مستقبل بولندا السياسي على مفترق طرق
قلما تكون المأساة الشخصية متشابكة ومتداخلة مع المأساة السياسية إلى هذا الحد، ولذلك، فإن حادث تحطم طائرة "تو 154" في سمولنسك بروسيا خلال عطلة نهاية الأسبوع قبل الماضي وعلى متنها رئيس البلاد والسيدة الأولى والعشرات من المسؤولين الآخرين يعتبر بالنسبة لبولندا حدثاً جللا يغير تاريخ هذا البلد، ولكنه يعد أيضاً مأساة شخصية كبيرة جدا بالنسبة لرئيس الوزراء السابق ياروسلاف كاتشينسكي، الذي فقد شقيقه التوأم- مساعده الدائم وشريكه السياسي الرئيس ليش كاتشينسكي. غير أن التأثير بعيد المدى لهذه الكارثة على اليمين البولندي -على رؤيته للعالم وعلاقاته مع الخصوم الداخليين وموقفه من روسيا- يمكن أن يشكله الأخ التوأم المكلوم، إنْ هو اختار ذلك.
القصة تبدو كرواية، وإن كانت تفتقر إلى الواقعية على اعتبار أن تقلبات الحبكة الروائية بعيدة الاحتمال، والمصادفات فيها تبدو منظمة على نحو صادم. فالأخوان التوأم المتطابقان وُلدا لأبوين بولنديين وطنيين شاركا في انتفاضة وارسو عام 1944. وبعد تجربة قصيرة كطفلين ممثلين، درس الأخوان القانون والتزاما بالإطاحة بالشيوعية، حيث عملا في المعارضة السرية.
وبعد هزيمة الشيوعية، تأقلما بسرعة مع اللعبة الديمقراطية الجديدة؛ وفي غضون عقدين من الزمن، أصبحا أنجح معارضين سابقين-حيث تقلدا في إحدى الفترات منصبي الرئيس ورئيس الوزراء.
هما رجلان متشبعان بالإيديولوجيا كرسا حياتيهما لتطهير بولندا من التأثيرات الشيوعية المتبقية، إضافة إلى إحياء ذكرى الجرائم التي ارتكبت في حق بولندا، وبخاصة تلك التي ارتكبتها روسيا، وفي مقدمتها مذبحة الآلاف من ضباط الجيش البولندي وآخرين من النخبة البولندية في غابة كاتين عام 1940. غير أنه في تطور سيرفضه أي مؤلف لأنه تطور مثير للسخرية على نحو سافر، يموت الأخ التوأم في حادث تحطم طائرة في طريقه لإحياء الذكرى السبعين لوقوع المذبحة!
وهذا يقودنا إلى الأخ التوأم الذي مازال على قيد الحياة: أعزب يبكي أخاه وزوجة أخيه والعشرات من الزملاء والأصدقاء السياسيين. والواقع أن كل النخبة السياسية البولندية في حداد هذه الأيام؛ وقد قال أحد السياسيين عن نفسه إنه لا يعرف على مَن مِن أصدقائه الكثيرين يذرف الدموع، ذلك أن كل واحد من الأحزاب السياسية الرئيسية فقد ثلاثة أعضاء مهمين على الأقل. ولكن "ياروسلاف كاتشينسكي" فقد شيئاً أكبر من ذلك بكثير.
قبل عدة سنوات، حاورتُ الأخوين "كاتشينسكي"، كلا على حدة، حول مفاوضات "التضامن" مع الشيوعيين. وكان أحد التوأمين قد شارك في المحادثات الرسمية، بينما شارك الآخر في الاجتماعات الخاصة. وبكل صدق أقول إنه كان يمكنني أن أوفر على نفسي الوقت وأكتفي بمحاورة أحدهما فقط، ذلك أنهما كانا يعرفان الحقائق نفسها وأخبراني بقصص متطابقة.
وعلى سبيل المثال، كان "ياروسلاف" حريصا ًعلى أن يتحدث لي عن المساهمة التي قامت بها والدته في المفاوضات السرية، ولكن أيضا عن طريقة تفكير "ليش"، ومن جانبه، حرص "ليش" على أن أفهم ما أضافه ياروسلاف إلى اجتماعات المعارضة.
في بولندا الديمقراطية، استمر التوأمان في العمل في إطار شراكة سياسية قوية، لم يظهر عليها أبدا أي خلاف علني بينهما حول أهدافهما الأساسية. بل وحتى في 2006-2007 ، بوصفهما رئيسين لمؤسستين متنافستين تقليديا هما مؤسسة الرئاسة وحكومة رئيس الوزراء، عملا معا من دون مشاكل. ثم إن آخر مكالمة هاتفية قام بها "تشينسكي" من على متن طائرته المشؤومة كانت إلى شقيقه ليقول له إن الرحلة إلى "كاتين" تسير وفق ما هو مخطط لها.
وبوصفه زعيما لـ"القانون والعدالة"، الذي يعد الحزب "اليميني" الوحيد الذي يستطيع جمع ما يكفي من التوقيعات لترشيح مرشح للانتخابات الرئاسية المبكرة، يمكن القول إن لدى "كاتشينسكي" القدرة على تحديد مستقبل "اليمين" البولندي، لاسيما وأن لديه سلطة أخلاقية استثنائية للقيام بذلك بوصفه وريث عهد شقيقه. والأرجح أن تفسير "كاتشينسكي" الحي لهذه المأساة، بغض النظر عن ماهيته، سيلقى قبولاً لدى نسبة مهمة من البولنديين. فهل ما جرى كان قضاء وقدرا؟ أم هو أحدث شهادة لـ"البولندي الحقيقي"؟ وهل ينبغي عليه أن يقبل المبادرات التصالحية لخصومه السياسيين، أو أن يرفضها باعتبارها تنم عن النفاق والانتهازية؟ وهل يجدر به أن يتعامل مع تصريحات التعاطف والتضامن الروسية كما تبدو ظاهرياً؟ بيد أن هذه الإمكانيات تظل سياسية فقط؛ وفي ظل مأساة شخصية مثل هذه، فإن "كاتشينسكي" قد ينسحب من السياسة بالكامل.
والحقيقة أنه في رواية كان الأمر سينطوي على قدر كبير من التشويق، في وقت يستعد فيه الأخ المكلوم للجنازة التي تقام اليوم (الأحد)، والذهاب إلى المستشفى لعيادة والدته طريحة الفراش، والتي أوصى أطباؤها بعدم إخبارها نبأ وفاة ابنها.
غير أنه لسوء حظ "ياروسلاف كاتشينسكي" والبولنديين، الذين انضموا إليه في الحداد، فالأمر يتعلق هنا بالواقع، الذي يكون أحياناً أغرب من الخيال!
ماجوري كاسل
أستاذة العلوم السياسية بجامعة يوتا الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«واشنطن بوست»