قارة أوروبا -كأي قارة أخرى- لها طقوسها الخاصة· ففي الربيع، تعود طيور اللقلق إلى الأراضي المنخفضــــة فيهــــا (هولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج) قادمةً من هجرتها الشتوية إلى القارة الأفريقية وفي الخريف، يعــود الفرنسيون إلى باريس قادمين من شواطئ الجنوب· أما في الشتاء، فيهدد الروس بقطع إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيـــا· صحيح أن الروس لا يفعلون ذلك كل شتاء، ولكنهم فعلوه على الأقل في شتاء 2005-،2006 وفي شتاء 2006-،2007 كما فعلوه في شتاء هذا العام أيضاً، عندما أغلقوا الصنابير في اليوم الأول من العام الجديد، لدرجة كان من المستحيل معها أن يتجنب المرء ذلك الشعور غير المريح الذي يشعر به عندما يمر به موقف يحس أنه قد مر عليه من قبل· ومفاوضات الغاز هذا العام كانت معقدة بدرجة لا يمكن معها تفسيرها تماماً مثلما كان الحال في الأعوام الماضية، حيث اتسعت دائرة المشاركين فيها لتشمل ليس فقط شركة''غازبروم'' عملاق صناعة الغاز الروسي، وإنما أيضاً عددا من الوسطاء الغامضين، والصفقات المشبوهة، والآليات الملتبسة لحساب الأسعار· وفي هذا العام - كما في الأعوام الماضية- يزعم الروس أن النزاع ذو طبيعة تجارية بحتة، وأنه ليس سياسياً، وأن أوكرانيا تسرق غاز أوروبا، ولا تدفع سعراً عادلاً للغاز· ولكـــن الشيء الذي جدَّ هذا العام، هو أن تلك المزاعم قـــد اتخذت شكـــلاً استثنائياً لحد كبير· فمن ناحية، لم يكن الشخص الذي أصدر الأمر بإغلاق صنابير الغاز هو المدير العام لـشركة''غاز بروم''، كما كان يحدث في السنوات السابقة، وإنما كان رئيس الوزراء الروسي نفسه، أي فلاديمير بوتين· ما هو أكثر أهمية، أن الأوكرانيين الذين كانوا ينخرطون عادة في العديد من الألاعيب، وممارسات الغش المتعلقة بالغاز في الماضي، قد وافقوا بسهولة هذا العام على السماح للأوروبيين والروس بمراقبة خطوط أنابيب نقل الغاز التي تمر في أراضيهم· ليس هذا فحسب، بل قاموا أيضاً بتسديد ديونهم الضخمة للغاية المستحقة لـ''غاز بروم'' وطالبوا- أخيراً - بنظام أكثر شفافية لتحديد الأسعار شبيه بتلك النظم المستخدمة في أوروبا الغربية· وفي نهاية الأسبوع الماضي، تفاوضوا على صفقــة مــــع الروس بوساطـــة -جاءت متأخرة- شارك فيها مفاوضون تابعون للاتحاد الأوروبي· والذي حدث بعد ذلك هو أن الروس ظلوا عامين كاملين يرفضون التوقيع على تلك الصفقة قبل أن يوافقوا -من حيث المبدأ - على فتح الصنابير مجدداً في وقت متأخر من ليلة (12 يناير)· ولكن ما سبب التأخير؟ وما الذي يدعو لإغلاق الصنابير كل هذه المدة في المقام الأول؟ لا تنسوا أنها (روسيا- بوتين) التي تزدهر فيها وحولها النظريات؟ من تلك النظريات مثلاً، أن الروس ربما كانوا يعتقدون أن أوكرانيا، التي تعاني من آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، لن تستطيع دفع الديون الضخمة المستحقة عليها لشركة ''غاز بروم''· ومنهـــا أيضـــا أن الروس قــد فعلوا ذلـــك لأنهـــم كانـــوا يأملـــون في تشويه صورة القيادة الأوكرانية أمام الاتحاد الأوروبي· أو أنهم كانوا يرغبون في رؤية المصابيح وقد بدأت في الإنطفاء في براتيسلافا(سلوفاكيا)، أو برينديسي( إيطاليا) لكي يتأكدوا أنهم قد بثوا الخوف بالفعل في قلوب الجميع، أو ربما لأن بوتين - كما يعتقد البعض -كان يحاول صرف أنظار الروس عن أزماتهم المالية والاقتصادية الوشيكة· ربما يكون الأمر كذلك بالفعل، ولكن الرواية الأهم كثيرا في نظري هي تلك المتعلقة بأوروبا والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص· فأوروبا -كما قال لي صديق مجري الأسبوع الماضي- ''تشغل بالها بالأشياء غير المهمة وتتجاهل الأشياء المهمة''· فهي تشغل نفسها مثلا بلوائح صناعة السجق في دول الاتحاد الأوروبي، والحوارات الثقافية بين دول الاتحاد، وبالتوسط من أجل تحقيق السلام في غزة، ولكنها لا تهتم مثلاً بأزمة الغاز التي تواجهها كل عام تقريباً· فعلى رغم أن معظم دول أوروبا تقريباً تحصل على جزء كبير من احتياجاتها من روسيا، فإنه لا توجد هناك حتى الآن سياسة طاقة حقيقية وموحدة للاتحاد الأوروبي، كما لا توجد سياسة حقيقية وموحدة لدى الاتحاد بشأن كيفية التعامل مع روسيا كذلك· بدلاً من ذلك، نرى أن شركة مثل ''غاز بروم'' التي توقفت عن التظاهر بأنها لا تمثل أداة صريحة للسياسة الروسية الخارجية، لا تزال تعقد صفقات الغاز مــــع كـــل دولة أوروبية على حدة وتصطاد تلك الدول الواحدة تلو الأخرى· أمــــا بوتين فهــــو لا يزال يطبق تكتيكات'' فرق تسد'' في التعامل مع أوروبا، من خلال إجراء ترتيبات خاصة مع إيطاليا، وشراء السياسيين في ألمانيا، وقطع الغاز عن أوكرانيا· ونظرا لأن زبائن الغاز الروسي الأوروبيين يعرفون أن الروس لايُعتمد عليهم، فإنهم اتجهوا لتخزين احتياطاتهم من الغاز، كما اتجهوا إلى مصادر أخرى للحصول على الغاز، (النرويج مثلا التي تضخ الغاز الآن بصورة جنونية) وحرصوا على الاحتفاظ بوحدة صفهم على أمل أن يعود الروس والأوكرانيون مرة أخرى إلى رشدهم في الوقت المناسب· ولكن بدلاً من استخدام أفضل وأذكى ما لديهم من طاقات وعقول من أجل خلق منظومة غاز آمنة، فإن معظم الدول الأوروبية اكتفت باتباع إجراءات وقتية، وتصرفت، وكأنها تعتمد في حياتها على ''غاز بروم'' مع أن روسيا تحتاج إلى الأموال الأوروبية بنفس القدر الذي تحتاج به الدول الأوروبية إلى الغاز· وبدلاً من إرسال مفاوضيهم لحل أزمة الغاز في أول يوم من يناير من كل عام، فإن الخيار الأفضل بالنسبـــة للقادة الأوروبيين هو التركيز على هذه المشكلة والعمل على إيجاد حل لهــا· كنت أحب أن أصف ما حدث الأسبوع الماضي بأنـــه كان'' نداء إيقاظ''، ولكنني تذكرت أنه كان هناك العديد من أمثال هذه النداءات في الماضي ولكنها لم تؤد إلى شيء، أو تغيير شيء··والسؤال الآن هو: متى تبدأ أوروبا في الاهتمام بتلك النداءات وإعارتها أذنا صاغيـــة؟ أن أبلباوم محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست