إبراهيم الملا
تناولت الكثير من الأفلام الإماراتية ما يمكن أن نطلق عليه البعد الميتافيزيقي والماورائي للحلم كمادة تشريحية، وبنية متداخلة مع السيناريو، ومع أسلوب التنفيذ البصري، وخيارات المخرج الفنية، هذه البنية تتمثل في الألغاز والرؤى والمنامات، باعتبار أن السينما نفسها تعدّ منفذاً افتراضياً لأنماط مختلفة من القصص والروايات والأحداث المتخيلة.
وقدمت السينما الإماراتية التي شهدت قفزة نوعية خلال السنوات الفائتة، في العديد من الأفلام الروائية القصيرة والطويلة والتسجيلية ثيمة الحلم باعتبارها جزءاً أصيلاً من بنية الفيلم، بل إن بعضاً من هذه الأفلام اعتمد بشكل كلي على تسلسل الحلم كتقنية تستخدم في تتبع الخط السردي، أو العودة إلى الذكريات والمشاهد المنسية من خلال استحضار اللحظة الغائبة أو «الفلاش باك»، وأحياناً يتحول الحلم في عدد من هذه الأفلام إلى ضرورة مشهدية لتمييز فاصل زمني مكثف في مسار القصة الرئيسة.
«عابر سبيل».. طقس شعبي
في بداية ظهور الأفلام الإماراتية حمل فيلم «عابر سبيل» للمخرج الإماراتي علي العبدول عبئاً فنياً مضاعفاً عندما انطلقت أول عروضه المحلية في عام 1988، نشأ هذا العبء في الأساس من إشكالية التصنيف أو الصيغة الأسلوبية التي حاول الفيلم أن يعزلها عن الشكل التلفزيوني، ويقفز بها إلى حقل بصري جديد ذي مواصفات ورؤى ومعالجات مستقلة عن الفضاء الدرامي الشائع في المشهدين الثقافي والفني بالإمارات، منذ الستينيات في الإذاعة والشاشة الصغيرة، وعلى خشبة المسرح أيضاً.
وخاض «عابر سبيل» المغامرة وبجرأة نادرة، ولم تكن مقاييس النجاح أو الفشل هي المهمة أو المعنية بالرصد هنا، ولكن الفعل ذاته كان استثنائياً وجامحاً، بل مؤسساً لحساسية إبداعية مغايرة كانت تفتقر لها الساحة السينمائية المحلية قبل ظهور هذا الفيلم تحديداً. وكان حضور «الحلم» في فيلم عابر سبيل منفذاً للدخول إلى طقس شعبي وغرائبي مهّد له ظهور شخص غريب في المكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وكيف أن حضور هذا الشخص الغريب وبشكل المفاجئ أدى إلى نشوء ظواهر مريبة تحولت إلى هلاوس وكوابيس بالنسبة لبطلة الفيلم - أدت دورها الفنانة رشا المالح-، وأصابتها هذه الهلاوس التخيلية بمرض لا شفاء منه.
«الطين الأخير».. جسر الذكريات
في فيلم «الطين الأخير»، إنتاج عام 1990 للمخرج الإماراتي جاسم جابر، ومن تأليف الكاتب ماجد بوشليبي، يصبح الحلم لدى الشخصية الرئيسة للفيلم - يقوم بدورها الفنان عبدالله المناعي - هو جسر العبور نحو ذكريات الطفولة النقية الخالية من الكدر والتشويش الذهني وتلاشي ملامح الهوية، وسط مظاهر التحديث المتسارعة التي جلبت معها ظواهر سلبية عديدة في المكان، ما يجعل الحلم هو الملاذ والملجأ الوحيد للشخصية الحائرة وسط غابة الإسمنت، والتي لا تجد السلوى والطمأنينة والسلام الداخلي إلّا في الخيال الاستعادي للزمن المنفلت، والفردوس المفقود وسط متاهة الحياة المعاصرة بصخبها وضجيجها وتشوهاتها.
«مكان القلب».. وقود ذاتي
فيلم «مكان القلب» الذي قدمه المخرج والإعلامي محمد نجيب في عام 1996، تشكل مادة الحلم فيه صورة مجسدة لرغبة شاب - يمثل دوره الفنان محمد العامري - في خدمة وطنه، والانضمام للخدمة العسكرية أثناء غزو الكويت، حيث يصبح الحلم هنا هو رهان التحدّي، وهو المحفّز الأساسي لتجاوز عقبة التردد والخوف، يصبح الحلم في هذا العمل السينمائي هو الوقود الذاتي في رحلة التحول من حالة النكوص والتراجع إلى حالة مغايرة تماماً من المبادرة والحماس وتخطّي العقبات النفسية من أجل تحقيق هدف أسمى يعلو فوق الانغلاق الذاتي، ويعانق الحلم الجماعي في الدفاع المستميت عن الأرض ومكتسبات الوطن.
«أحلام في صندوق».. رحلة كابوسية
الفيلم الروائي القصير «أحلام في صندوق» يصوّر المخرج خالد المحمود ثقل الأحاسيس المتشابهة التي يفرزها الروتين اليومي والعادة الحياتية التي تتحول إلى نمط ثابت جداً حدّ الجمود، والتي تتحول الأحلام والكوابيس اليومية من خلالها إلى نوع من المقاومة الداخلية وإلى نوع من ردات الفعل الطبيعية للبحث عن فسحة أخرى وعن قيمة مغايرة لما هو طاغٍ ومفروض من شروط واقعية قاسية في الخارج.
وفي الفيلم الروائي القصير «يوم عادي» استطاع المخرج الإماراتي عمر إبراهيم من خلال المونتاج الحركي واللاهث أن يصور حالة فقدان التركيز وعدم الاتزان التي تنتاب شخصية الشاعر أو المثقف - يقوم بدوره الممثل وكاتب السيناريو يوسف إبراهيم - أثناء لحظة البدء في الكتابة، بحيث تسافر الكاميرا في رحلة كابوسية ولا معقولة مع الخيالات المهشمة لهذا الشاعر، ومع الهلوسات الذاتية التي تلغي كل الفواصل والحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، فمن قلب المدينة إلى عمق الصحراء، ومن الهدوء النمطي إلى القلق الصارخ، يحتفي الفيلم بهذيان الشاعر ويحتفي أيضاً بقصيدته، كما لو كانت هذه القصيدة هي الوردة السريّة في صحراء مستحيلة!.
«الرمرام».. لقطات رشيقة
فيلم «الرمرام» للمخرج مسعود أمر الله عبدالحميد، يكتسب الحلم طابعاً موازياً للواقع، بحيث يصعب التفريق فيه بين ما هو تخيلي، وما هو تجسيدي، وبين ما هو وهمي، وما هو متحقق في سلسلة المشاهد الموزعة برشاقة على زمن الفيلم، والتي خدمت في النهاية الحبكة الأساسية للقصة، والتي تتناول هنا حكاية أرملة يتم نبذها وتهميشها واستعداؤها من قبل الجميع، باعتبارها مصدراً للشؤم والنحس في منطقة أصيبت بالقحط جراء انقطاع المطر لسنوات طويلة، ما يجعلها عرضة للأقاويل والشبهات والإشاعات المغرضة، وتتحول الأحلام التي تراود المرأة من جهة إلى ما يشبه الخلاص والاندماج في عالم متخيل تستعيد فيه المرأة «زهرة» طراوة الماضي وجماله عندما كانت بصحبة زوجها الراحل «عيسى»، ومن جهة أخرى تتحول رؤاها المخيفة في المنام إلى نذير شرّ تجاه مصيرها المنتظر وسط الغضب الجماعي لأهالي الحيّ وهستيريا العنف والانتقام المخزّن في دواخلهم، حيث يتحول الكابوس هنا إلى عقاب متحقق ونهاية مؤلمة، قدمها فيلم «الرمرام» كرسالة نقدية جارحة تجاه الكراهية والعنصرية والأحكام المسبقة العمياء والجارحة القائمة على وهم كاذب وعلى البحث العشوائي عن كبش فداء وعن ضحية لا ذنب لها سوى وجودها في المكان الخطأ والزمان الخطأ.
«ولادة».. أحاسيس الأمومة
الفيلم الروائي الطويل «ولادة» للمخرج عبدالله حسن أحمد تنبعث فيه الأحلام والرؤى والمنامات نحو الطبيعة والبيئة الجبلية المحيطة بأجواء الفيلم وأحداثه، لتشكل إيقاعاً متناغماً بين أحاسيس الأم التي تنتظر مولودها القادم، وبين أحاسيس الناقة التي تنتظر مولودها هي الأخرى، ويصبح نسيج الحلم المشترك هذا رابطاً شعرياً وروحياً بامتياز، لأنه يحوّل الخطاب الذاتي إلى خطاب شمولي مقترن بفضاءات صوفية وكونية يحرسها هذا الوجد الأمومي الطاغي ضمن علاقات تجمع بين الأضداد، وتجعل رسائل الفيلم ومضامينه موجهة للبصائر الحالمة بعالم أفضل وأكثر رحابة وإنسانية.