حنا عبود

الجوع إحساس طبيعي نابع من تكوين الإنسان الفيزيولوجي، ويبدأ بعد ساعتين من تناول الطعام، في الجسم السليم. أما المجاعة (أو المسغبة) فظاهرة جماعية تشمل بعض الأفراد أو الفئات أو منطقة بكاملها... وأحياناً تشمل شعباً بكامله. وهناك مرادفات عدة في العربية، كما في اللغات الأجنبية (في كل اللغات بلا استثناء) لتحديد مدى انتشار هذه الظاهرة عمودياً وأفقياً، من نقص التغذية حتى الموت بسبب الحرمان الكامل من القوت.
الجوع متلازمة بشرية، نجدها ترافق الإنسانية منذ فجر التاريخ، وحتى عندما ابتكر الناس الترع والأقنية حدثت مجاعات شديدة، واستمرت هذه المجاعات إلى يومنا هذا. ففي القرن التاسع عشر ضرب الوباء الزراعي موسم البطاطا في إيرلندا مما أدى إلى وفاة الملايين. وفي القرن العشرين وحده حدثت مجاعة في روسيا 1921 انتشرت بسرعة وقضت على الملايين، كما حدثت مجاعة في الصين من عام 1958 إلى عام 1961 بسبب بعض السياسات الخاطئة في الزراعة، وكذلك حدثت مجاعة في إثيوبيا من عام 1983 حتى عام 1985 وفي كوريا الشمالية ظهرت مجاعة مريعة في تسعينيات القرن العشرين.
وفي القرن الحادي والعشرين حصدت المجاعة في أفريقيا ما يزيد عن عشرين مليوناً، على الرغم من المساعدات التي قدمتها منظمة التغذية العالمية.
وهناك ست دول اليوم مرشحة لمعاناة المجاعة، مما يدل على أن المجاعة متلازمة بشرية، على الرغم من المساعي المبذولة في العصور القديمة والحديثة، وهي مساع لم تقض على الأسباب الكامنة وراء حدوث المجاعات. وهي أسباب كثيرة منها القحط والجفاف والفيضانات والأعاصير والحروب والأوبئة وانخفاض سعر العملة المحلية بالنسبة للعملات الدولية المهيمنة على السوق المالية، والسياسات التي يتبعها نظام الدولة.
ومن هذه الأسباب تنامي السكان بسلسلة هندسية، كما يقول مالتوس، بحيث لا يؤمن الإنتاج المادي حاجاتهم الضرورية. ومع أن المداجن ومزارع الأبقار والأغنام، والتلقيح الصناعي ضاعف الإنتاج عشرات المرات، إلا أن هذه المتلازمة ما تزال ترافق البشرية.
هذه النظرة الواقعية التي أوجزناها تقابلها نظرة ميثولوجية، يتقصاها المرء من مختلف ميثولوجيا الشعوب القديمة. بيد أن الميثولوجيا اليونانية تعتبر الأكمل والأشيع بسبب الدراسات الكثيرة التي ركزت عليها، ووصلت إلى دقائقها، ولذا سيكون منطلقنا منها، بعد أن تبين أنها تكاد تلخص كل الميثولوجيات العالمية.

فيلولوجيا
تصادفنا كثيراً كلمات الجوع في الرواية الحديثة، وأبرزها Hunger وFamine الأولى من أصل ألماني وتنتشر في اللغات الإسكندينافية، والثانية من أصل فرنسي قديم يعود إلى اللاتينية. وعندما نتقصى الكلمة الثانية نلاحظ أن الأصل اللاتيني عبارة عن اسم ربة تسمى فامين، وباللهجة العامية تدعى فامينا. إنها ربة الجوع الرومانية التي ضربت ضرباً على ربة الجوع اليونانية ليموس Limos أو Limus فهي تقوم بكل وظائفها، كما تقوم فينوس الرومانية بكل وظائف أفروديت اليونانية. وهكذا فإن فقه اللغة يقودنا إلى أن ما نستخدمه واقعياً ونجعل له أسباباً مادية يعود في الأصل اللغوي إلى الميثولوجيا، فحتى أسماء المعادن والأدوية تعود إلى الميثولوجيا أمثال ميركوري... وهكذا. إن الطب والصيدلة والعلم والعلوم الإنسانية بكامل أبهتها ومهابتها إنما تستنجد باللغة الميثولوجية القديمة حتى تعبر عن مكتشفاتها واختراعاتها.
ليموس ربة الجوع، لا يحق لأي إله من الآلهة أن يفرض الجوع على البشر من دون مشورتها، ومن دون أن تصدر أمراً بذلك. ولكن من ليموس؟ في سلسلة الأنساب هي بنت أريس Aris إله الحرب (مارس عند الرومان) وإريس Eris ربة الشقاق والفرقة. ومن هنا نعرف لماذا اعتمدت الآثار الأدبية اليونانية على هذا الثالوث في تحريك العمل السردي، فإريس تزرع الشقاق، وأريس يثير الحرب وليموس تنشر المجاعة. ولم تختلف الآداب الرومانية في هذه الناحية عن الآداب اليونانية، فكما يفعل أريس في الإلياذة، مع الربتين الأخريين، كذلك يفعل مارس في الإلياذة، وقد زاد فرجيل على ذلك أن فامينا، ربة الجوع الرومانية نجدها تقف عند بوابة أركوس Orcus رب ديار الموتى (يقابله هاديس لدى اليونان) مع العديد من الآلهة المخيفة التي تمثل المرض والفقر والخوف والشيخوخة والحزن... الخ.
إذن هنا اتسعت الرقعة، وتعددت الأسباب أكثر مما ذكره اليونانيون، فهناك أشياء كثيرة غير أرباب الحرب والشقاق والمجاعة تقف وراء الشقاء البشري. ومن هنا نفسر سبب اهتمام الرومان بالبنية التحتية في كل الأقطار التي دخلوها، من إنجلترا حتى بلاد الشام، فهناك شبكة ضخمة جداً من الأقنية والترع والسدود كفيلة بوقف تلك الأرباب (أوبئة الدمار) عند حد معيّن، ولذلك قلما حدثت مجاعة مروّعة في العصور الرومانية.
من دون ليموس لا يوجد جوع ولا مجاعة، أي ليس هناك فرد يجوع أو شعب يسغب من دون أمرها. فالجوع ظاهرة إلهية وليست ظاهرة بشرية، فلا يوجد أحد يريد أن يجوع أو يجيع، وحتى في حالات الجفاف والقحط، فإنها تعزى إلى غضب الآلهة. فإذا آمنا أن الميثولوجيا اليونانية ليست أكثر من رموز لواقع ملموس، اتضحت لنا دلالة الميثولوجيا على الأسباب المادية التي تؤدي إلى المجاعة، وهي أسباب لا تختلف عن الأسباب التي تحدثت عنها الأمم المتحدة في أيامنا المعاصرة.

عقاب
تحدثنا من قبل حديثاً يشمل العموم، وليس الأفراد، ولكن الأدب في العصور الميثولوجية لم يغفل عن العقاب الفردي، فقد يصيب الجوع الفرد كما يصيب المجموعة. وليس من اللازم أن يكون الفرد فقيراً حتى تطاله المجاعة، فقد يكون غنياً، من أمثال الملك أريستيخون، الذي أراد أن يؤثث البلاط من خشب السنديان، فأوعز لخدمه وحراسه أن يقطعوا أشجار الغابة، فلم يجرؤ أحد منهم أن يضرب شجرة السنديان بشفرة بلطة أو رأس فأس، لاعتقاده الميثولوجي أن لكل شجرة، ولكل نبتة، ولكل زهرة، حورية تعيش فيها وترعاها. وترجمة هذا في العصر الحديث هو المناطق الطبيعية المحمية، غير المخصصة للقطع أو القلع أو الزراعة. في القديم كانوا يعتقدون أن حوريات الغاب هن اللواتي يحمين هذه النباتات، بينما في يومنا نجد أن القوانين هي التي تحمي. ومن يقارن بين التعاليم الميثولوجية والقوانين الحديثة يجد أن الأولى أشد فعالية وأكثر عمقاً واتساعاً من الثانية، لما تزرع من خشية في القلوب بسبب القداسة التي تدعيها.
وركب العناد أريستيخون، وأصرّ على قطع السنديان، فلما فعل هربت الحوريات واحتججن عند الربة المبجلة ديميتر (سيرس عند الرومان) فطلبت من ربة الجوع ليموس أن تبلوه بالجوع عقاباً على قسوته وعنفه، ففعلت فظل الرجل يأكل ولا يشبع، إلى أن وصل إلى وقت لم يجد ما يأكله، فراح يلتهم نفسه. وفي هذا إشارة إلى عقاب من يجترح الطبيعة إنه موقف أخلاقي ينسجم مع الموقف الميثولوجي الذي يحرص على الطبيعة، مصدر حياة البشر، بل أم جميع الآلهة في العقيدة اليونانية.
لكن هذه القصص فردية، أوردنا هذه القصة لنظهر للقارئ، أن القدامى لم ينسوا الانتهاكات الفردية، فلو كثر أمثال أريستيخون، لكان ذلك أشبه بالقحط يصيب الأرض، وربما كان الخوف من الجوع وراء هذا التقديس للحفاظ على خيرات الطبيعة. وفي الميثولوجيا لا يجوز أن يتجزأ القانون فيكون هناك قانون للأفراد وآخر للجماعات، فالعقاب الإلهي واحد، وعندما تنزل المجاعة على فرد أو على شعب، فإنها تكون من عند الإله، ولكن درء المجاعة يكون بخطوات واقعية. وهذا قانون عام يسري على كل الفكر الميثولوجي.
أمثلة
اشتهرت بلدان جنوب شرق آسيا بكثرة الأوبئة والمجاعات، وكثرت الدراسات والصلوات والأضاحي من أجل تجنب هذه الجائحات، أو التخفيف منها على الأقل. وفي القرن الثالث قبل الميلاد ظهر كتاب «أرثو شاسترا» ويعني «علم الكسب المادي» لمؤلفه كوتيلي Kautily الفيلسوف ورجل الدولة الهندي في بلاط الإمبراطور شاندراغوبتا، فيظن القارئ من العنوان أنه يتحدث عن الطرائق العلمية لتجنب جائحة الجوع، ولكنه يرى أن هذه الظاهرة، مع ظواهر أخرى من حرائق وطوفانات وأوبئة وانتشار الفئران والأفاعي والأرواح الشريرة إنما هي من عند الله، ولا يمكن التغلب عليها إلا باسترضاء الآلهة والبراهميين (وكان كوتيلي نفسه من طبقة البراهميين، وهي الطبقة العليا، وشبه المقدسة في الهند) ولكنه من جهة أخرى نصح الإمبراطور أن يقوم بتوزيع البذار وبقية المواد والوسائل على الفلاحين، فيكون تفادي الكوارث مجدياً... ولكن بعد تقديم الأضاحي وما يرضي الآلهة وطبقة البراهميين. وبهذا يكون قد أسند مسؤولية الكوارث إلى الآلهة، وأسند مسؤولية التخفيف منها إلى الإمبراطور (أو الدولة في العصر الحديث) الذي يتوجب عليه أن يفتح مخازنه ويوزعها..
لو انتقلنا إلى أميركا الشمالية لوجدنا أن الجوع عبارة عن روح ترضى عن الشعب ما دام يقدم لها الأضاحي ويرفع لها الصلوات، ولكن إذا حدث نقص، فإن المجاعة تجتاح البلاد. والغاكي Gaki في اليابان أيضاً شبح الجوع، يجب تقديم الطعام له قبل أن توزع الصوامع مواد الحبوب والبذار. أما الغوي Gui الصيني فلفظ يدل على أشباح الذين ماتوا جوعى كالذين ضلوا في الغابات أو الذين ماتوا غرقاً... فهؤلاء يثيرون الأوبئة والمجاعات إن لم تقدم لهم الأضاحي، لإسكات جوعهم. وفي الديانة البوذية هناك البريتا Preta أشباح العطاش الجوعى، الذين يوجبون على المتدينين أن يقدموا لهم ما يستحقون، بحسب تراث ديني موغل في القدم، وإلا قطعوا دورة الحياة وأحدثوا المجاعة بين الناس. وفي نيكاراغوا يعتقدون أن رب الجوع فيزيتوت Vizetot الذي لا يشبع ولا يرتوي يحدث المجاعة، إن لم يقم الشعب بتقديم واجباته من الطعام والشراب لهذا الإله، ويكون حجم المجاعة بمقدار حجم التقصير من الناس. بعد سبعة عشر قرناً من كتاب كوتيلي اجتاح الطاعون الصيني في القرن الرابع عشر كل أوروبا، ووصل إلى الجزيرة البريطانية، وقد انعكست آثاره في كتب أدبية باتت شهيرة أمثال «الديكاميرون» للإيطالي بوكاشيو، و«حكايات كانتربري» للإنجليزي تشوسر، وغيرها من الكتب التي تعتبر بداية النهضة الروائية التي مهدت الطريق لرواية القرن التاسع عشر. لم يختلف موقف الأوروبيين من الجائحة التي سببت الموت والمجاعة عن موقف الهنود من المجاعة، فقد اعتبروها غضباً إلهياً، بالمفهوم المسيحي، ولكنهم عملياً كانوا يكافحون الطاعون، الذي قضى على نصف سكان أوروبا، بطرق عملية وعلمية، فكانوا يعزلون المريض، ويحاولون وقف الإقياء، كما كانوا بغطاء رؤوسهم يكممون أفواههم وأنوفهم عندما يدفنون موتاهم.

لغة لا تموت
أشرنا إلى أن كلمة مجاعة هي فامين بمعظم اللغات الأوروبية، وتستخدم اليوم كأنها اسم عادي من واقع لا من خيال، مع أنها اسم ربة الجوع عند الرومان. ولو تقصينا الكثير من الكلمات في الكثير من المجالات التي نزعم أنها حديثة جداً، لوجدنا «فامينات» كثيرة فيها، سواء بسواء الطب والفيزياء والكيمياء وعلم النفس وعلم الاجتماع... ناهيك عن الفنون الأدبية المتنوعة والمختلفة، بل ما تزال اللغة الميثولوجية تستخدم في حياتنا العامة. ومع افتخارنا أننا تخلصنا من الميثولوجيا، نجد أنفسنا أعجز من أن نأتي بلغة لما نشاهد أو نبتكر. ومع كل محاولاتنا «الواقعية» ومنظماتنا العالمية، ما تزال السيدة «فامينا» تتجوّل بحرية حيثما تريد، تصاحبها رفيقاتها ورفاقها.

من تراث الشعوب
في أميركا الشمالية الجوع عبارة عن روح ترضى عن الشعب ما دام يقدم لها الأضاحي ولكن إذا حدث نقص فإن المجاعة تجتاح البلاد

الغاكي Gaki في اليابان هو شبح الجوع ويجب تقديم الطعام له قبل أن توزع الصوامع مواد الحبوب والبذار

الغوي Gui الصيني لفظ يدل على أشباح الذين ماتوا جوعى كالذين ضلوا في الغابات أو الذين ماتوا غرقاً..

في الديانة البوذية هناك البريتا Preta أشباح العطاش الجوعى الذين يوجبون على المتدينين أن يقدموا لهم ما يستحقون

في نيكاراغوا يعتقدون أن رب الجوع فيزيتوت Vizetot يحدث المجاعة إن لم يقدم له الشعب الطعام والشراب