يعرف عصرنا ثورة تكنولوجية غير مسبوقة تطال نتائجها جميع بقاع المعمور. منذ عصر الأنوار وربما قبله بكثير، نظر دوماً إلى التقنية على أنها ستكون خلاص البشرية الأكيد. هذا الأمر واضح عند بايكون وليبنتز وأوجست كومت وغيرهم. ولكن مع ذلك كان هناك تأكيد واضح على ضرورة التمييز بين العلم والتقنية. إن مصطلح التقنوعلمية techno-science La حديث العهد جداً، وهو يدل على ارتباط العلم بالغايات التطبيقية تحديداً، الأمر الذي لم يكن موجوداً في الأزمنة السابقة، حيث كان العلم موجهاً بالأحرى نحو فهم قوانين الطبيعة. اليوم تحيط بنا الأجهزة والعدد التقنية من كل جانب، لكننا مع ذلك ننظر إليها بحذر، وننشغل بالإشكالات الأخلاقية والاجتماعية والبيئية التي تطرحها. لقد ابتعدنا كثيراً عن تلك الأدوات التي كانت تحت سيطرتنا وتدار بطاقة طبيعية: المحراث، مغزل الصوف، وطواحين الهواء... نتعامل اليوم مع آلة تمتلك كامل استقلاليتها عن الإنسان كما هو الحال في مجال الروبوتات. أضحت الأجهزة هي التي تقرر بدلاً منا، وإذا كانت الأدوات قديماً محايدة، إن لم نقل طبيعية، فهي اليوم عنيفة ومهدمة تجتاح حياتنا بقوة، وتحول بطريقة عميقة علاقتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه. كيف يمكننا إذن التفكير في مصير الإنسان في ظل الاجتياح الكبير الذي يعرفه التقدم التقني؟

أسطورة الأخوين
تحكي الأسطورة اليونانية الشهيرة عن قصة أخوين هما برومتيوس Prométhée وإبيميتيوس Epiméthée هذا الأخير عهدت له الآلهة بتكوين كائنات حية غير أن إبيمتيوس أراد أن يقوم بالعمل لوحده، فطلب من أخيه بروميتيوس المغادرة فذهب هذا الأخير، لكن حين عودته وجد أخاه حائراً لأنه وزع كافة الأسلحة على الحيوانات (المخالب ـ الأنياب ـ السم...) ونسي الإنسان، ولكي يساعده قام برومتيوس بالذهاب إلى الآلهة وسرقة فن التقنية أي فن صناعة أشياء نافعة مثل الأسلحة، وفن التحكم في النار وهي فنون تمكن الإنسان من أن يصبح جباراً، أقوى من كل الكائنات، بل تمكنه من امتلاك شيء لا تمتلكه إلا الآلهة. ولكي يتمكن الإنسان من السيطرة على هذه الفنون الخطيرة سعى برومتيوس لسرقة فن السياسة من الإله تزوس وهو الإله الأقوى من بين جميع الآلهة، ولكنه لم يتمكن من إنجاز هذه المهمة الأخيرة، فكانت النتيجة هي أنه حمل إلى الأرض شيئاً خطيراً يسمح له بالهيمنة والسيطرة، ولكنه لا يسمح له بالعيش المشترك في سلام.
تدل إذن هذه الأسطورة على رغبة الإنسان في امتلاك شيء خارق للعادة، وفي تجاوز قانون الطبيعة والعمل على إرغامها كما سيقول هيدغر لاحقاً على التصرف حسب مخططات سابقة.
إن مثل هكذا تحكم هو ما نعيش نتائجه الكارثية اليوم، مثلاً مع الهندسة الجينية والتحكم في المناخ والتلاعب بجينومات الكائنات الحية عن طريق تهجينها مع بعضها البعض وغيرها كثير. لذلك فالسؤال حول ضرورة إيجاد طريقة للتحكم في التقنية أصبح يطرح نفسه بإلحاح أكثر مما مضى، وهذا السؤال هو ما يعبر عنه بإيثيقا التقنية L’éthique de la technique بمعنى أنه من الضروري حفاظاً على مصير الإنسان، التفكير فيما بعد بروموثيوس والنجاح فيما فشل هو فيه. أي فيما بعد هذا الإنسان الذي ينظر إلى التقنية كما لو أنها خلاصه الأوحد، وهذا لا يعني بتاتاً رفض التقنية بل أنسنتها وتوفير فن السياسة الذي يمكننا من التحكم فيها بدل أن تتحكم هي فينا. ولكن كيف يمكن أنسنة التقنية وجعلها مندمجة مع البيئة ومعززة للحياة الطبيعية؟

مفهومان للتحكم
الكل يعرف أن المشروع العلمي قد بدأ انتصاراته الأولى خلال عصر النهضة، عندما انفصلت العلوم عن التجريدات الميتافيزيقية، محققة انتصارات باهرة حتى أن الفلسفة ذاتها أصبحت منبهرة بها. بل أكثر من ذلك حاول عديد من الفلاسفة إعادة النظر في المشروع الفلسفي وفي جدوى المعمار الميتافيزيقي. هذا واضح مثلاً في فلسفة كانط التي كانت أول محاولة للاستغناء عن الميتافيزيقا ووضع الفلسفة في «الطريق الآمن للعلم» كما يقول في مقدمة نقد العقل المحض. بل إن هذا الموقف حاضر أيضاً حتى في قلب الفلسفة الديكارتية. ألم يميز ديكارت بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية ورأى أن هذه الأخيرة هي وحدها التي ستمكننا من الاطلاع على الخواص الحقيقية للأشياء، وبالتالي سيصبح الإنسان كما يقول في عبارته الشهيرة: «كسيد ومالك للطبيعة». إنه بسبب هذا الموقف بالذات نظر دوماً إلى ديكارت كما لو أنه الرجل الذي افتتح النظرة العدائية اتجاه الطبيعة التي ميزت المشروع العقلاني التقني الغربي، الذي لا يهدف لشيء سوى اكتساح الطبيعة واستغلالها واستباحة خيراتها على أوسع نطاق.
ما المقصود بالتحكم هنا؟ إن مفهوم التحكم الوارد في عبارة ديكارت الشهيرة، يدل على قدرة الإنسان بالسيطرة على الطبيعة من أجل تسخيرها لصالحه والاستفادة من خيراتها ومواجهة أخطارها وشرورها. لا أحد ينكر أن هذا التحكم محمود في حد ذاته فبفضله تمكن الإنسان من درء شرور الطبيعة مثل التحكم في الأمراض والفيروسات على غرار ما قام به لويس باستور حينما اكتشف دواء سعار الكلب.
إن التحكم الديكارتي يحيل إذن على تلك المهارة والخبرة التي تسمح للمرء بتدبير وتسيير مجال معين بحنكة. حتى أنه يشير في نفس الموضع الذي تناول فيه فكرة السيادة والهيمنة على الطبيعة، إلى أن غاية العلم هي ضمان الصحة وحفظ سعادة الإنسان. يقول ديكارت بصريح العبارة محدداً الهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه التقنية: «ليس الغرض من ذلك اختراع عدد لا نهاية له من الصنائع التي تجعل المرء يتمتع من دون أي جهد بثمرات الأرض، وبجميع ما فيها من أسباب الراحة. وإنما الغرض الرئيسي منه أيضاً حفظ الصحة التي هي بلا ريب الخير الأول وأساس جميع الخيرات الأخرى في هذه الحياة». إن هذا معناه أن ديكارت وإلى حدود هذا الوقت، كان لا يزال يؤمن على أن الغايات القصوى للعلم لا بد أن تكون نبيلة ومرتبطة بالأهداف الإنسانية. وسواء كانت فلسفة ديكارت واقعة بدورها ـ كما يرى أغلب الباحثين ـ تحت إغراءات إيديولوجيا التقدم المهيمنة على الفلسفة الأنوارية، أو أن فلسفته قادت عرضاً إلى ذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: منذ متى أصبح التحكم إذن شيئاً سلبياً ومضاداً للغايات النبيلة للعلم؟

هيدغر والتقنية
الجواب عن هذا السؤال نجده في فلسفة هيدغر. لقد استنكر هذا الفيلسوف الانحرافات اللاإنسانية للتقنية، ووصف ذلك من خلال مفهوم الاستفسار أو التحقيق l’arraisonnement وهو واحد من المفاهيم الأساسية في الشبكة المفاهيمية الهيدغرية. ويعني إجبار الطبيعة على الإفصاح عن كل ما لديها، وإرغامها على البوح بكل أسرارها. فالإنسان حالياً لا ينظر إلى الطبيعة كعمق مقدس ـ الطبيعة تطفح بالآلهة قال طاليس ـ بل فقط كمجال لاستخراج المعادن وتسخير خيراتها لصالحنا، أي بتعبير ديكارت السابق إيجاد «عدد لا نهاية له من الصنائع».
قد يتقاطع الفكر الهيدغيري مع الفلسفة البيئية حالياً، غير أن ما كان يهم هيدغر بالأساس ليس الحوت الأزرق المهدد بالانقراض، ولا الاحتباس الحراري الذي لم يظهر في عصره بصورة واضحة بعد، ولا اختفاء غابات الأمازون مع العلم أنه لو عاش إلى حدود الثمانينات أو التسعينات فمن المرجح بقوة أن تعانق أفكاره هذه القضايا. إن ما كان يهم هيدغر بالأساس هو فهم ماهية التقنية ومن خلالها طبيعة علاقتها بالعالم، هذه العلاقة التي تحول ماهية الإنسان ذاته. بمعنى أن التقنية لا تحول فقط الطبيعة الخارجية، بل هي تحول الطبيعة الداخلية للإنسان. إننا نعاين اليوم هذا الأمر عن قرب، فالآلة أصبحت أكثر مما مضى ذكية تتقدم إلى الأمام، بينما الإنسان تتراجع قدراته وكفاءاته وينسحب إلى الوراء. بلغة هيدغر أصبح الإنسان هو المحاصر والمعتقل، والذي عليه أن يفصح عن مكنونات ذاته لصالح الآلة. لم تعد الآلة هي التي تتبع الإنسان بل بالعكس تماماً، الإنسان هو الذي يتبع الآلة، وقد نقول في القريب العاجل مع الوعود التي تقدمها هذه العلوم الطلائعية NBCI أنه على الإنسان أن يتخلى تماماً عن ماهيته لصالح الآلة. ولكن إذا كان هذا هو الحال فهل يمكن البت في مصير الإنسان بعيداً عن التقنية؟
ينبغي الاتفاق على أمر أساسي وهو أن البشرية لا يمكنها أن تستمر في الوجود من دون التقنية. إن هذا الأمر واضح حتى في أعمال هيدغر الذي يستشهد ببيت شعري لهولدرلين يقول فيه: هنا حيث يجثم الخطر هنا حيث تلوح سبل النجاة، ومعنى هذا أنه علينا اليوم أن نحول التقنية ذاتها إلى وسيلة للخلاص، بدل أن نرمي بها جانباً. إن المشكلة تتعلق هنا بثلاثة أمور:
أولاً: أنسنة التقنية أي جعلها مرتبطة بالغايات الإنسانية. فالقوة المتولدة عنها جعلت الإنسان غير قادر على التحكم فيها، بل وتسخيرها أحياناً لتدمير أخيه الإنسان. ثانياً: إيجاد تقنية نظيفة، لأن التكلفة البيئية عالية جداً وهي تحتم علينا اليوم التفكير في معالجة هذه الآثار الجانبية.
ثالثاً: تحسين التقنية للوضع البشري وليس تجاوزه كما يدعو إلى ذلك اتجاه ما بعد الإنسانية، مما يفرض ضرورة التفكير في الحدود التي ينبغي أن يتوقف عنها المشروع الثقنوـ علمي.
العديد من التجارب خرجت عن السيطرة وأدت إلى نتائج وخيمة، منها على سبيل المثال لا الحصر النحل القاتل الذي تم تهجينه من المزاوجة بين النحل الأفريقي والأوروبي بغرض الرفع من إنتاجية العسل، فكانت النتيجة ظهور هذا النوع من النحل العدواني ليس فقط اتجاه باقي أنواع النحل الطبيعي بل اتجاه الإنسان كذلك. كما أن عدداً من الحيوانات المهجنة أظهرت انخفاضاً كبيراً في الخصوبة مقارنة بالكائنات الطبيعية. هذا ما حدث مع حيوان الديزو Dzo المهجن من ثور الياك والبقر. أو كذلك حيوان الزيبرود Zebroid المهجن من أنثى الخيل والحمار الوحشي.
أكيد أن الإنسان اليوم يهيمن على الطبيعة بوساطة التقنية التي لا يستطيع هو ذاته التحكم فيها. غير أن مصير الإنسان يرتبط ضرورة بإيجاد حلول آنية لهذه المشاكل، ما عدا ذلك فإننا سنظل نعاين بحسرة كيف تحولت وعود التقنية بالتقدم والرخاء إلى كارثة حقيقية. وإذا كانت الآلهة قد عاقبت بروموثيوس بأن صلبته وجعلت العقبان تنهش لحمه، فإن مصيرنا لن يكون أفضل من ذلك، إلا أن الطبيعة والانهيار البيئي هما اللتان سيتكفلان باضمحلال الإنسان.