عصام أبو القاسم (الشارقة)

تتداخل في سيرة المهندس والمنظر المعماري العراقي الراحل رفعة الجادرجي 1926 - 2020، الذي توفي يوم الجمعة بلندن متأثراً بإصابته بفيروس كورونا، شواغل الهندسة، وكشوفات الإنثربولوجيا، وأسئلة الفلسفة، تداخلاً حيوياً، فلقد كان الرجل خبيراً ومولعاً بكل تلك المجالات، وكان كل عمل من أعماله بمثابة تجسيد لمعارفه المتنوعة هذه، وحياة المهندس الجادرجي عمرت بالعديد من المحطات والتحديات الفنية والسياسية الدراماتيكية.
الجادرجي الذي برز في مجاله أواخر خمسينيات القرن الماضي، مزج في تجربته المعمارية بين الممارسة والتنظير، فهو صمم العديد من المعالم المعمارية البارزة في عاصمة بلاده وفي عدد من البلدان العربية، كما أنجز مجموعة متنوعة من الكتب حول المعمار وعلاقته بالناس والمجتمع والفلسفة. ومنذ الستينيات دُرست تجربته في تصميم المباني، باعتبارها انعكاساً لرؤية فنية تمزج بين التراث والمعاصرة، فهو منفتح على التقنيات الغربية، ولكنه يحتفي كذلك بأشكال وتصاميم البيوت العراقية التقليدية، ولذلك سعى إلى أن يجعل من منجزاته تجسيداً لمنظوره التوفيقي هذا، وهو كان يرى أن العمارة الإسلامية انتهى زمنها مع عصر النهضة الأوروبية، ولا معنى لاستنساخ نماذجها، ولذلك كان يدعو إلى اكتشاف أسلوب عربي «جديد».
لم يمر المجتمع العربي بحسب الجادرجي بعصر النهضة، ولكنه تعلم من أوروبا، وهذا ما ينبغي الانتباه له عند التفكير في مسألة الهوية المعمارية بين النموذجين العربي والغربي.
وفي العديد من الحوارات التي أجريت معه، وكذلك في بعض مقالاته، يلح الجادرجي على اعتبار العمارة أداة حوار اجتماعي، وهو يقول إن شكل المبنى الجميل ينعكس على سلوك سكانه والمحيطين به، مثلما يؤثر الملمح الكئيب للمباني على مجتمعاتها، ويرى المعماري الذي عاش بين بغداد ولندن أن من المهم عند إنشاء المباني التفكير في جمالياتها وأدوارها الوظيفية، كما ينبغي مراعاة البعد الشخصي والاجتماعي لهذه المباني، بحيث تستجيب لخصوصية الفرد/‏‏‏‏‏ الذات، بقدر ما تكون منفتحة على المجتمع/‏‏‏‏‏ الآخر.

السجن.. حياة
وتلخص سيرة الجادرجي مع المعمار قصة العاصمة العراقية وما عرفته من تحولات سياسية واجتماعية طيلة حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وبالرغم من أنه تجنب الانتساب إلى أي حزب سياسي، لم يسلم من العقوبة السياسية فلقد حبس أواخر السبعينيات في عهد الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة لرفضه المشاركة في مشروع هندسي للحكومة، وعند تسلم صدام حسين للحكم أفرج عن الجادرجي بعد أن أمضى نحو عامين. والسبب، رغبة صدام حسين في إعادة بناء بغداد وتجميلها بمناسبة مؤتمر دول عدم الانحياز 1982.
وفي السجن كتب الجادرجي ثلاثة مؤلفات مهمة، شكلت فاتحة مشواره مع الكتب، هي «صورة أب»، و«شارع طه وهامرسث»، وأغلب أجزاء كتاب «الأخيضر والقصر البلوري» 1985. ولقد وثق وزوجته بلقيس شرارة تجربة المعتقل في كتاب صدر تحت عنوان «جدار بين ظلمتين» 2003. كان موقع الحبس سجن أبو غريب، وفي حوار أجرته معه أنعام كجة جي (2004) اعتبر مبنى السجن معلمة معمارية يجب الحفاظ عليها.
وفي سجل أشغاله الهندسية التي غدت من أهم المعالم في المدن التي أنشئت بها يظهر أن آخر صرح شيده كان سنة 1977، وهو المسرح الوطني في أبوظبي، وهو كان صمم نصب الجندي المجهول في بغداد 1959، وقاعدة نصب الحرية في ميدان التحرير ببغداد في السنة ذاتها، والبريد المركزي 1970، ومبنى مجلس الوزراء 1975، وسواها من المنشآت السياسية والخدمية، كما صمم بعض المباني في الكويت والبحرين. ومثلما شارك وشهد ووثق بكاميرته تشييد عمائر بغداد وصروحها الحضارية كالمساجد والأبواب والنصب شهد أيضاً تهديمها وحرقها في الحرب الأخيرة ولقد تأثر بذلك، فكل بناية، بناها هو أو غيره، كان الجادرجي يتألم لزوالها.

نورة الكعبي: سيترك فراغاً كبيراً في الساحة المعمارية العربية
أكدت معالي نورة بنت محمد الكعبي وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة، أن العالم خسر رفعة الجادرجي، كقامة معمارية وأكاديمية عربية، وقالت معاليها في تصريح لـ «الاتحاد»: «ترك رفعة الجادرجي إسهامات عظيمة على فن العمارة الحديثة، وغيّر مفهوم العمارة التقليدية بإضافات عصرية، فمزج بين الحداثة وأسلوب العمارة التراثية، وصمم عشرات المعالم العربية، التي لا تزال شاهدة على حجم إنجازاته وإسهاماته».
وأكدت نورة الكعبي، أن رفعة الجادرجي رفد المكتبة العربية والعالمية بعشرات الكتب والأبحاث عن فن العمارة العربية، وكان له الفضل في وصول فن جمال عمارتنا إلى الجامعات العالمية والمعارض الفنية.
وأضافت نورة الكعبي: لقد صمم رفعة الجادرجي المسرح الوطني في أبوظبي، التابع لوزارة الثقافة وتنمية المعرفة، بتوجيهات من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، في سبعينيات القرن الماضي، كأحد المعالم الثقافية في قلب العاصمة أبوظبي، التي تبرز في تفاصيلها جمال تصميم العمارة العربية، وحرصه على الاستفادة من جميع المساحات الموجودة في المسرح، لقد نظر الجادرجي إلى العمارة كجزء من الهوية والثقافة للشعوب، وحرص على تجسيدها على أرض الواقع في كافة أعماله».
وختمت وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة بالقول: «سيترك رحيل رفعة الجادرجي فراغاً كبيراً في الساحة المعمارية العربية، لكن إرثه الإنساني وفكره المعماري الفريد سيبقى خالداً في التاريخ».