيجة جشع ولامبالاة الرأسمالية والليبرالية المتوحشة، فهي إذن ظاهرة سياسية اقتصادية أكثر مما هي ظاهرة طبيعية. إن الانفجار السكاني والاحتباس الحراري، لا يعمل إلا على مفاقمة المشكلة الموجودة أصلا. إن هذا معناه أنه كلما كانت هناك إرادة سياسية قوية و تكاتفت الجهود فإنه يمكن القضاء على المجاعة وردها إلى المستوى صفر.

تكنولوجيا الغذاء
كيف يمكن استثمار التقدم التكنولوجي في إيجاد حل لمشكلة المجاعة في العالم المعاصر؟ هناك الكثير من التقنيات التي يتم تطويرها في مختبرات البحث، من أجل التغلب على نقص الطعام في العالم مثل تطوير بذور مقاومة للجفاف وتخليق أسماك ودواجن ومواشي وأبقار لها القدرة على منح كميات أكبر من اللحوم، وإيجاد أغذية ومأكولات جديدة تمتلك قيمة غذائية متجانسة، وغيرها كثير من التقنيات التي تدخل ضمن ما يطلق عليه «تكنولوجيا الغذاء». غير أن كل هذه الجهود ستكون من دون نفع إذا لم يتمكن الإنسان من إيجاد حلول للمشاكل السياسية والاجتماعية، وبناء اقتصاد يقوم على المبادئ الإنسانية، وتخليق الرأسمالية.
كما رأينا عدد ضحايا المجاعة يفوق عدد ضحايا الحروب، وبالتالي فالمجاعة ستظل إحدى المشاكل الأساسية المهددة لمستقبل الإنسانية. ينبغي أن نغير طريقة ونمط عيشنا القائم على الاستهلاك المفرط للحوم. ينبغي أيضاً تدبير الضياع والتلف الذي تتعرض له الأغذية أثناء التخزين أو بسبب الادخار. كما ينبغي كذلك الوقوف بحزم في وجه هذه الظاهرة الجديدة والتي بمقتضاها يتم تخصيص الأراضي للزراعة الموجهة للمحروقات، بدل أن تكون موجهة للتغذية. علينا أن نزرع لكي نأكل لا لكي نقود سياراتنا. من الأخطار المهددة أيضاً للزراعة في العالم ما تمثله بعض الشركات الاحتكارية مثل شركة مونسانتو Monsanto الأميركية وهي المنتج الأول في العالم للمبيدات الحشرية، والتي تنتج أيضاً بذوراً معدلة وراثياً أطلق عليها بذور الموت لأنها عقيمة لا تنبت للمرة الثانية، وذلك حتى يظل المزارعون تحت رحمة هذه الشركة. ضد هذه المواد الكيماوية المضرة بالصحة والتربة يمكن العودة إلى إحياء الطرق العتيقة في الفلاحة، وهي طرق ملائمة للبيئة مثل تلك التي يطلق عليها بيير رابحي Pierre Rabhi الفلاحة الإيكولوجية L’agro écologie. إننا يمكن أن ننقذ الأرض وننقذ أنفسنا من جشع الشركات الاحتكارية، شريطة تحرير ضمائرنا وبناء وعي جديد يعيد توطين القيم الأخلاقية القائمة على التضامن والتعاون بدل الفردانية والمنافسة. إن مشكلة الجوع تهدد حياة الإنسان وتحط من كرامته، غير أن القضاء عليه يظل أمراً ممكناً فهو ليس مطلباً طوباويا.