إن عدد الرحالة العرب الذين استبتهم الأقاصي لا يكاد يحصى· منذ ابن فضلان ورحلته باتجاه بلاد الترك والروس والصقالبة صارت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي· لا سيما أن الرحلة من جهة كونها حركة سفر وانتقال إنما تترجم الرغبة في العبور من الهنا إلى الهناك، من الأليف إلى المجهول، من المحدود الضيق الخانق إلى المطلق· والناظر في ما كتبه العرب من رحلات يلاحظ أن أدب الرحلة هو أدب الإتيان بالعجيب وقتل الضجر· لذلك يكون العقد بين الرحّالة ومتلقيه المفترض عقدا مضمرا مسكوتا عنه· لكنه عقد محدّد بيّنٌ أيضا، إذ لا يمكن للمتلقي أن ينشدّ إلى الحكاية إلا متى وجد فيها ما ينتشله من الضجر· إن الرحّالة يعلم يقينا أن تجربته لا يمكن أن تنال القبول والإعجاب إلا متى عوّل في سرد وقائع رحلته على قانون التعجيب حتى لا يخذل توقعات المتلقي· والتعجيب هو الذي يمكّن الكلام من تخطّي عتبة العادي والمتعارف والمألوف· وهو الذي يجعل الكلام يتشكل جامعا إلى اللذّة الاعتبار، وإلى الإمتاع المؤانسة· إن الرحالة عابر سبيل· إنه قنّاص الفريد والعجيب والفاتن· وهو لا يدوّن رحلته إلا ليطرح كنوزه قدّام بني قومه· وبذلك تصبح عملية التدوين في حدّ ذاتها نوعا من الإيثار والكرم، إيثار الرحّالة لبني قومه وكرمه تجاههم· فهو لا يغنم الثروة لنفسه بل يمكّن ناسه مما غنمه· فيجنّبهم ويلات السفر وأهواله ومخاطره ويحقّق لهم، عن طريق التخييل والقصّ، المتعة التي تتولّد عن رواية تلك الأهوال والمخاطر· لكن مقارنة بسيطة بين أدب الرحلة عند العرب القدامى والعرب المعاصرين سيضعنا في حضرة تبدّلات العجيب والفاتن· لم يعد الفاتن متعلّقا بعجائب الجان وعجائب المخلوقات والمحيطات والكائنات الخرافية، وصار مشاهدا في الأعيان· يكفي أن نقرأ ما كتبه أحمد فارس الشدياق في وصف نساء باريس وسيتبيّن لنا أن هذا اللقاء كان عاصفا مدوّخا· لذلك صارت الكتابة بمثابة نشيد يرفع تمجيدا لعجائب الإنس والنسوان· نقرأ: ''هذا وقد اختصت نساء باريس بصفات لا يشاركهن فيها أحد من نساء الإفرنج· فمن ذلك أنهن يتكلمن بالغنّة والحنّة والنشيج والهُزامج والترنجح والتطريب والسكت والحبرة والنبرة والأجشّ والتعثيث والرجيع والأضجاع والقُطْعة والتغريد والتهويد والمدّ والترسيل والترتيل والفصل والوصل والزجل والهلهلة والإدغام والترخيم والتدنيم والترنيم والروْم والإشباع والتفخيم والإمالة والتنعيم والتنغيم والتحزين والحنين والجدن والتلحين والطثن والشجو والترنية· حتى ينتشي السامع فلا يعلم بعد ذلك هل هن يفككن أزراره أو فقاره·'' لقد احتمى الشدياق بالكلمات لينقل إلى المتلقي عنف الزلزلة التي طالت منه الجسد وعصفت بالحواس· لم يتمكّن الشدياق من نقل الانفعالات التي استبدّت به في تلك اللحظة إلا بعد أن بُلبِلَ لسانه أو كاد، وصار الإفصاح أشبه باللعثمة· لقد فاقت عجائب الإنس والنسوان عجائب المخلوقات والجان·