نشأ على صناعة النحاس وتفتحت عيناه على لمعانه وأمتع مسمعه بموسيقى قرقعاته ومعه استرجع ماضي أجداده ومن خلاله تنبأ بمستقبل أبنائه. صادق صفائحه التي أطاعته بصمت معها تكلم وبها أبدع. تصل إلى مسامعك أصوات تلك الطرقات وأنت تسير في أزقة طرابلس الأثرية تراها تلمع من بعيد تتلألأ فرحاً باستقبال ضيفها الجديد تناديك قرقعاتها فلا تملك إلا أن تجيب. إنها طرقات الحرفي مصطفى الطرطوسي الذي لا يفارق الإزميل والصفيح يداه إلا عند المبيت. يروي الطرطوسي قصته مع النحاس وكأنه يسترجع ذكريات قديمة عزيزة على نفسه يبحث عنها تارة بين العقل وأخرى بين الفؤاد؛ فيقول:”كنت لاأزال يافعاً في الرابعة عشرة من عمري عندما كان يصطحبني والدي لأتعلم هذه المهنة في سوق النحاسين وكم أحببتها منذ الصغر ولطالما تمنيت أن أتمكن من إتقانها كونها تتمتع برونق جمالي آخاذ كما أن الصنعة ثروة في اليد فمن يملك صنعة كمن يملك قلعة تقيه من غدر الزمان”. ويعود الطرطوسي في رحلة تاريخية إلى سوق النحاسين، قائلاً : “أنشئ هذا السوق في عهد المماليك قبل 700 عام ويعد سوق النحاسين في طرابلس معلماً أثرياً وإرثاً وطنياً، وكم كان جميلاً في الماضي عندما كانت هذه الحرفة مزدهرة حيث كانت تتعلق بضرورات الحياة اليومية من أوانٍ وأدوات منزلية ولكنها الآن بدأت بالاندثار بعد تطور الصناعات المعدنية وإنشاء شركات استعاضة عن هذه النحاسيات بتصنيع الأواني من الألمنيوم والستانلستيل حتى لم يعد للنحاس طلب سوى في معامل الحلوى أو للتذكارات”. آلية العمل يشرح الطرطوسي حرفته، فيقول:”المواد الأولية المستخدمة في هذه الصنعة هي صفائح النحاس الأصفر والأحمر بسمك يتراوح ما بين 7 - 8 دوزيم إلى واحد ونصف مم ويتفرع عنها الحفر والنقش والتجويف ثم الكبس والتخريق ومن الأدوات المستعملة الأقلام والإزميل والمطرقة والمقص”، مشيراً إلى أن أساس الحرفة هو الحفر أو النقش باستخدام المطرقة والتجويف بحفر الأخاديد على جدران الصفيح ثم الضغط على الصفيح ليأخذ الشكل المقرر له ولتعطي مظهراً بارزاً للرسم والتفريغ بأن تفرغ التزيينات على سطح الأواني باستخدام المثقاب. ويضيف أن لكل قطعة مصنعة وقتاً وجهداً يختلف عن الأخرى وذلك على حسب حجم القطعة والزخارف والنقوش المرسومة على سطحها كما أن المطارق المستخدمة تختلف من نقش إلى آخر فكل مطرقة لها ضربة وخط معين. ويشير الطرطوسي إلى أن هذه الحرفة كغيرها من الحرف اليدوية تحتاج إلى التحلي بالصبر ودقة الملاحظة إلا أن أهم ما يميزها هو إتقان الزخرفة والنقش لذا لا بد للحرفي في النحاس أن يجيد الخط والرسم. ويتفرع من هذه الصنعة صناعة الدلال ومصبات القهوة وهي كما يؤكد حرفة متوارثة ولكنها تقتصر فقط على الدلال النحاسية للقهوة وما شابهها وهي على أنواع منها الدلال الصغيرة ومصبات القهوة العربية المرة ذات الموقد الداخلي وبعض قطع التزيين.