د. عز الدين عناية

يفتك الجوع بالنّاس في مجتمعات الرّفاه بشكلٍ خفيّ، وأكثر ضحاياه من المهاجرين والمشرَّدين والمهمَّشين، فهو بالفعل غول لامرئيّ، غالبا ما لا تراه عين السائح والمنبهِر بالمجتمعات المتقدّمة. لِما يُخيَّل للمرء أنّ تلك المجتمعات قد بلغت شأوا عظيما من الكمال، وأنّ مشكلة البطون الخاوية ما عادت تعنيها، بعد أن قطعت مع تلك المحن منذ زمن بعيد.
السائد والمعتاد أنّ الزائر لمّا يحلّ بروما، على سبيل المثال، ينبهر بعظمة الآثار، وتسحره الفنون، ويفتنه الجمال، وهو ثلاثي غالبا ما يغشي عن رؤية حقائق الأشياء. واكتشاف غول الجوع المتربّص، يتطلّب وقتا وأُلْفة مع الأمكنة التي يرتادها المهمَّشون والمحرومون بحثًا عمّا يسدّ الرمق، وهو ما لا يتسنّى للعابر على عجل. ولا أخفي أنّني وقعت في غواية ذلك الثلاثي المخاتل ردحا من الزمن، في بداية مقدمي إلى روما، مع أنّي أحذَر من الغبطة الغامرة كلّما داهمتني.
ولخطورة ذلك الوحش اللامرئي سوف أستعين بالأرقام لرصد ضحاياه. إذ تُقدّم جمعيات الخدمة الاجتماعية غير الربحية المعروفة بـ «أونلوس» في ثلاث مدن إيطالية حصرا، ميلانو وروما ونابولي، خدمات لسدّ الرمق لِما يفوق مليونيْ شخص، بعد أن استفحلت أوضاع الخصاصة والفاقة منذ تفاقم وطأة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا. وآخر الأرقام المنشورة من قِبل معهد الإحصاء الرسمي في إيطاليا، ترصد سبعة ملايين مقيم فوق التراب الإيطالي في حالة فقر مدقع وأربعة ملايين تحت خطّ الفقر الغذائي. وبالمثل كشفت الإحصائيات الأوروبية خلال العام 2017 أنّ 126 مليونا من الأشخاص يبقون مهدَّدين بالفقر والتهميش الاجتماعي، أي بما يناهز ربع سكان القارة. أرقام مفزِعة في دول أوروبية تُعدّ متطورة وديمقراطية قياسا بغيرها. والسؤال: أين تقع المشكلة؟ ولماذا تزحف الفاقة على المجتمعات بشكل صامت ولا تستثني حتى الدول المتطورة؟ هل هناك خلل في النسيج الاجتماعي أم في السياسات الاقتصادية التي تتحكم بسير المجتمعات؟

طوبى للجياع
ربما لفهم ما يجري يحتاج الأمر أن نعود إلى أصول الظاهرة حتى نضع الأمور في نصابها. فضمن أنثروبولوجيا الدين، يشكّل الخبز رمزًا موحيا في المخيال الجمعي بين أتباع الأديان الإبراهيمية، حتى ليتطوّر مع المسيحية ليغدو رمزَ جسدِ المسيح المكسور وعنوانا لسرّ من أسرار الإيمان، كما يظهر ذلك في طقس المناوَلة. فلطالما كان المسيح (ع) معجِزا في حياته عبر استحضار القوت في أمثاله وأقواله، وأعلَى من شأن الجياع بشكلٍ لافت حتى خصّهم بمكان عليّ في تطويباته ضمن ورثة الملكوت والنعيم: «طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم سيشبعون» (إنجيل متّى5: 6). ولم ينفك المسيح (ع) عن ضرب الأمثال واستحضار العِبر تقريعًا للمترَفين وانتصارا للجائعين كما في قصّة لعازر: «كان هنالك إنسان غنيّ، يلبس الأرجوان وناعم الثياب، ويقيم الولائم المترفة، متنعّما كل يوم. وكان إنسان مسكين اسمه لعازر، مطروحا عند بابه وهو مصاب بالقروح، يشتهي أن يشبع من الفتات المتساقط من مائدة الغنيّ. حتى الكلاب كانت تأتي وتلحس قروحه. ومات المسكين، وحملتْه الملائكة إلى حضن إبراهيم. ثم مات الغني أيضا ودفن. وإذ رفع عينيه وهو في الهاوية يتعذّب، رأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى قائلا: يا أباي إبراهيم! ارحمني، وأرسلْ لعازر ليغمس طرف إصبعه في الماء ويبرد لساني: فإني معذّب في هذا اللهيب. ولكنّ إبراهيم قال: يا بنيّ، تذكر أنّك نِلت خيراتك كاملة أثناء حياتك، ولعازر نال البلايا» (إنجيل لوقا16: 19-23).
لكن وبمعزل عن الرمزيات القدسية التي حفّت بالقوت في كثير من التقاليد الدينية، يبقى عنصرًا من عناصر النعمة الإلهية الموهوبة للخلق لسدّ الرمق، وهو ما يتجلّى تحديدا في الصلاة الربّانية: «خبزنا كفافنا أعطنا كلّ يوم»، وهي فعلا تعبيرٌ عن مناجاة عميقة، طلبا للنعمة وتوقّياً لشرّ الجوع، هذا الخطر الداهم الذي يلغي إنسانية الإنسان كلّما أَلمّ به. صحيح في الهرمينوطيقيا المسيحية ثمة تأويلات مفارقة لدلالات الخبز تميل نحو تأكيد الإشباع الروحي، ولكنّ ذلك الخوف الدفين من فقدان الرغيف نجده حاضرا بالمثل في التقاليد الدينية عامة في حوض المتوسط. حيث يرد في «اعترافات» القدّيس أوغسطين، أنّ والدَته مونيكا بعد أن قَدِمت من ثاغست (سوق أهراس الجزائرية) إلى ميلانو، كانت كدأْبها في بلاد أفريقية، تتردّد على أضرحة القدّيسين وبحوزتها فطيرٌ وخبزٌ، لتُتمّ بذلك طقس «الريفريجيريوم» المألوف في الأوساط الرومانية. ويقتضي الطقس، كما يروي أوغسطين نثر فتات الخبز قرب الأضرحة، قبل أن يُوهبَ ما تبقّى منه إلى روح الميت التي تتضوّر جوعا. وإلى تاريخنا الحالي، من زار ضريح السيدة المنّوبيّة، إحدى الوليّات الصالحات في تونس العاصمة، التي يَعتقِد الأهالي أنها على بركة عالية، يلحظ الوافد إلى مرقدها منحه إبريق ماء مستخرَج في التوّ من البئر المحاذية للمرقد وقليلا من الخبز.
اليوم وكما نرى في الأوساط المسيحية، تبدو الكنيسة في ظلّ ما يعصف بالمجتمعات من مخاطر الفاقة مستنفَرةً لكبحِ هذا الوحش والحدّ من ضحاياه، حتى أنّ البابا فرنسيس صرّح منذ اعتلائه سدة بطرس: «أريدُ كنيسة فقراء وللفقراء»، لإدراكه أنّ خلل التفاوت الهائل متسرّب إلى حضن الكنيسة التي تهتدي بهدي المسيح، وهو الذي حذّر من أنّ دخول جَمَل في سمّ الخياط أهون من دخول غنيّ ملكوت الرب. يدرك بابا الكنيسة الكاثوليكية أن الجشع والاستثراء قد باتا من الأدواء الجديدة التي تتهدّد المجتمعات المسيحية، لذلك ما انفك يحرص في مواعظه على انتقاد السلوكات غير الإنجيلية. ففي التاسع عشر من نوفمبر 2017 خصّص يوما للفقراء أبرز فيه أنّ الفقر منهج حياة، لأنّ المسيح عاش فقيرا زاهدا في متاع الدنيا. وإن كان البابا نبّه إلى أنّ الدعوة إلى الفقر، ليست إضفاء شرعية على البؤس والخصاصة، بل هي نكران للجشع واعتراف بأهمية الزهد والتواضع والتعاضد.
وبرغم ما يُرصَد من مظاهر تهميش في شمال العالم، فإنّ قضايا التخلّف والمديونية والأمّية والأوبئة والمجاعة، التي يرزح ملايين المسيحيين تحت وطأتها، تبقى بالأساس قضايا مسيحيي الجنوب لا مسيحيي الشمال، وتمثّل قضايا ذات أولوية لدى كنائس جنوب العالم لا شماله، وذلك بعد أن أضحت دولٌ بأسرها تقف متسوِّلةً أمام أبواب الدول الغنيّة. وفي خضمّ ما يعصف بعالمنا من مشاكل، يبقى المهاجِرون والمهجَّرون واللاجئون الأشدّ فقرا، الذين ما عادوا يقفون على أبواب الدول الغنية، يلتمسون العون والدخول، بل يصرّون على أن يدلفوا عنوة. ذلك هو التحوّل الحاصل في معنى الفقر في عالمنا، من قضاء وقدر كما ساد في المنظور التقليدي، إلى صنعٍ بفعل البشر. لقد لخّصت صرخة أحد سكان ليما في البيرو أمام البابا يوحنا بولس الثاني (1985) «بقدر ما نتضوّر جوعا.. نحن عطاش أيضا لكلمة الرب» جوهر مطلب لاهوت المحرومين في جنوب العالم.

لاهوت المحرومين
لقد انكشفت أوضاع الخصاصة في المجتمعات المسيحية، سواء الواقعة منها شمال العالم أو جنوبه، بعد أن انزاحت مخاطر الشيوعية. فقد طمس استنفار مجابهة الشيوعية، على مدى عقود، أوضاع البؤس والجوع في الغرب وخارجه، حتى استفاقت القوى الاجتماعية المؤمنة على أن إهمال المسألة الاقتصادية وما تنطوي عليه من مآس ومعاناة، قد مسّ شعوباً عديدة. الأمر الذي دفع بالقوى الدينية الصادقة إلى اتخاذ مواقف حازمة من التفاوت المجحف والإثراء الفاحش. انعكس ذلك في حصول تطور في خطاب اللاهوت مفاده أنّ التحالف مع المحتاجين لا يقتصر على رفض عاطفي لآثار الفقر، بل يشمل النقد الصريح لصُنّاعه على الصعيد الاجتماعي والشعبي. فكما يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، «لسنا في صفّ الفقراء ما لم نكن مناهضين بالفعل للجوع والفاقة».
وممّا لا ريب فيه أن تلْقى المواقف المناصرة للفقراء داخل الأوساط المسيحية الجادة الصدّ، وتُقابَل بالامتعاض من أنصار الليبرالية. والملاحظ أن التنبّه للخيارات الاقتصادية المجحفة قد بدأ مع البابا السابق جوزيف راتسينغر، منذ تولّيه كرسي البابوية في أبريل 2005. جابهَ البابا حينها انتقادا من كبار منظّري الكاثوليكية المحافظة في الولايات المتحدة، نذكر منهم ميكائيل نوفاك وريتشارد جون نوهاوس وجورج فيجل. نوفاك معروف بمقولاته المنافحة عن «الرأسمالية الديمقراطية» بوصفها النظام السياسي الاقتصادي الأمثل والأكثر تلاؤما مع المسيحية وبالخصوص مع الكاثوليكية؛ أما ريتشارد جون نوهاوس وجورج فيجل فكلاهما من السعاة لهداية الكاثوليكية إلى «رأسمالية السوق»، ويُعرَف كلاهما في الأوساط الكاثوليكية بحدة الموقف تجاه لاهوت التحرر. إذ ليس جزافا أن يتخذ نوفاك مسافة من الرسالة الاجتماعية العامة للبابا بندكتوس السادس عشر «المحبّة في الحقيقة»، بل جاراه اللاهوتي جورج فيجل -أحد كبار كتّاب سيرة ووجتيلا-، فقد قام بالشيء ذاته في السابع من يوليو 2009 على صفحات «ناسيونال ريفيو» وانتقد رسالة راتسينغر العامة التي دافعت عن المحتاجين والجياع ووقفت ضدّ تحويل الكنيسة إلى مؤسسة ربحية، على غرار غيرها من المؤسسات اللاهثة وراء النفع المادي، تقديرا من راتسينغر أنّ المرء ليس بوسعه أن يخدم الله والمال، تبعا لما يرد في الإنجيل (متّى6: 24). فقد عُدّ انتقاد الدوائر الرأسمالية، على لسان رأس الكنيسة، بمثابة النقض للوفاق التقليدي بين الكنيسة والليبرالية، بوصف الأخيرة النظام الاقتصادي الأكثر ملاءمة والأكثر «كثلكة»، فضمن التأويلات الرائجة تساوي المسيحية الحرية، وتعني الحرية المؤسسة الحرة، وبالتالي تعني الرأسمالية المسيحية الفعلية.
لقد أبرز البابا الحالي (خورخي ماريو برغوليو) في بداية تولّيه مهام الكنيسة سبب اختياره اسم القديس فرنسيس الأسيزي، المعروف بزهده وقربه من الجياع والمحتاجين، قائلا: إن رفيقه الكردينال كلاوديو هو من أوصاه «بألاّ ينسى الجياع والفقراء!» حين علم بترشحه لكرسيّ البابوية، وقد ألهمته سيرة فرنسيس الأسيزي الاسمَ، معلّقا على ذلك: إنه الإنسان الفقير... آه أو كما أريدُ كنيسة فقيرة للفقراء! ولذلك يمثّل ملفّ الفاقة والجوع أحد أبرز الملفات المطروحة أمام البابا.
لقد برز الانشغال بالمحتاجين مع فرنسيس منذ إعلان الإرشاد الرسولي الأول «فرح الإنجيل» (Evangelii Gaudium). تضمّن الإرشاد ذمّا للثراء والجشع وتحريضًا على ضرورة التنبه للجياع حتى اُتهم بالشعبوية، وهو ما تحوّل في الأوساط المعارضة لمسلكه إلى اتهام بموالاة الخيارات اليسارية. فاقمَ تلك الانتقادات حضورُ المعوِزين والجياع المتكرّر في مواعظ البابا وأحاديثه، التي اتخذت حدّة في بعض الأحيان بانتقاد الدوائر المالية لاتخاذها الدينار معبودا جديدا وتناسيها المحتاجين والمعوزين. ففي الإرشاد الرسولي المشار إليه آنفا نجد حثّا لأتباع الكنيسة للعودة إلى النهج الإنجيلي، وهو ما عبّرت عنه بوضوح إحدى فقرات الإرشاد: «المسيحيون جميعهم، أفرادا وجماعات، مدعوون ليكونوا أداة للرب لتحرير الفقراء وتخليصهم، بشكل يتسنّى لهم الاندماج كلّيا في المجتمع؛ وهذا الدور يقتضي أن نكون ودعاء ومنصِتين لسماع نداء الجياع والمستغيثين». لعلّ ذلك ما جعل مؤرّخ الكنيسة أندريا ريكاردي يَعُدّ مسألتيْ الجوع والجياع هما البرنامج الاجتماعي الرئيس للبابا الحالي.