جرياً على العادة التي ليست بحميدة دائماً، سأنقب عما تعني هذه الكلمة/‏ المصطلح: (التهجين) في معجميتنا وتراثنا. فقد درج أن يبدأ واحدنا، وبخاصة منذ عقود، بتأصيل مصطلح حديث في العلوم الإنسانية، مثلما درج في تعريب العلوم الأخرى، وبما لا ينقصه التمحّل والتكلف، سواء في بعض المجتمعات الأكاديمية أم في بعض المجامع اللغوية.

تفيدنا المعجمية أن الهجين هو ابن الأمَة، ما لم تُحصَّن. والهجين من الخيل هو ما ولدته برذونة من حصان عربي. وليس بدعاً بالتالي أن يكون التهجين هو التقبيح، فهجّن الكلام: جعله معيباً ومرذولاً. ولدى علماء السلف أن تهجين العلم هو إضاعته، والتهجين هو التلفيق، وبالتالي فالمهجّن هو من لا أصل له، والرجل الهجين هو اللئيم الحقير. وسوى ذلك، هي ذات الهجنة التي يؤثرها إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والامبريالية» على التهجين، ويعدها عاملاً مقرباً بين الثقافات، وتنبيهاً إلى استحالة وجود ثقافة أصلانية، فالثقافات جميعاً مهجّنة ومولّدة ومتخالطة. وفي عصر التواصل نحن في دفق لا محدود للمعلومات، أي نحن في طغيان للهجنة/‏‏ التهجين. كذلك تحدثت عائشة الدرمكي عن «ثقافة الهجنة»، فيما كتبت تحت هذا العنوان، مبتدئة بما ابتدأ به نيستور جارسيا مقالته «الثقافات الهجينة واستراتيجيات التواصل» حيث يرى أن التهجين هو تأليف ثقافي بين مجموعات ثقافية وظواهر يتضافر فيها التقليدي بالحداثي والنخبوي بالشعبي. أما المعجمية والتراثية فتفيد أن الهجنة من الكلام هي ما يعيب، والهجنة في الناس والخيل تكون من قبل الأم ـ أيّ إعلاءٍ هذا للذكورية/‏‏ الأبوية! ـ والهجنة هي أيضاً الغلظة والإضاعة.
من العلامات التراثية الفارقة في التهجين، يرصد إبراهيم محمود في كتابه «رهانات التهجين: الجسد والثقافة» ما يدعوه بالتهجين الجاحظي نسبةً إلى من جعل له هذه الألقاب: المفكر المعتزلي الأديب الحكواتي المؤرخ الساخر الناقد: الجاحظ، وذلك في كتابه «الحيوان» حيث يتمازج البشري والحيواني والنباتي والجماد، أي كل ما يُخص الإنسان أدبياً وفكرياً، مما يعزز القول بوحدة الثقافة. ويذهب إبراهيم محمود إلى أن تنوع كتابات الجاحظ يؤشر إلى أن التهجين يستغرق كل شيء، كما أن التهجين يبلغ أن يربط بين النص وصاحبه، فيما كان الجاحظ يقوم به، إذ ينسب كتاباً له إلى غيره، وإذا كان إبراهيم محمود يرى أن التهجين يمنح الحيوان حضوراً استثنائياً ـ فما هو حيواني ليس قضية زوولوجية، بل قضية إنسانية عامة ـ فقد ذهب أبعد فيما قرأ من الجاحظية عند كمال الدين محمد بن موسى الدميري في «حياة الحيوان الكبرى» إذ رأى في تنوع كنى الحمار (أبو صابر – أبو زياد...) وكنى الأتان (أم تولوب – أم جحش – أم نافع...) تعبيراً عن تصور ثقافي مختلف عليه: مرحى للتهجين!

ما هو التهجين
من المعلوم أن ك
لمة/‏‏ مصطلح التهجين قد ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، لنوع خاص من الغنم، ثم انتقلت إلى الإنسان، أي أنها انتقلت من البيولوجيا إلى الإنسانيات. وفي (معجم الجسد) أن كلمة تهجين خلال القرن العشرين قد انحرفت رويداً من البيولوجيا باتجاه الثقافة وعلم الاجتماع، حتى بات للتهجين وعوده في الأدب والفلسفة والنقد، ومنها ما تحقق، ومنها ما يتحقق، ومنها ما ينتظر، فبين جنبي كل فيلسوف لا يسمي نفسه فيلسوفاً كأسلافه، شاعر، كما أن بين جنبي الأديب ذلك المأخوذ بهوى التفكير الفلسفي: مرحى للتهجين!
يرصد إبراهيم محمود في كتابه المذكور عشرات التعريفات للتهجين. ومن كل تعريف يستلّ دلالة، وعلى هامش كل تعريف له مبثوثة ما. ومن ذلك الكثير المتنوع والمختلف والواضح والغامض والبسيط والمعقد، قوله: التهجين لسان التعدد، وبنية علاقات لا يتوقف التفاعل بين مكوناتها. والتهجين هو الذاكرة المركبة، هو «نحن» فيما كنّاه أو نكونه الآن ومن بعد. والتهجين هو الفاعل وراء تعددية الأجناس البشرية، وراء التنوع الثقافي في البيني، وراء الحضور المؤثر للفرد، وراء التاريخ بمكوناته الاجتماعية والحضارية.
التهجين هو الرصيد الكوني لمن يعيش الكونية. وحين لا يني المرء يتحدث عن محدودية معلوماته، يكون قد أدرك حقيقة التهجين. والتهجين شاردة لغوية. وهو تيه المعنى، وخروج عن النسق، وإقلاق للتنميط القائم. وهو ينطوي على صنافة كبرى من الإغراءات المضمرة والمعززات النفسية، ويتلبس كل نشاط إنساني. ويرى إبراهيم محمود أننا قد بخسنا التهجين حقه وما زلنا نكابر، وهو القائم في كل ما يحيط بنا، ويتدفق دماً في داخلنا، ولكن، هل يمكن تحديد هوية التهجين؟ هل من فارق بين تهجين وتهجين؟
ثمة تهجين سلبي ومخجل يبلغ أقصاه حين يطلب شعب من قوة خارجية أن تدخل بلاده وتقرر مصيره. وقد رأينا في أمس قريب، مما يلتبس بالحنين إلى الاستعمار.
وثمة تهجين سياسي هو تاريخ المهزومين الذين يلتقون بالمنتصرين، وبالعكس. وعموماً ما من شيء مستثنى من التهجين، وكلنا مهجنون، ذلك أن ما يصلنا بالتهجين هو لغتنا، أعرافنا، قيمنا، بطولاتنا، انكساراتنا، أحلامنا، علومنا، فنوننا، معارفنا المتخيلة... ودرس التهجين هو أن نعي أن الوجود لا معنى له إلا إنْ كنا مع بعضنا بتشابهاتنا واختلافاتنا.

نحن والتهجين
بين ظهرانينا من يعزو وجود التهجين في لغتنا إلى الاستعمار. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تجد تحذيرات من (طاغوت التهجين الثقافي). كما في وصية الحبيب المرشد سيدي عبد السلام ياسين: «فإننا إن اقتربنا طوعاً وميلاً أو استقلنا بين يدي طاغوت التهجين الثقافي والتدمير الأخلاقي فقد وقعنا في حمأة الفواحش».
مقابل هذا العماء، ثمة من يُعْمِل البصر والبصيرة في التهجين، مثل شكري عزيز ماضي الذي كان من السابقين. وقد سمى التهجين بالفسيفساء السردية في كتابه «أنماط الرواية العربية الحديثة» (2008). وقد ذهب عبدالله إبراهيم إلى أن الرواية الغربية لم تعد صافية لأهلها، بل مهجنة. والتهجين في رأس ما يميز هذه الرواية في السنوات الأخيرة، حيث هيمن عليها روائيون كبار غير غربيين، ما جعل عبدالله إبراهيم يتساءل عما إذا كانت هذه الظاهرة من بوادر تفكيك المركزية الغربية في المجال الثقافي. وفي هذا الحقل تحفر دراسات التابع، ودراسات ما بعد الكولونيالية، وربما كان من أوفاها كتاب روبرت يونغ «ما بعد الكولونيالية» الذي صدرت ترجمته العربية للتو. وكذلك هي الدراسات النسوية، وربما كان من أوفاها كتاب ماري إيجيلتون «نظرية الأدب النسوي» الذي صدرت ترجمته للعربية مؤخراً. وفي هذا الحقل تتلامع أسماء هومي بابا وإدوارد سعيد وغاتيري سبيفاك.. وقد أخذت ناديا هناوي على عبدالله إبراهيم في كتابها «موسوعة السرد العربي: معاينات نقدية ومراجعات تاريخية» (-2019) والذي أوقفته على دراسة كتاب عبدالله إبراهيم «موسوعة السرد العربي» أن الرجل لم يعرج على دلالة مصطلح التهجين ولا على تاريخيته، مكتفياً باعتبار التهجين هو الاندماج أو الاشتراك بين السيرة والرواية.
وتقارب لطيفة الديلمي التهجين في مستوى آخر، هو تهجين الثقافة لدى الهنديين هومي بابا وغاتيري سبيفاك. فالأول يطرح مفهوم التهجين لتفسير نشوء أشكال ثقافية جديدة في عالم التعدد الثقافي، عالم ما بعد الكولونيالية. أما سبيفاك التي تصف نفسها بالتفكيكية النسوية، فترسم التهجين في تداخل العلوم المختلفة، وتضمين كل منها للآخر. وكان المعز الوهايبي قد قارب التهجين فيما كتب عن لوأندريا – سالومي. فقدّر التهجين فيما وسم أسلوب سالومي الجديد في الكتابة، حيث مارست تطعيم القول الفلسفي القائم على المفاهيم الكلية بضرب من التفريد أي استحضار معطيات فردية من الحياة الشخصية للكاتب. وللمرء أن يقدّر التهجين في حديث الوهايبي عن كتابات سالومي النظرية والسردية، أي كتاباتها في اللاهوت والنقد الأدبي والتحليل النفسي والقصة والرواية، كذلك في رسائلها المرصعة ببليغ الشواهد الشعرية والطافحة بلطائف الأفكار الفلسفية. فالرسالة هنا ضرب من سردية الاعتراف والشهادة، دون أن تكون توثيقاً بارداً لأحداث معيشة، بل هي تحليل لتلك الأحداث وتعليق عليها بأسلوب مشبع بالخيال. والنص النظري لسالومي، بتعبير الوهايبي أيضاً، كالنص الأدبي، لا ينفتح إلا بمفتاح شخصية صاحبه. وإذ يتحقق ذلك يغدو من قبيل السيرة الذاتية مهما يكن مغرقاً في التجريد.

التهجين في الشعر
مما يؤشر إلى مدى حيوية التهجين، بحسب إبراهيم محمود، ما يفعل في الشعر. وللبرهنة على ذلك يعود إلى وصف امرئ القيس لحصانه في معلقته: «له أيطلا ظبي وساقا نعامة/‏‏ وإرخاء سرحان وتقريب تتفلِ». فبالممارسة التهجينية تلاقت خاصرتا الغزال وساقا النعامة، وسرعة عدو صغير الثعلب، فيما هو (والدا) التهجين: العجيب والغريب.
ويمضي إبراهيم محمود إلى شعر آراغون، ومنه قوله في إلزا «حبك وعلةٌ تعدو/‏‏ وماء ينساب بين الأصابع/‏‏ وظمأ في آن واحد وعين/‏‏ وعين وظمأ في آن واحد». ومن شعر سنية صالح يقبس أنموذجاً آخر للتهجين: «أيتها الغابة التي أشعلها جسدي/‏‏ اقتربي/‏‏ اهمسي حنينك الدفين في فمي/‏‏ في أذني/‏‏ وفي مسامي جميعاً/‏‏ وأزهري/‏‏ في القبة المثقّبة لجسد متهاوٍ». وأخيراً، يأتي «أثر الفراشة» لمحمود درويش أنموذجاً تهجينياً في صهر الشعر والنثر.

التهجين الروائي
تقوم في التهجين الروائي، أو الرواية كفن للتهجين، أطروحة باختين الكبرى التي استقاها من روايات دوستوفسكي. والأس في ذلك هو (الحوارية)، حيث تتعدد الأصوات داخل الرواية، وتتعدد اللغات، ويكون لكل الأفكار الحق في التعبير. وتبلغ الحوارية ذروتها في حيرة القارئ في تحديد موقف الكاتب من الشخصيات. كما تكون تلك الذروة بقدر ما يستطيع الكاتب أن يحقق من الحياد. ولأن أطروحة باختين قد قُتِلَت درساً وترجمة ومسخاً، فسأمضي إلى ما ذهب إليه محمد بوعزة في كتابه «حوارية الخطاب الروائي من باختين إلى ما بعد باختين»، حيث نقرأ: «ونحن نصف بالبناء المهجن ملفوظاً ينتمي حسب مؤشراته النحوية (التركيبية والتوليفية) إلى متكلم واحد، لكن يمتزج فيه عملياً ملفوظان وطريقتان في الكلام وأسلوبان ولغتان ومنظوران دلاليان». ويميز بوعزة بين التهجين اللاإرادي الذي يقع في كلام الناس اليومي، والتهجين الإرادي الذي يقصده الروائي. ويتخذ التهجين بعدين: الأول فردي، إذ اللغة تمثل في الرواية وعي الأفراد، والثاني اجتماعي، لأنها تعبر عن وجهات نظر اجتماعية، أو عن رؤى متباينة للعالم.
بالنسبة لباختين، التهجين هو التفاعل اللفظي، وبه تقوم الرواية، ومن دونه لا قوام لها. وقد أوجزت آمنه بلعلي تعريف باختين للتهجين بأنه امتزاج ملفوظين مختلفين في مؤشراتهما الصوغية والتركيبية داخل النص، بحيث يظهر فيه ملفوظان متباينان. وتتابع بلعلي أن التهجين الباختيني هو مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد. ولا ننسى هنا أن اللغة الاجتماعية تعني لباختين اللغة الملأى بخلفيات الأفراد السوسيوتاريخية والطبقية. أما التهجين فهو أيضاً التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية، وبفارق اجتماعي، أو بهما معاً داخل ساحة ذلك الملفوظ. ومن طبيعة التركيب الهجين ـ كما ترى آمنة بلعلي ـ أنه يعكس النسق المنظم الذي يرمي إلى إنارة لغة بلغة، وتشكيل صورة حية للغة بلغة أخرى.

عن الكذب
يفتتح إبراهيم محمود كتابه «رهانات التهجين: الجسد والثقافة» بهذا السؤال: «هل يمكن اعتبار العرب من بين أكذب الخلق، إن لم يكونوا أولهم؟». ويدع الرجل للمعجمية وللتراثية أن تجلو السؤال الاستفزازي، وإذا بالكذب هو الأكثر ثراء معان ودلالات. والعرب هم الذين أرسلوا القول بأن: «أعذب الشعر أكذبه». ويحسن التذكير هنا بكتاب عبد الله الغذامي «جماليات الكذب» (1994) وبكتاب جاك دريدا «تاريخ الكذب»، كما أشير إلى الكتاب السردي البديع «حكمة الكذب» لصولخان سابا أوربيلياني، وبكل ذلك يتماهى الكذب بالمعنى التخييلي والمجازي مع التهجين الذي هو «نحن» فيما كنّاه أو عشناه، وما نعيشه ونكونه، الآن ولاحقاً.