محمود قرني

في الأنشودة السادسة من جحيم «دانتي أليجيري» (1265 ـ 1321م) تبدو أكثر صور العذاب التي يلقاها كل من «فرانشسكا وباولو» راجعة إلى دورهما في تجويع الناس مقابل نهمها وشرههما في جمع المال. ويصف دانتي «تشيبيروس»، الوحش ذو الرؤوس الثلاثة، وهو يعوي فوق رؤوس المعذبين ثم يمزقهم ويلتهمهم بقوله: «إنه ذو عينين حمراوين، ولحية كثة سوداء، وبطن كبير، ويدين تسلحتا بالمخالب، وهو يمزّق الأرواح ويسلخها ويشطرها أرباعاً». كما يصف شبح الفلورنسي «تشاكو» الذي اشتهر بالشره والنهم والغطرسة والجشع ما تسبب في موت آلاف الفلورنسيين جوعاً، وينقل لنا ما سمعه من هذا المرابي النهم في ندمه السرمدي: «وأنتم
يا مواطنيَّ سميتموني تشاكو وإني أنوء بخطيئة النهم اللعين»، وكأنه يريد أن يقول طوبى للجوعى الذين يرونني الآن في قعر تلك الحمم.

الصورة نفسها ربما تبدت في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (363 هـ ـ 449 هـ،«973 ـ 1057م)، عندما اختار للمعذبين دور الخدم على الأطعمة والأشربة التي أُعِدت لأهل الجنة، وعندما أراد أن يكون رفيقاً ببعض الشعراء خص كل واحد منهم بكوخ متواضع وفقير على أطراف الجنة مثلما فعل مع الحُطيئة والخنساء. ولعلنا نتذكر الحُطيئة وهو يعيد تذكير أبي العلاء بأنه القائل في توسل عمر بن الخطاب عندما سجنه لمجونه:«ماذا تقول لأفراخٍ بذي َمَرَخٍ/‏‏ زُغْبُ الحوَاصِلِ لا ماءٌ ولا شجر. ألقيتَ كَاسِبَهم في قعر مُظلمةٍ/‏‏ فاغفر سلام الله عليك يا عمرُ».

الجوع والحرمان
ولا شك أن الترجيعات الدينية الطقسية حول فكرتي الجوع والحرمان في مقابل العدالة والسلام في عملين كبيرين مثل «الكوميديا الإلهية» و«رسالة الغفران» جعلت منهما أقنوماً للقيم الكبرى، وهي قيم مأخوذة من ترجيعات ارتبطت بتعاليم مقدسة في الإنجيل والقرآن وكذلك الشرائع الوضعية. ولعل العملين يزدحمان، ليس فقط بالصور التي تحض على العدل، بل باحتمال أقسى أنواع المظالم في سبيل المعتقد النبيل الذي يستهدف إقامة عالم جديد يعيد الاعتبار للإنسان باعتباره مخلوقاً من روح الله. وينقل المعرّي في رسالته عن الرسول (ص) قوله:«لقد مكثتُ أياماً وصاحبي هذا، وأشار إلى أبي بكر، بضع عشرة ليلة ما لنا طعام إلا البرير (ثمر الأراك) في شُعَبِ الجبال». كما ينقل عن عُتبة بن غزوان روايته عن البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة، إذ يقول:«لقد مكثنا زماناً ما لنا طعام إلا ورق البشام (يقصد نبات السواك)، أكلنا منه حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوماً تمرة فجعلتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص، والسعيد فينا من كانت النواة من نصيبه إذ يظل يلوكها يومه كله».
والمتأمل للمسافة التي تفصل بين التعريف المعجمي للجوع باعتباره الامتناع عما تستطيبه النفس، وبين المساومات التي شهدها التاريخ ضد الإرادة البشرية، سيرى أنها مسافة تبدو في أقصى حدود هزلها. فمنع النفس عما تستطيبه لم يكن تفسيراً ملائماً للحاجة التي اضطرت الشاعر الإنجليزي «جون ميلتون» إلى بيع ملحمته الشهيرة «الفردوس المفقود» لقاء خمسة جنيهات ليكسب ناشرها فيما بعد ملايين الجنيهات الاسترلينية، بل هي الحاجة نفسها التي اضطرت آلاف الهنود إلى بيع أبنائهم في مجاعة العام 1630، وهي ليست حالة هندية فريدة. فقد حدث الأمر نفسه ولا زال في كل بقاع عالمنا تقريباً وفي عصور مختلفة، ما دفع الفيلسوف والمؤرخ «فرنان برودل» إلى القول بأن المجاعات كانت ولا زالت جزءاً من النظام البيولوجي للبشر. ويضرب أمثلة مفجعة على ذلك، حيث شهدت منطقة فلورنسا مثالاً 111 سنة من المجاعات في الفترة من 1371 حتى 1791 م. كما شهدت فرنسا، رغم أنها الأوفر حظاً بين دول أوروبا، عشر مجاعات في القرن العاشر، و26 مجاعة في القرن الحادي عشر، واستمر الأمر بدرجات متفاوتة حتى القرن السابع عشر، حتى ليكاد المرء يجزم بأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الظلم والشقاء.

الشدّة المستنصرية
ففي كتابه «إغاثة الأمة في كشف الغمة» يذكر المقريزي أن مصر شهدت على مدار قرون قليلة أكثر من ست وعشرين مجاعة. ويروي حكاية دالة عن الشدّة المستنصرية، التي وقعت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، حيث توسلت امرأةٌ جماعة من الناس مقايضة عقد ثمين قوامه ألف دينار لقاء كيس من الدقيق، وعندما حملته على حمارها قاصدة بيتها في باب زويلة تخاطفه الناس فلم يتبق لها سوى حفنة ملء كفها، فصنعت منها قرصة وشوتها ثم توصلت إلى باب القصر ووقفت على أحد مرتفعاته ثم قالت: يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الناس بأيامه حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار! ومما رواه ابن الرومي الطبيب قوله لتلميذه: إذا دخلت إلى مريض فانظر إلى أثر ما عنده من طعام أو شراب، فامنعه عما لا يصلح من ذلك، فإن المعدة بيت الداء كما تعلم. وكان من سوء حظ التلميذ أن بعث في طلبه أحد الفقراء في منتصف ليلة من رمضان فعندما دخل عليه الطبيب نظر إلى جواره فلم يجد حتى شربة ماء، وعندما طلب منه المريض أن يصف له دواء قال الطبيب: أنت لا تحتاج إلى دواء أنت في حاجة إلى رطلين من اللحم، وألقى إليه بعشرة دنانير ثم غادر ساخراً من كلام أستاذه.
ويجمع المؤرخون على أن التجويع صناعة بيد السلطة بكل تمظهراتها، لذلك فهي تحافظ قديماً وحديثاً على نوع من الهيراركية في الأبنية الطبقية للمجتمع. ويقول المؤرخ «جاك رانسيير» في كتابه «كراهية الديمقراطية»:«إن الأوليجاركية ستظل تحكم العالم مهما اختلفت تمظهراتها». وفي التراث العربي:«أَجِعْ كلبَك يتبعُك، واضطرِ اللئيم بالحاجة ليَقَرَّ عندك». وقد لعب رجال الدين دوراً لصالح السلطة في تزكية هذا الفحش والتغوّل حتى قال بعضهم: الجوع زكاة البدن، والجوع رأس كل برّ. ويقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه «كسر الشهوتين»: «أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أُخرِج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات»! ومن أطرف ما يرويه المقريزي تلك الحادثة التي تؤكد حجم تردي السلطة إلى هاوية المظالم ضد رعيتها، فلم يكتف سلاطين المماليك بتقنين الرشوة بل فعلوا ماهو أغرب، إذ عينوا وزيراً لقبوه بالـ«بيدار» (أي وزير الحرامية)، وكانت مهمته التعامل مع اللصوص الذين ينهبون أموال الناس ليأخذ منها حصته وحصة السلطان!

في الشعر والسرد
في الفن كانت تعريفات الجوع أكثر التباساً، إذ أن المجتمعات لم تنظر إلى الفن باعتباره منتَجاً يزن معادلاً قيمياً أو اقتصادياً، فالشعر مثالاً لم يتم تصنيفه مجتمعياً باعتباره مهنة ذات «نفع عام»، لذلك لم تكن مهنة الشاعر، تاريخياً، سوى أداة طاردة اجتماعياً، بل كانت تمثل أداة من أدوات الإدانة، لاسيما وأن عصوراً بكاملها اقتصر فيها العمل على الرعاع والدهماء، لذلك فإن شعراء كباراً عرفهم التاريخ لاقوا هواناً لاحد له قديماً وحديثاً، فقد عمل «ابن مقلة» كاتباً في بلاط الدولة العباسية مع الخليفة الراضي وانتهى مقطوع الأيدي واللسان إثر وشاية من أحد خصومه، وكذلك «البوصيري» الذي لم يكن يجد قوت يومه، وامتهن «تأبط شراً» مهنة حطاب وقاطع طريق. كذلك عمل «جان جينيه» و«فرناندو بسوا» كحمالين في ميناء، وعمل «شارل بوكوفسكي» كساعي بريد فاشل.
وقد كانت العائلات الضاربة في القدم، حتى وقت قريب، تعتبر أن امتهان أحد أبنائها للشعر يأتي خصماً من رتبتها الاجتماعية. ومع ذلك فقد كانت مشاركة الشعر أكثر بلاغة في الدفاع عن الجوعى والمحرومين حتى لدى شعراء توسدوا رياش القصور، فقد كان بوشكين من النبلاء، ومع ذلك كان يذهب إلى الأسواق ليتناول طعامه مع مساكين يكتب عنهم، فدس له القيصر في المبارزة الشهيرة أمام قنصل فرنسا حتى مات بجرحها الغائر. وقد كتب أحمد شوقي، ربيب القصر، عن الجوعى في قصيدة يقول مطلعها: وداعاً أرض أندلس، وهذا/‏‏ ثنائي إن رضيت به ثوابا. فأنت أرحتني من كل أنف/‏‏ كأنف الميْت في النزع انتصابا. حتى يصل إلى قوله: أمِن حرب البسوس إلى غلاء/‏‏ يكاد يعيدها سبعاً صعابا. وهل في القوم يوسف يتقيها/‏‏ ويحسن حِسبة، ويرى صوابا؟! وكان طه حسين قد لفت إلى مظالم الجوعى في مجموعته «المعذبون في الأرض» عندما قال:«مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، فإن النبات لم يخرج من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون. وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعاً، تتفاوت حظوظهم من هذا الاستمتاع...». لكن جوزيف كونراد كان أكثر انفتاحاً على المأزق الإنساني برمته عندما رصد عوالم مفزعة مارسها المد الاستعماري في مسألة الاسترقاق والعمل حتى الموت في الكونغو عندما فضح في روايته «قلب الظلام» التراث المخزي لحقبة الكلونيالية من خلال صديقة تاجر العاج.
وتجرنا لوحة الفنان البلجيكي «بيتروس بواس روبينس» التي تحمل عنوان «الجوع» إلى صورة أخرى من صور القهر. وقد استنسخ عشرات الفنانين هذا المعنى في لوحات حملت عنوان «الجوع»، وقد رسم الفنان المصري عبد الهادي الجزار لوحة شهيرة اسمها «الكورس الشعبي» تحمل المعنى نفسه إلا أن الملك فاروق سجنه بسببها.
وأيا كانت صور الجوع أو التجويع في شتى مدلولاتها، سواء كان الجوع مادياً متمثلاً في شُح المأكل والمشرب، أو معنوياً كجوع البشرية إلى الانعتاق من القهر والظلم والتماس حريتها أنىَّ وجدَتْهَا؛ فإن الطبقية لعبت الدور الأبرز في إعاقة تقدم البشرية إلى غايتها في تحقيق السعادة، تلك القيمة العليا التي بحثت عنها الأديان والفلسفات على اختلافها. لذلك فإن المرء ليعجب من التفاؤل الذي أبداه مفكر كبير مثل «ماكس فيبر» عندما اعتقد أن «الإنسان يمكنه أن ينشئ رأسمالية مُتَنَسِّكَة مكتوباً عليها أن تحقق أعلى ربح، مع حرصها على تلجيم أخلاق التربح»! فهل تحقق شيء من هذا؟ يمكننا أن نسأل في ذلك الجوعى الذين ينتظرون الموت خلف مدار السرطان.

الهتاف الصامت
هتاف الجوع الصامت، على حد تعبير الدكتور سيد عويس، يختلف أشد الاختلاف عن دعوة الجوع التي حثت عليها بعض المذاهب والشرائع الوضعية أو السماوية سواء كان ذلك في البوذية أو في بعض المذاهب العرفانية والبرهانية والتطهرية. فالصوفية كانت أبرز تلك المذاهب التي دعت إلى تطهير أدران النفس بالجوع، إذ يكتفي الصوفية من المأكل ببسيطه وخشنه مما يقيم الأود، وكثيرًا ما تترك النفس للجوع ولا تصيب من الطعام إلا ما يُتَبَلغ به، وكان أبو اليزيد البسطامي قد سئل عن سر معرفته فقال: سرها في بطن خاو وبدن عار.