أحمد مراد (القاهرة)
مسيرة حافلة بالإنجازات الداخلية والخارجية امتدت على مدى نصف قرن، قضاها السلطان قابوس بن سعيد في حكم سلطنة عُمان، نجح خلالها في بناء دولة عصرية ومتطورة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعسكرياً.
وفي السطور التالية، تستعرض «الاتحاد» ملامح من مسيرة السلطان قابوس وإنجازاته الداخلية والخارجية:
نشأته وتعليمه
في الثامن عشر من نوفمبر 1940، ولد السلطان قابوس في مدينة صلالة التابعة لمحـافظة ظفار، وهو الابن الوحيد للسلطان السابق سعيد بن تيمور بن فيصل آل سعيد.
في سنوات طفولته الأولى، درس اللغة العربية والمبادئ الدينية، والتحق بالمرحلة الابتدائية في المدرسة السعيدية بمدينة صلالة، وفي سبتمبر 1958 سافر إلى إنجلترا ليواصل تعليمه في مؤسسة «سافوك» التعليمية التي قضى فيها عامين، وبعدها التحق بالأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية «ساند هيرست» كضابط مرشح، وخلال عـامين درس العلوم العسكرية وتخرج برتبة ملازم ثان.
بعد التخرج من الأكاديمية العسكرية البريطانية، انضم السلطان قابوس إلى كتيبة بريطانية كانت تعمل في ألمانيا الغربية، وتلقى فيها تدريبات في فن القيادة العسكرية على مدى 6 أشهر، عاد بعدها إلى لندن لدراسة مجال نظم الحكم المحلي، وتلقى دورات تخصصية في شؤون الإدارة والحكم.
في العام 1964، عاد السلطان قابوس إلى سلطنة عُمان، وأقام في مدينة صلالة، وفيها قضى 6 سنوات متتالية في دراسة علوم الدين وتـاريـخ عُمان على مر العصور.
وروى السلطان قابوس عن دراسته للدين والتاريخ في إحدى أحاديثه الإعلامية، قائلاً: «كان إصرار والدي على دراسة ديني وتاريخ وثقافة بلدي لها عظيم الأثر في توسيع مداركي ووعيي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية عموماً. وكذلك استفدت من التعليم الغربي وخضعت لحياة الجندية، وأخيراً كانت لدي الفرصة للاستفادة من قراءة الأفكار السياسية والفلسفية للعديد من مفكري العالم المشهورين».
توليه الحكم
في 23 يوليو العام 1970، تولى السلطان قابوس بن سعيد حكم سلطنة عُمان، ليكون السلطان الثامن في أسرة آل بوسعيد التي تنسب إلى الإمام أحمد بن سعيد المؤسس الأول للأسرة الحاكمة منذ العام 1744.
ويُعرف اليوم الذي تولى فيه الحكم بـ «يوم النهضة المبارك»، حيث سعى منذ اليوم الأول في الحكم إلى بناء نهضة حضارية شاملة في مختلف المجالات، وعمل على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وثقافية، وعمل على بناء وتثقيف وتنوير الإنسان العماني بوجه عام.
الإصلاح السياسي
جاء الإصلاح السياسي على رأس قائمة اهتمامات السلطان قابوس منذ توليه الحكم، وفي غضون سنوات قليلة استطاع أن ينقل السلطنة من الحكم القبلي التقليدي إلى الحكم النظامي الديمقراطي.
وكان من أهم إنجازاته في مجال الإصلاح السياسي، تأسيسه للمجلس الاستشاري للسلطنة الذي مثل أول هيئة سياسية في البلاد، وشارك في صياغة العديد من القرارات السياسية المهمة في تلك المرحلة.
وفي فترة لاحقة، ألغيت مهام المجلس الاستشاري، واُستبدل بمجلس الشورى، وهو أول هيئة تشريعية بمفهومها المتطور تُقام في عُمان، ويمثل أعضاؤه جميع أقاليم ومحافظات الدولة، ويساهم بالمشورة في وضع وتحديد القوانين والمشاريع التي تهدف إلى تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتشرف عليه هيئة تنفيذية أعلى تُعرف بمجلس عُمان.
نهضة اقتصادية
سعى السلطان قابوس إلى تحقيق نهضة اقتصادية اعتماداً على الثروات الطبيعية والموارد البشرية التي تتمتع بها سلطنة عُمان، حيث بدأت عمليات التصدير التجاري للنفط في السنوات الأولى من حكمه، واهتم بالتوسع في مشروعات إنتاج البترول، وأقام العشرات من مصانع تكرير النفط، الأمر الذي ساهم في تحقيق انتعاشة اقتصادية ملموسة.
وعمل السلطان قابوس على تقسيم برنامجه التنموي الطموح إلى مشاريع تنمية وطنية لكل خمس سنوات سُميت بـ «الخطط الخمسية».
وفي المجال الصناعي، أسس العشرات من مصانع الإسمنت، ومصانع تعليب الأسماك والتمور، فضلاً عن أنه عمل على تطوير طرق الزراعة، ونقلها من الطرق التقليدية القديمة إلى الطرق الحديثة التي تعتمد على الآلات والمعدات المتطورة، فأصبحت البلاد تنتج كل ما تحتاجه من قمح وخضراوات وفواكه، ويصدر ما يفيض عن حاجتها طازجاً أو بعد تعليبه إلى البلدان المجاورة.
وأقام السلطان قابوس شبكة من المواصلات البرية والبحرية، وأسس موانئ بحرية وجوية مثل ميناء السلطان قابوس في مطرح، وميناء ريسوت في المنطقة الجنوبية.
وامتدت مشاريع «الخطط الخمسية» التنموية التي تبناها السلطان قابوس إلى مجالي التعليم والصحة، حيث أسس آلاف المدارس في كل أرجاء السلطنة، فضلاً عن عشرات الجامعات أبرزها جامعة السلطان قابوس المرموقة، وفتح أبواب التعليم للجنسين، وتضاعفت أعداد طلبة المدارس والجامعات.
وفي المجال الصحي أسس مئات المستشفيات والمراكز الطبية، ووفر لها كل احتياجاتها من أطباء ومعدات وأدوات وأدوية.
الإصلاح الإداري
وفي مجال الإصلاح الإداري، عمل السلطان قابوس على تكوين سلطة تنفيذية عصرية تتألف من جهاز إداري يشمل مجلس الوزراء والوزارات المختلفة، إلى جانب الدوائر الإدارية والفنية والمجالس المتخصصة، واستعان بالخبرات الأجنبية والعربية في تطوير الجهاز الإداري.
السياسة الخارجية
أدرك السلطان قابوس منذ بداية حكمه أن إقامة سياسة خارجية قوية وفعالة ومتوازنة تتطلب وجود وزارة قوية للخارجية، ومن ثم اهتم بتأسيس وزارة الخارجية بشكل يواكب مستجدات العصر، بهدف تعميق روابط وعلاقات سلطنة عُمان بمختلف دول العالم شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً.
وفي إطار اهتمام السلطان قابوس ببناء علاقات قوية مع مختلف القوى العالمية على أساس من الاحترام المتبادل، حرص على تعزيز وترسيخ الانتماء العربي للسلطنة، ومشاركتها الفاعلة والإيجابية في القضايا العربية الجوهرية، ويكفى الإشارة إلى أنه بعد عام واحد فقط من توليه الحكم انضمت عُمان إلى جامعة الدول العربية، وعند تأسيس مجلس التعاون الخليجي العام 1981 سارع إلى الانضمام إليه لتحقيق حلم التكامل الخليجي في مختلف المجالات.
وعلى مدى نصف قرن، ظلت سياسة السلطان قابوس الخارجية قائمة على مبادئ حسن الجوار مع جيرانه وأشقائه، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، وتدعيم علاقات عُمان معهم جميعاً، وإقامة علاقات قوية مع سائر دول العالم، ومناصرة القضايا العربية والإسلامية.
وفي عهده، أصبح لسلطنة عُمان بعثات دبلوماسية في أغلب دول العالم، وفتح أبواب بلاده أمام البعثات الأجنبية، حيث انتشرت فيها مقرات القنصليات والسفارات والهيئات الدولية والإقليمية.
وفي إحدى خطاباته، أشار السلطان قابوس إلى الخطوط الرئيسية التي تقوم عليها سياساته الخارجية، مشدداً على إيمانه بالحياد الإيجابي، وتعميق الروابط والعلاقات مع شتى دول العالم.
رجل السلام
وعلى مدى مسيرة السلطان قابوس الطويلة، شكلت مبادئ السلام، والعمل على نشرها ركناً أساساً في سياسات سلطنة عُمان الدولية والإقليمية، وهو الأمر الذي أكد عليه السلطان قابوس في خطابه خلال العيد الوطنـي الثامن والعشرين للسلطنة بقوله: «من أوجب الواجبات في نظرنا ونحن على أعتاب قرن جديد أن تعمل الدول على محاربة الظلم والاستبداد، وعلى التصدي لسياسات التطهير العرقي وامتهان كرامة الإنسان، وعلى مجابهة احتلال أراضي الغير وإنكار حقوقه المشروعة، وأن تسعى إلى إقامة ميزان العدل إنصافاً للمظلومين، وترسيخاً للأمن والسلام والطمأنينة في مختلف بقاع الأرض».
وتقديراً لمواقفه المشرفة تجاه القضايا الدولية والإنسانية، حصل السلطان قابوس على العديد من الجوائز الدولية المهمة، أبرزها جائزة السلام الدولية التي منحتها له 33 جـامعة ومركز أبحاث ومنظمة أميركية في 16 أكتوبر العام 1998، وهو أول قائد يتم منحـه هذه الجـائزة التي بدأ تنظيمها في نفس العام.
وحصل السلطان قابوس في 18 يوليو العام 2007، على جائزة السلام من الجمعية الدولية الروسية، تقديرا لمواقفه واسهاماته في مجال خدمة السلم والتعاون الدوليين.
كما منحت الهند السلطان قابوس جائزة «جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي» تقديراً لدوره في تعزيز أواصر المودة والصداقة بين الشعوب. وأكدت وزارة الخارجية الهندية في بيان رسمي أن السلطان قابوس حول عمان إلى دولة حديثة تنعم بالرفاهية، كما ساعدها على إقامة علاقات متينة مع العديد من الدول بما فيها الهند.
إسهامات ثقافية
ثقافياً، اهتم السلطان قابوس بدعم العديد من المشروعات الثقافية سواء على المستوى المحلي أو العربي أو الدولي، ومن أبرزها موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، ودعمه لمشروعات تحفيظ القرآن سواء في السلطنة أو في عدد من الدول العربية، ودعمه لمشروعات جـامعة الأزهر، وجـامعة الخليـج وعدد من الجـامعات والمراكز العلمية العربية والدولية.
وفي مجال البيئة خصص جـائزة دولية تعرف بـ«جائزة السلطان قابوس لصون البيئة» التي تقدم كل عامين من خلال منظمة اليونسكو.
إشادات خليجية
في بيان القمة الخليجية التاسعة عشر التي عُقدت في أبوظبي، أعرب قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية عن سرورهم لنيل السلطـان قـابوس على الجـائزة الدوليـة للسلام نظراً لما تمثله هذه الجـائزة من تقدير عالمي قيم لسياسته الحكيمة، واعترافاً بدوره في خدمة ودعم قضايا السلام الإقليمي والدولي.
وكان الأمين العام الأسبق لجـامعة الدول العربية الراحل الدكتور عصمت عبدالمجيد وصف السلطان قابوس بأنه رجـل للمبـادئ ليس فقط على المستوى العربي بل وأيضاً على المستويين العالمي والدولي.
إشادات دولية
حظيت مواقف السلطان قابوس بتقدير وإعجاب العديد من الشخصيات الدولية والعربية الذين أعربوا عن ذلك في تصريحات علنية، وعلى رأس هؤلاء الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي بعث رسالة إلى السلطان قابوس في أعقاب حصوله على جائزة السلام الدولية، وقال فيها: «لقد قدتم عُمان برؤى وتصميم، وأن قيادتكم تحظى باحترام عظيم حول العالم، أنني أنا والرؤساء الذين سبقوني نقدر بشكل خـاص نصيحتكم ومساندتكم في خلق مناخ إقليمي يعمل من أجل السلام والرفاهية».
وفي شهادة تقدير أخرى سجلها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، قال: «على مر السنين أعجبت شخصياً بجهود السلطان قابوس الشجـاعة لإحلال السلام في منطقته من العالم، لقد نشر جـلالته السلام بطرق عديدة، إن حصوله على جـائزة السلام الدولية ما هو إلا اعتراف دولي بدوره الفاعل في خدمة السلام الدولي. إننا نعتبر جلالته مصباحـاً منيراً لمحبي السلام».
وأضاف كارتر قائلا: «إنني أشعر بامتنان خـاص لشجـاعة السلطان قابوس أثناء عملية السلام في الشرق الأوسط، وإن جلالته ظل يقوم بدور قيادي وسط أولئك الذين يسعون لتحقيق السلام ويعملون من أجل تسوية عادلة ونهاية تحمي الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني».