هل من الممكن بالفعل النظر إلى رواية “شاهندة” لراشد عبد الله بوصفها رحلة أو مجموعة من الرحلات؟ هل من الممكن إدراجها في النوع الأدبي: أدب الرحلات لأنها تنطوي على ترحالات عديدة في البحر والصحراء والبراري؟ ربما تبقى هذه الأسئلة وسواها معلقة إلى حين عن هذه الرواية التأسيسية في حقلها الإبداعي في الإمارات هي التي صدرت طبعتها الثالثة العام 1998 عن منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات. لكن ذلك لم يكن هو الأمر الأكثر إثارة للانتباه في الملتقى الذي دأبت على إقامته دائرة الثقافة والإعلام بعجمان منذ ثلاثة أعوام ويحمل اسم الرواية: ملتقى شاهندة للإبداع الروائي وأقيم هذا العام تحت العنوان: أدب الرحلات واستكشاف العالم، فقد بدا للمتابع، خلال يومي انعقاد جلسات الملتقى الأربع على مدى يومي الأحد والاثنين الماضيين في فندق كمبنسكي بدعوة من دائرة الثقافة والإعلام في عجمان بمشاركة باحثين إماراتيين وعرب، إن الملتقى هو رحلة بل عدد من الرحلات الاستكشافية في أكثر من حقل إبداعي ومعرفي، بحيث أنه، بهذا المعنى، كان “شاهندة” الملتقى رحلة كما هي الرواية وصاحبتها شاهندة؛ رحلة استكشاف الذات والآخر معا، كما أنه اختبار معرفي لكل ما هو مسبق وجاهز عنهما معا. الرحلة الشعرية المقارنة بدأ الملتقى بداية شعرية رفيعة، إذا جاز التوصيف، برحلة أخذنا فيها كاظم جهاد، الشاعر والمترجم والأكاديمي العراقي، إلى تلك الأماكن العالية التي تصلح للتأمل. فقد أقام كاظم جهاد بحثه: الرحلة الشعرية بين المعري ودانتي ألغييري على مجموعة من المقاربات بين الأثر العربي الفذّ: رسالة الغفران لصاحبه المعري والكوميديا الإلهية للإيطالي الكلاسيكي دانتي ألغييري وهي التي ترجمها الباحث وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر قبل أعوام قليلة. في بحثه، سعى كاظم جهاد إلى تقديم تأمل في أوليات الرّحلة الشعريّة لدى المعرّي ودانتي عبر دراسة مقارنة اعتنى خلالها بالتلاقيات والتمايزات، دون أن يغفل ما تتقدّم به كتابات ابن عربي وشطحاته الصوفية العميقة من إضاءات إضافيّة للموضوع. أيضا، وصف الباحث رحلة الشاعر الإيطاليّ في اندفاعه وراء حبيبته بياتريشي في عمله الأساسيّ “الكوميديا الإلهيّة” التي تقوده إلى العالَم الآخَر، فيخترق الجحيم والمطهر والفردوس، حيث يلتقي بها من جديد في أجواء طوباوية باذخة ومحاطة بنخبة من القدّيسين وباقي سكّان السّماء. وفي ختام حوار مشبوب تدلّه على معنى حياته وتسمّي له رسالته، فيعود لتحقيقها على الأرض: رسالة تأسيس شعريّ لا ينفصل عن مطلب الحقيقة ولا ينفصل عن مسألة العدالة في هذا العالَم. وفي أثناء اختراقه للعوالم الأخرويّة الثلاثة، الذي يحقّقه في البداية مهتدياً بالشاعر اللاتينيّ فرجيل (فرجيليو)، يصف دانتي، بتعمّق وبصورة مفصّلة وشديدة الابتكار، هندسة الأماكن وأنماط العقاب والثواب، ويخوض مع عشرات الشخصيّات التي يصادفها هناك حوارات في تجاربهم على الأرض، وفي مسائل لاهوتيّة وسياسيّة وفلسفيّة وشعريّة، بما يجعل من عمله هذا شهادة ضخمة على ما كان يعتمل في عصره من أسئلة فكرية ووجوديّة شاملة. وذلك بصورة سردية شيقة قدمها كاظم جهاد بحيث تجمع ألغييري بكتابات ابن عربيّ وقصصه في المعراج الروحيّ. على أنّ ما كان له حظّ أكبر من الشيوع هو فرضيّة التلاقيات العديدة في البناء السرديّ وفنّ المحاورة الفكريّة مع “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعريّ، دون مبالغات أو تأويل للحقائق بل هي مقاربات العقل الصافي وتأملات الإحساس الحقيقي بما هو شعري في السردين. على ضفة أخرى من التأمل قدّم الروائي هاني النقشبندي ورقته: الرحلة بوصفها جنسا أدبيا متنوعا، بحيث بدا كما لو أنه يريد أن يؤسس لرؤية خالصة تقوم على أن أدب الرحلات هو أدب رواية إذ يمارسه الكاتب يكون على علم مسبق بأن ما يكتبه ينتمي إلى هذا الباب من أبواب الرواية. على هذا النحو يعود النقشبندي إلى ابن بطوطة وحتى إلى ابن خلدون، فالمسعودي مؤلف مروج الذهب، والمقدسي صاحب كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم والإدريسي الأندلسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. وهناك ايضا البيروني وكتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. والذي درس الهند ولغتها السنسكريتية، وسواهم وصولا إلى العصر الحديث كي يثبت أطروحته. لكنه إلى جوار هذا الأمر، ثمة جانب آخر لرؤيته، فهذا النوع من الأدب توقف في العالم العربي، بحسبه، ولم يظهر الشيء الكثير الذي يستحق ان يدرج تحت هذا المسمى. شرط ابن عربي الباحث المعروف ابراهيم محمود يقدم أطروحة أخرى حول ابن عربي، من جهة ضرورة الترحال بوصف ذلك حلا لإشكالية معرفية بل لشقاء معرفي يحاول من خلاله، كما من خلال الكتابة تجاوز شرط الإنسان الفيزيائي المحض الذي يعيش ثم يموت، هكذا ببساطة. يشدد الباحث هنا على الخاصية الروحية الكبرى لنصه المتصوف “الإسراء والمعراج”، فيصفه الباحث بأنه “المذهل بفراهة المتخيل فيه، والعمق الروحي الذي يرفع من شأن الكائن الإنسي الأرضي، خلاف الارتحال الذي نقوم به أفقياً، إنه الارتحال الاستثنائي الوحيد الذي يبصرّنا بما يحرّرنا من انتمائنا الأرضي: الترابي المتحول، وهبوطنا السفلي: في القبر”. يذهب الباحث إلى أن المكان المقدس الذي يحتفظ بعراقته لدى شعوب كثيرة، هو الذي يشكل حلقة وصل بين المرئي واللامرئي، وتنوع الأمكنة ليس أكثر من التأكيد على وحدة الأصل، كما لو أننا إزاء أسماء شتى بلغات شتى، والمعنى واحد هنا. فمكة هي الحج المرسوم بعلامة بارزة على خريطة العقيدة والمعبر الحدودي الأرضي اسلامياً، إلى اللاتناهي. وفي مكة، كان البدء بـ( الفتوحات المكية)، ليعيد تاريخاً ويرتحل إليه، مسكوناً بالأمل في حقيقته وطريقته. كما قال الباحث على نحو ما. أما اللافت في ورقة الدكتور ناصر سعيدوني: “الرحلات الاستكشافية: مقاربة فكرية و حضارية -الرحلات الأوروبية في الجزائر نموذجا “ فهو أن المقاربة تقوم على أساس “النبش” في الاجتماعي عبر دراسة الخلفية التاريخية للعلاقات الاجتماعية والنشاط الاقتصادي والواقع البشري في المنطقة المستهدفة بالرحلة، ما يجعل الرحلة ذاتها مصدرا أساسيا لدراسة حالة سكان الريف والمدينة وأوضاع الفئات والطوائف والقبائل والجماعات وطبيعة الصلات والروابط والمعاملات التي كانت تميز حياة الطبقة المتنفذة من حكام وعلماء ومشايخ وتجار وأعيان، فضلا عن أن هذه الرحلات فتصير مصدر معلومات قيمة عن واقع الحياة اليومية من نوعية ونمط الغذاء والملبس والمأكل ومواصفات العملة وشبكة المواصلات، وتنوع العادات والتقاليد والأعراف التي تفصح عن نفسها في أمور الثقافة ومسائل العقيدة وقضايا التاريخ والأدب. وبالتالي فهذا ما يجعل الرحلات الاستكشافية بمثابة حصيلة لذاكرة واعية للإنسان في تفاعله مع شروط بيئته ومتطلبات عصره وحاجات مجتمعه. الأمر الذي يفرض على الباحث أن يحدد كيفية التعامل معها والاستفادة منها، بوصفها الذاكرة التاريخية وباعتبارها منطلق أي مشروع حضاري واعد كفيل بالتخلص من التبعية الفكرية وقادر على تنمية شخصية الفرد وتحفيز طاقاته الإبداعية. أما الدكتور حسن حنفي، صديق عجمان بامتياز، فقدم بحثا علميا في أمر ديني محض وبمنهجية علمية راسخة ومثيرة حقا للإعجاب لما تتوفر عليه من جرأة معرفية ورصانة منهجية ووقوف على آراء الآخرين بحيث إنها حقا نابعة من روح عالم يعي موقعه من هذا العلم مثلما يعي دوره بوصفه مثقفا حتى وإنْ اختلف المرء معه في الرأي. جاء البحث بعنوان: الرحلات الرسولية في علم تاريخ الأديان، طرح فيه الكثير من الآراء التي ليست بجاهزة إنما تخض لإعادة الفحص والتمحيص وبالتالي الخروج بنتائج مخالفة أو متقاربة قائمة على منهجيات علمية أخرى بسبب ما تضمنه البحث من روح علمية. وينطلق الدكتور حسن حنفي من أن علم “تاريخ الأديان” أو “التاريخ المقارن للأديان” هو علم تاريخي خالص. يحاول تخليص التاريخ مما علق به من أساطير نسجها حوله كتاب السير والروايات الشفاهية الشعبية بعد أن تحول الرسل إلى أبطال شعبيين، أي مواضيع للأدب الشعبي. ما جعل التحدي الكبير فى علم تاريخ الأديان هو التمييز بين التاريخ والأسطورة، وقد أصبحت حياة الرسل، والرحلات جزء منها، مجالا للأفلام الروائية الطويلة سواء ظهر فيها الأنبياء خاصة موسى وعيسى أو حرِّم الظهور فيها مثل محمد في “الرسالة”، و”ظهور الإسلام “و”الشيماء” لأنه لا يجوز تصوير الأنبياء ولا الصحابة. أما ورقة الإعلامية دانية الخطيب عن تجربتها في برنامجي القافلة ومشاوير مع المخرج عبد الواحد أزناك فيمكن القول إنها حصيلة أجوبة على أسئلة من نوع: ما معنى السفر؟ ولماذا نسافر؟ وما هو الفرق بين المسافر و السائح؟ وهل للسفر قواعد؟ وكيف نجهز أنفسنا للسفر؟ وما هو السبيل للتمتع بالسفر؟ وماذا يبدِل فينا السفر؟ ولماذا خيبة الأمل أو الفشل في السفر أحياناً؟ وهل السفر ضرورة؟ أيضا لم يقتصر الملتقى على مجموعة من الأوراق البحثية، بل رافق ذلك عدد من الأخرى مثل الشهادات الخاصة فقدم الشاعر علي كنعان رؤية حول منجز المركز العربي للأدب الجغرافي – ارتياد الآفاق، وضمن هذه الشهادات قدم الباحث الإعلامي عبد الله عبد الرحمن شهادة عن تجربته وموقع “فنجان قهوة” ذائع الصيت من هذه التجربة فضلا عن سياقات أخرى، حيث جرى تكريمه كما جرى تكريم الروائي والشاعر الإماراتي محمد حسن أحمد لما قدمه في مجمل تجربته روائيا وشعريا وسينمائيا. أخيرا، أقيم على حواف الملتقى معرضان: العالم.. مجموعة رحلات، بالتعاون مع المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق وصور رحلة بن مجرن الإماراتية.