قصيدة نازك الملائكة ''مر القطار'' لم تشتهر كقصائدها الأخرى إلا انها تمثل سردها النقي وجزئيات عالمها الصافي وتراكيب جملها الواضحة البعيدة عن التوصيف الممل والتشبيهات المألوفة، حيث يبقى السرد مسيطرا على روح المشهد في القصيدة، وتبقى جزئيات عالم القطار ورحلته المشوقة وسط ليل بهيم، وصفيره الآسر، وفانوس الخفير الخافت عند المحطات، واطلالة الوجوه الغافية عبر شبابيكه المشرعة للريح، والسكة القديمة، وزمنه الغافي البطيء·· تبقى تلك الجزئيات ممزوجة بلغة من البساطة والسهولة ما تصعب على شاعرات هذه الأيام اللواتي غرقن في توصيف الذات وفي تداخل الصور وفي عوالم بعيدة تماما عن احساس القارئ الاتيان بمثلها، هل هي دعوة لكي نعيد بناء قصائدنا حتى نشعر أن هذه القصيدة قد كتبها رجل أو امرأة؟ **** الليل ممتدُّ السكونِ إلى المدَى لا شيءَ يقطعُهُ سوى صوتٍ بليدْ لحمامةٍ حَيْرى وكلبٍ ينبَحُ النجمَ البعيدْ، والساعةُ البلهاءُ تلتهمُ الغدا وهناك في بعضِ الجهاتْ مرَّ القطارْ عجلاتُهُ غزلتْ رجاءً بتُّ أنتظرُ النهارْ من أجلِهِ·· مرَّ القطارْ وخبا بعيداً في السكونْ خلفَ التلال النائياتْ لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويلْ من ساهرينَ ومتعبينْ أتخيلُ الليلَ الثقيلْ في أعينٍ سئمتْ وجوهَ الراكبينْ في ضوءِ مصباحِ القطارِ الباهتِ سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ في أنفس ملّت وأتعبها الصفيرْ هي والحقائبُ في انتظارْ هي والحقائبُ تحت أكداسِ الغبارْ تغفو دقائقَ ثم يوقظها القطارْ وُيطِلُّ بعضُ الراكبينْ متثائباً، نعسانَ، في كسلٍ يحدّق في القِفارْ ويعودُ ينظرُ في وجوهِ الآخرينْ في أوجهِ الغُرَباء يجمعُهم قطارْ ويكادُ يغفو ثم يسمَعُ في شُرُودْ صوتاً يغمغمُ في بُرُودْ ''هذي العقاربُ لا تسيرْ ! كم مرَّ من هذا المساء؟ متى الوصولْ؟'' وتدقٌّ ساعتُهُ ثلاثاً في ذُهُولْ وهنا يقاطعُهُ الصفيرْ ويلوحُ مصباحُ الخفيرْ ويلوحُ ضوءُ محطةٍ عبرَ المساءْ إذ ذاكَ يتئدُ القطارُ المُجْهَدُ ···وفتىً هنالكَ في انطواءْ يأبى الرقادَ ولم يزلْ يتنهدُّ سهرانَ يرتقبُ النجومْ في مقلتيه برودةٌ خطَّ الوجومْ أطرافَهَا·· في وجهِهِ لونٌ غريبْ ألقتْ عليه حرارةُ الأحلام آثارَ احمرارْ شَفَتاهُ في شبهِ افترارْ عن شِبْهِ حُلْمٍ يفرُشُ الليلَ الجديبْ بحفيفِ أجنحةٍ خفيّاتِ اللُحونْ عيناهُ في شِبْهِ انطباقْ وكأنها تَخْشَى فرارَ أشعةٍ خلف الجفونْ أو أن ترى شيئاً مقيتاً لا يُطَاقْ هذا الفتى الضَّجِرُ الحزينْ عبثاً يحاول أن يرَى في الآخرينْ شيئاً سوى اللُغْزِ القديمْ والقصّةِ الكبرى التي سئمَ الوجودْ أبطالهَا وفصولهَا ومضَى يراقبُ في برودْ تَكْرارَها البالي السقيمْ هذا الفتى····· وتمرُّ أقدامُ الَخفيرْ وُيطل وجهٌ عابسٌ خلفَ الزُجاجْ، وجهُ الخفير! ويهزُّ في يدِهِ السِراجْ فيرى الوجوهَ المتعَبة والنائمينَ وهُمْ جلوسٌ في القطارْ والأعينَ المترقبة في كلّ جَفْنً صرخةٌ باسمِ النهارْ، وتضيعُ أقدامُ الخفير الساهدِ خلفَ الظلامِ الراكدِ مرَّ القطار وضاع في قلبِ القفارْ وبقيت وحدي أسألُ الليلَ الشَّرُود عن شاعري ومتى يعودْ؟ ومتى يجيء به القطارْ؟ أتراهُ مرَّ به الخفير ورآه لم يعبأ به·· كالآخرينْ ومضى يسيرْ هو والسِّراجُ ويفحصانِ الراكبين وأنا هنا ما زلتُ أرقُبُ في انتظارْ وأوَدُّ لو جاءَ القطارْ ···· 1948 المصدر: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، ص ،60 دار العودة ـ بيروت، ·1986