نوف الموسى

«والدي لا يحتاج إلى احتفاء وشهادات، بكثر ما هو يحتاج للحضور المعنوي للحب والدعاء، كتقدير لما قدم». كلمات أطلع بها محمد نجل الفنان القدير ضاعن جمعة، «الاتحاد»، على حال والده الذي يرقد حالياً في مركز كامبريدج للطب وإعادة التأهيل بمدينة العين، لتلقي العلاج إثر إصابته بجلطة قلبية في الثالث من نوفمبر الماضي، نتج عنها دخوله في غيبوبة.
والنجم الإماراتي القدير ضاعن جمعة من مواليد 1948، ويعتبر أحد رواد الفن المسرحي والتلفزيوني في الدولة.

محمد ضاعن، تساءل في اتصال هاتفي معه عن الأدوار الاجتماعية والثقافية للجمعيات والمؤسسات الثقافية، مثل جمعية المسرحيين، وغيرها، في التواصل المجتمعي بين الفنانين، وما يواجهونه على مدى مسيرتهم الفنية، وما يتعلق بحياتهم، فمنذ اللحظة التي دخل فيها والده إلى المستشفى، لم يتلق اتصالاً واحداً، من المحيط الفني والثقافي، المعني بشكل مسؤول في البحث عن الفنانين وخاصة الرواد، ومتابعة ما يمرون فيه، سواء على المستوى الإنساني أو الاجتماعي والثقافي وغيره، قائلاً: «لا أريد أن أظلم الجميع، هناك شخص أو شخصان، من الفنانين تواصلا معنا، منهما الفنانة القديرة موزة المزروعي، ولكن المسألة بالنسبة لنا كأبناء وأهل الفنان ضاعن جمعة، هو أن ما قدمه والدنا منذ تأسيس دولتنا، حتى اللحظة الأخيرة، يستدعي من المعنيين فعلاً السؤال والبحث، ورصد حضوره كإنسان انطلق من اللاشيء في بناء حالة ثقافية مع جيله من الرواد، والدي ذاكرة للمكان ولإنسان هذا المكان، وتجاهل ما مر به مؤخراً، يوحي لي بأنه تجاهل لمكانة الإنسان الذي يعمل ويبدع ويقدم لبلده.

متابعة وتوثيق
حديث محمد ضاعن جمعة، يُعيد مجدداً، طرح مسألة الأدوار الاجتماعية الجوهرية للجمعيات والمؤسسات الثقافية، التي من شأنها أن تقدم متابعة وتوثيقاً وملاحظة مستمرة لمسيرة الفنانين في الفن المسرحي والتلفزيوني بدولة الإمارات، من بينها دراسة المكون الاجتماعي للفنان وأثره وأشكال تطوره، واحتياجات الفنان وتحدياته، ورغم الجهود الأخيرة في تعزيز مكانة عوالم المسرح والتلفزيون، إلا أنه لا تزال الحركة الاجتماعية بأبعادها الإنسانية، على مستوى الفرد «مُنتج للحالة الإبداعية»، غير واضحة الملامح، من قبل توجهات الجهات المعنية، ومنها على سبيل المثال موضوع «التوثيق»، الذي بطبيعته يحتاج إلى علاقات متصلة ودائمة بين الفنان والفضاءات الثقافية ذات الشأن، والتي تخلق مؤشراً حيوياً للمجتمع، لحركة الفنان داخل مجتمعه، وهو لا يقتصر فقط على ما ينتجه من أعمال فنية، ولكن على شكل حياته بالعموم، فجميعها تدخل في حيز الحالة الإبداعية والثقافية التي قدمها الفنان لمجتمعه، لا يمكن مثلاً أن لا نتابع وضع الفنان ضاعن جمعة، وهو من شهد مراحل قيام تأسيس دولة الإمارات، وما سبقها وما تلاها على المستوى الإبداع الفني، ولا نعرف فعلياً أين هو الآن، إذا كان في المستشفى أو في البيت، هي مسؤولية مشتركة بالطبع، ولكنها تستدعي منهجية، للحفاظ على قنوات الاتصال الدائمة، الفنان بطبيعته التكوينية، لا يحتاج شيئا بكثر ما يحتاج استيعابه على المستوى الإنساني والإبداعي.

نجم الفريج
من المهم جداً، أن نستمع للفنان ضاعن جمعة وهو يتحدث عن نفسه، لنكتشف لماذا هو بالذات، من قرر أن يكون ممثلاً أو مخرجاً، يلعب أدوار نفسه وأدوار الآخرين، وكيف اختارت الحياة لطفل بعمر 9 سنوات، في خمسينيات الحياة بالإمارات، أن يتحرك بـ «الفريج» ويؤدي فرجة ما، حكاية عابرة ليُضحك من خلالها نسوة المكان.
وإذا ما تمعنا قليلاً، فإن السرد الذاتي للفنان ضاعن بشكل مختزل، ما هو إلا مرآة لنا جميعاً، نحن الذين نتعطش لتفصيله نتجذر من خلالها في المكان أكثر وأكثر، كأن يتحدث الفنان ضاعن جمعة لسبب تسميته بـ«ضاعن»، عبر فيديو حديث مسجل وثقه الممثل فؤاد القحطاني ونشره عبر «يوتيوب»، لنستمده اليوم مرجعاً صحافياً، قال فيه ضاعن، «ولدتُ في رحلة عائلتي من منطقة اللية إلى الشارقة، على امتداد الخور، أسموني ضاعن، وهو يعني الرحيل».
تكفينا هذه المعلومة لننسج خيالنا الأول عن تكوين الفنان ضاعن، الذي ولد بُقرب الماء/‏‏ الخور/‏‏ البحر، تلك الانسيابية المفرطة في كل شيء، كان للخور بين الليه والشارقة جانبان عميق وضحل، بوصف الفنان ضاعن، يذكر أنه أحياناً كان يذهب لمدرسة «بيت بن كامل»، رافعاً ملابسه في يد، ويسبح قاطعاً الخور بيده الثانية، في حالة عدم وجود عبره تنقله للبر الثاني، هذه المشهدية البصرية مهمة لذاكرة التحولات الاجتماعية من جهة، وذاكرة الجسد في انصهار التام مع المكان، الذي من خلاله بإمكاننا أن نسأل هل برودة وحرارة ماء الخور، قدمت سجلاً للتجربة الشعورية لدى الفنان ضاعن، في تقديم الحالة الفنية.

مدرسة القاسمية
وتستمر مشهدية الحياة في تشكلاتها لدى الفنان ضاعن جمعة، فمثلاً أن يقول: «6 صفوف من دون سور»، كانت كفيلة بشرح الحالة الأولى لتشكل مدرسة القاسمية في الشارقة، تلك التي درس فيها، أو أن يسرد تفاصيل حياته وهو يافع ورحلته إلى الكويت والسعودية للعمل، عبر المراكب البحرية، لم يكن يملك وقتها ثمن التذكرة، وكيف استطاع أن يختبئ حتى وصولهم. بالنسبة للمطلع، من المثير أن نكتشف أنه من بين الأعمال التي عملها الفنان ضاعن هو بيع الثلج في دكان بالسعودية، إذاً مجدداً يحضر الماء في طفولته، وهو تأثير ساحر جداً، للمخيال الإبداعي، والأمر لم يتوقف أبداً، حيث إنه ما بين عامي 1964 و1965، ارتحل للدراسة في معهد المعلمين بالكويت، لمدة 4 سنوات، إلا أن اللافت فعلاً في ممارسته مهنة التعليم بعد انتهاء دراسته بالكويت، أنه ذهب لمنطقة الذيد التابعة لإمارة الشارقة للتدريس، وكانت رحلة السيارة لمدة 6 ساعات صعبة جداً، خاصة عند مواجهتهم للسيل، في حالة سقوط الأمطار، قد يتصور المتأمل، ذلك الأثر البديع للماء في حياة الفنان ضاعن جمعة، الذي جعلته منفتحاً ومتجلياً في تصوراته نحو الحياة وإمكانية أن يسرد قصصاً من محيطه الاجتماعي.

 أوبريت «الغوص»
تم توثيق أوبريت «الغوص»، احتفالاً بقيام اتحاد دولة الإمارات في سنة 1971، باعتبارها أول انطلاقة فعلية للفنان ضاعن جمعة، إلا أنه بدأ يكتب نصوصاً ويمثلها بنفسه للطلبة المبتعثين أثناء دراسته في الكويت في الستينيات، ميزة الحراك الإبداعي في نشأته، سواء المسرحي أو التلفزيوني، أنه كانت هناك مبادرات شخصية من الفنانين، لتقديم الأعمال الفنية، وهو بالطبع يحسب لجيل الرعيل الأول.

«قوم عنتر»
من خلال «قوم عنتر»، وهو مسلسل تلفزيوني قدمه ضاعن جمعة مع مجموعة من الفنانين، عبر تلفزيون الكويت من دبي، يشرح وقتها كيف كانوا يعملون على كاميرا واحدة لحلقة تمتد إلى نحو 45 دقيقة، وأوضح كيف أنه في مسلسل «شعبان ورمضان» كان يذهب بنفسه من أبوظبي إلى الإمارات الأخرى، لإحضار الديكور، وهو يعكس لنا البعد المسؤول لدى الفنانين في ذلك الوقت.
ومن الأسئلة الفارقة التي تتكشف لنا، كيف كان ينظر الفنان ضاعن لمسألة المسلسل بالأبيض والأسود، المنتجة في تلفزيون الكويت من دبي، وانتقاله إلى تلفزيون أبوظبي، الذي شارك بأعمال تلفزيونية بـ «الملون».

وثيقة تتنفس
في المحصلة الاجتماعية والثقافية والفكرية، يمتلك الفنان ضاعن جمعة القيمة في الذاكرة الجمالية للمكان ومتغيراته، ولا يمكن من دون الوعي بتلك التفاصيل المبنية على تجربة إنسانية، أن تخلق مقاربة موضوعية بين كل التحولات الاجتماعية وإفرازاتها، نحن نحتاج أن نقرأ ضاعن جمعة مجدداً، لندرك مسألة مهمة، أن الأداء الفني ولغة الجسد، موهبة حاضرة في كل مجتمعات العالم بمختلف توجهاتها، إلا أنها أعطيت لشخص ما، تفرد بها، ليس فقط ليعكس حياتنا بشكل معين، ولكن ليطلعنا بأنها موهبة تقوم على تراكم شعوري وفكري ومعرفي، نحن كأشخاص نساهم في تكوينه لدى أشخاص آخرين، ومتى ما تبحرنا أكثر في اكتشافهم، فنحن نكتشف أبعاداً جديدة فينا كمتلقين للعملية الإبداعية.