أردت أن يكون سؤالي الأول للروائية ريم الكمالي «استفزازياً»، بحثاً عن الإجابة الفعلية للمعنى من أن يكتب الإنسان رواية بظِلال تاريخية: لما كل هذه التفاصيل في روايتكِ «تمثال دِلْما»، لا تزال بقايا رائحة «اللبان»، عالقة في ملابسي، رغم أني انتهيت من قراءة الرواية، منذ فترة شبه بعيدة. وهل من الممكن أن تطغى التفصيلة العابرة على الحكاية؟ أقصد حكايتك. ألم يعتريكِ شك خاطف، حول هروب الشخصيات الرئيسة «نُورْتا» في «تمثال دِلْما»، وارتحال «بدرة» في روايتك الأولى «سلطنة هرمز»، في أن شيئاً ما في داخلكِ يهرب معهم، ولكن إلى أين يا ريم؟! وما هو مدى إمكان «السارد الإله»، حسب وصفك، أن يهرب، وأنتِ من قلتِ: «ألا تعكس عين المعبود، عين العابد»، ما يتراءى للقارئ، أنه أينما نظر سيجد ما يراه فيه وأمامه، ولا يستطيع حتى الموت نفسه أن يغيبه.

توقفتُ عن السؤال برهة، وتأملت فعل «الكشط» الرقيق لجفون عين التمثال «سيرارا» في رواية «تمثال دِلْما»، ودلالات الحدس للكاهن، الذي أظهر عكس ما يخفي. وقتها لمحتُ الروائية ريم الكمالي، بروح الباحث تسأل: أليس من حقي أن أناقش الأديان؟ ومن السؤال نفسه واجهت الروائية ريم، بتضامني كقارئة مع شخصية «سَدْ هَاشا» ذات البعد البوهيمي، ومساحتها الروائية، لتؤكد ريم الكمالي بأنها تتحكم بمسرى الشخصيات، والتحدي في أن يبقى الروائي مقنعاً. واستمرت الأسئلة بذلك تباعاً نحو صراع الروائي خارج سياق الكتابة.
هنا الحوار مع ريم الكمالي حول روايتها وتجربتها الروائية عموماً:

الهروب
* «الهروب» من جبال «سلطنة هرمز»، وجزيرة «تمثال دِلْما»، وعلاقته برسم أقدار الشخصيات الرئيسة في الروايتين، لا يمكن النظر إليه أنه محض مصادفة، هل راودكِ لحظة الالتماس تلك بعد أن انتهيتِ من روايتك الثانية، وهل تفاجأتِ وقتها لتقارب النهايات؟!
** في الوهلة الأولى تفاجأت، وقلت إن الأمر فعلاً غريب، لكن وقتها استشعرت شيئاً ما في داخلي، شيء يشبه سؤال: هل فعلاً ستهربين يا ريم، إلى أين يمكنني الذهاب، ولماذا أساساً أريد الهرب، لحظتها تركت السؤال بلا إجابة، سأدع حياتي تمضي وسأرى ما يحدث. بشكل فعلي أني أتفرج على حياتي وأطفالي وأسرتي، وعلى الناس في الشارع، لا أحاول الإمساك بشيء ما، أو التسلط على مجرى حياتي، كل سُلطة أمتلكها هي فقط على روايتي. ومسألة الهروب من الجزيرة، بالنسبة لي أسهل من الهروب من الجبل، وعندما هربت الشخصية الرئيسية «نورتا» مع الإله/‏ تمثال «سيرارا»، فهو مثل الهروب مع المكانة التي أعطيت لـ نورتا الكاهن، وأراد أن يأخذها معه إلى المجهول. وانتهى بهما الأمر نحو الغرق، بينما النهاية مع الشخصية بدرة، في رواية «سلطنة هرمز»، كانت مفتوحة، لا أحد يدري ربما تعود يوماً ما.
* «سيدة التفاصيل»؛ التعبير الأدق للكثافة الحسية للحياة في جزيرة دِلْما، فمثلاً عندما تُفك ضفائر النساء، وتُغسل بالزيت، لتغفر لها الآلهة، نتخيل الرائحة وصوت التراتيل لرُقى والتعاويذ، هذا التماهي التام مع التفصيلة الحيّه، إلى أي مدى استدعت حضورها في الرواية، ألم تتصوري ريم الكمالي أن بإمكانها أن تطغى على الحكاية، بالمقابل هل هناك روايات وُلدت للاحتفاء بـ المكان، ولا شيء سوى اللحظة في المكان؟! ** أريد القول بأني أعيش في زمن يكاد يكون بلا تفاصيل، كل شيء يهيأ لنا أنه مفهوم، وواقع ومكرر، لنأخذ على سبيل المثال، ملابسنا، فهي تقريباً مكررة، اختفت منها التفاصيل. وبالرجوع إلى الجدات الأوائل، نتذكر فساتينهن المليئة بالتطريز، وكمية الخيوط والأقمسة وتداخل الألوان، إلى جانب ما يضفيه الزري والتلي، وكنّ الفتيات ينسجنه في البيت بصبر وطولت بال. هنا أتذكر وصفي لشعب المرجانية وتداخل الماء فيها على الجزيرة، خاصة بعد هطول الأمطار، سعيت إلى أن أحيّ الجزيرة عبر التفاصيل.


من حقي كروائية، أن أسقط شخوصي على إحدى الجزر المغرية للسرد والخيال والتأمل، بطبيعة الحال الجزيرة في الرواية أجمل من المدن، لنرجع إلى شكسبير وتناوله للجزر في البحر المتوسط، وكذلك الأمر بالنسبة لملحمة جلجامش، ألم يأتي بزهرته من جزيرة. أنا ابنة الجبل والساحل، وتأملاتي تشكلت من هذا الانتقال بين الموانئ، في الحدود الصخرية، وارتطامها بموجة الحياة المتتالية، التفاصيل تحيّ فينا أشياء، ونحن نحتاجها لأن الحضارات لا تقام على العموميات. وأستطيع القول بأني روضت التفاصيل، ومتحكمة جداً بها، ولم تطغ على الحكاية. بالنسبة لي، لا يتحكم أحد بالسارد، لأنه إله النص.

فساد
* أعترف كقارئة أني تضامنت مع شخصية «سَدْ هَاشا»، التمرد المتمركز في ذاته لافت، رغبت بمساحة أكبر للشخصية، وخلال القراءة استشفيت أن الشخصية «نورتا»، تمر بفضاءات من الاختبار، واحدة منها، ظهور شخصية «سَدْ هَاشا»، الذي اكتشف فساد الكهنة، مالذي سعيت له من التكشف المطلق للشخصية ذات الأبعاد البوهمية؟
** صحيح، «سَدْ هَاشا» تجلى عبر تمرد نتج من اكتشافه لفساد الأنظمة الدينية، رغم جماليتها المبهرة من الخارج. وأريد القول أنني سعيت إلى مناقشة الأديان، بشكل واضح. ففي رواية «سلطنة هرمز» ناقشت «الأرض»، بينما في «تمثال دِلْما»، وودت إعادة التفكير في فساد رجال الدين. ما فعله «سَدْ هَاشا»، أنه ترك كل ما صنعه له المجتمع من مكانة، وعاش البوهمية بشكل فعلي، وكانت الشخصية «نورتا» في مواجهة تامة معه، ولكنه لم يستطع التمرد مثل «سَدْ هَاشا»، فالأخير كان مثل ميزان للرواية. وبالرجوع إلى مسألة البحث في الأديان، فإني توصلت كيف كانت جزيرة العرب تعتنق الوثنية، والآلهة تتشابه، سواء في اليونان وروما وبلاد الرافدين، متفكرة كيف كانت الأديان وكيف صارت، دونما تذمر أو اعتراض، أنا هنا أناقش فقط.
* تقولين دائماً لـ حراس التاريخ والتراث، إن هذا عمل خيالي في النهاية، ومنه ينتابني التساؤل عن الشعر في الرواية، أبيات الأناشيد، كيف ترينها ضمن المتخيل، هل ألفتِ تلك القصائد؟ وكيف تعاملت مع مسألة الصياغة، فبالنظر إلى رواية «سلطنة هرمز»، هناك منهج حديث الشخصيات عن نفسها، وتكررت مع «نورتا» في «تمثال دِلْما»؟
** في كل زمن وحضارة الأوصياء موجودون، ودائماً عندما يسألني الناس، حول تحفظاتهم، أجيبهم بأنه سرد خيالي، ومن يريد أن يناقشني حول الحكاية، فلا مشكلة لدي، ورغم ذلك أوضح أني اعتمدت على مستندات تاريخية، من مثل الخريطة الجغرافية، المرسومة على ألواح الطين، للبحر الأسفل وهو الخليج العربي، والبحر الأعلى إشارة إلى البحر المتوسط، وحافظت على أسماء الأماكن: تاروت وفيلكا ودلما، وهكذا.
وبالمناسبة الشعر في الرواية، جاء استشفاف من نصوص سومرية عبر ألواح الطين، الذي وضعها بالإنجليزية، صموئيل كريمر وترجمها للعربية الآثاري العراقي طه باقر، وعملت بتصرف على تقارب شعري موزون. لا يعلم الكثيرون، بأنني عندما بدأت بالكتابة، كان الشعر هو تعبيري الأدبي الأول، كنت أنشر باسم مستعار، ولكني لم أر نفسي سأكمل كشاعرة. ومن بين أمثلة الأناشيد الشعرية في الرواية، ما قرأته عن أن العروس في العهد السومري والعهود القديمة كانت تتغزل بالزوج، حاولت من خلال ذلك أن أجسد اللحظة عبر البعد التاريخي في الشعر.
في المسألة المتعلقة بالصياغة الروائية، قررت في البداية أنني سأبني عالم الرواية جميعه عبر السارد، ولن تتكلم الشخصية عن نفسها، ولكن بوصولي إلى نصف الرواية، شعرت بأنه يجب أن يتحدث «نورتا» عن نفسه، وأن ذلك سيجعل حضوره أعمق، المشكلة دائماً لدي في مسألة الربط في الرواية، لأكون مقنعة، واختيار الصيغة هي إحدى التحديات، إلا أنه بالمراجعة تصبح الشخصيات رصينه والرواية أجمل.

مشاهد
* بين مجمل القراءات والنقاشات، الأغلب ينتابه فضول حول رسم عين التمثال في الرواية، كيف نظرتِ إلى هذه العين طوال كتابتكِ للرواية؟ وما الذي يحدث عادةً عند الانتهاء من هذه اللحظة السردية العميقة؟!
** المساحة الأجمل بالنسبة للروائي، هي ما ينتاب القراء، من أسئلة عن مرتكز الرواية، والكل يود الانغماس في المنحى الكليّ من العمل، هل هي عين الرب، وإن كانت إجابة القارئ نعم، فبأي عين يرى الإنسان ربه، وكيف تراه عين الرب، من يَرى من؟!
وربما سؤالي كروائية ما بعد الرواية، هو كيف تحولت لدي الحياة إلى مشاهد، أشعر أحياناً، أني أتواجد بين كل مشهد ومشهد، لكني لا أعيشه بشكل فعلي، ما عدتُ قادرة على أن أقبض اللحظة، ما يجعلني أعود إلى عالم الكتابة، يُقال أنه عالم خيالي، ولكني استشعر بأنه حقيقي، فيه أعيش كل شيء وأدركه تماماً.

«مفكرة روزا»..
تحضّر الروائية ريم الكمالي، في الوقت الحالي العمل على «نوفيلا» بعنوان «مفكرة روزا»، تتناول فترة خمسينيات وستينيات مدينة دبي، وتمتد فيها الرواية إلى بداية السبيعينات. وتأتي التسمية «روزا» بحسب الروائية ريم الكمالي، لأنها من الأسماء القديمة التي تعني «الرزانة» بمعنى التجربة. وأوضحت الروائية ريم الكمالي، بأن «النوفيلا»، لا تحظى في العالم العربي، باهتمام مثلما الرواية والقصة القصيرة، وأكثر ما سيبرز دورها الجمالي، كصنف أدبي رفيع، من خلال وضع جائزة أدبية، والاحتفاء بها عبر المناقشات والحوارات الثقافية الممتدة في الملتقيات الثقافية والأدبية.