إبراهيم الملا (الشارقة)

خمس شخصيات متأزمة، تعيش وسط دوامة وجودية هائلة ترقى لأن تكون حالة جماعية مؤسسة على «الوسواس القهري» كخزين معتم من الاستلاب والاغتراب، بحيث يتوزع هذا الخزين على تصرفات تشذ عن السياق الاجتماعي العام، وتحاط بدائرة كبيرة من الريبة، وسوء الفهم، والأحكام المتسرعة في تفسيرها لدوافع ومنطلقات هذه التصرفات، وبالتالي تقييمها من وجهة نظر أحادية تميل إلى الإدانة والتجريم ثم اللجوء للعقاب المعنوي والمادي.
هكذا يقترب عرض «الساعة الرابعة» للمؤلف طلال محمود، والمخرج إبراهيم وسالم، لفرقة المسرح الحديث بالشارقة، من العاهات النفسية باعتبارها منطقة خصبة لاكتشاف تجليّات الجنون، وجماليات الحمق والعته، وكيف أن الخروج عن النسق السويّ يمكن أن يفتح نوافذ جديدة للبحث في إمكانات الذات الإنسانية، واستثمار طاقاتها الدفينة ومواهبها الخفية.
جاء العرض في اليوم الخامس من مهرجان أيام الشارقة المسرحية في دورته التاسعة والعشرين، وسط جمهور كبير صفق طويلاً للعرض وتفاعل بقوة مع تفاصيله السردية ومفارقاته المشهدية، التي طغت عليها كوميديا الموقف، والسخرية التلقائية غير المتكلّفة، ومن دون التخلي أيضاً عن إشراقات فلسفية تضمنّها العرض، وانتصر لها، كي يقول لنا إن الكوميديا الراقية، يمكن أن تمرر الرسائل النقدية للعرض بشفافية وبأسلوب سهل وممتنع وجاذب للشريحة الأوسع من الجمهور العاشق للمسرح.
يبدأ العرض بصوت دقات الساعة البارزة في الجانب العلوي من عمق الخشبة والتي تقترب عقاربها من الساعة الرابعة، قبل أن تخرج علينا الشخصيات الرئيسية المجتمعة معاً في عيادة الطبيب النفسي، حيث تبدأ كل شخصية على حدة في شرح معاناتها الداخلية وأزمتها الطاحنة التي تسبب لها الكثير من الالتباس والنفور والاستهزاء، في الوظيفة، ووسط العائلة، وأمام الناس الأسوياء في الخارج، ونتعرف على أولى هذه الشخصيات وهو المحامي – يقوم بدوره الفنان فيصل علي - الذي لا يستطيع التحكم بـألفاظه الجارحة والمهينة للآخرين، والتي ينطق بها دون قصد، ما يجعله أسيراً لعزلة جبرية تحرمه من التواصل مع المحيطين به، بينما نرى الرجل الملتزم دينياً – يقوم بدوره الفنان محمد جمعة – وهو يعاني وهم الخوف على ممتلكاته ويتحسس جيبه دائماً كي يطمئن على وجود مفتاح شقته معه حتى لا يداهمها اللصوص المتخيلون في ذهنه، من جانب آخر نرى المرأة الأربعينية «لارا» – تقوم بدوها الفنانة آلاء شاكر – وهي تعاني من وسواس النظافة والخوف المبالغ به من آثار البكتيريا والفيروسات، ما يقحمها في حالة حذر وانتباه دائمين، خصوصاً عند ملامسة أو مصافحة الآخرين، والشخصية الرابعة التي تؤدي دورها الفنانة الشابة بسملة علاء الدين تعاني من تكرار العبارات التي تتلفظ بها أمام الآخرين في شكل نادر من أشكال الوسواس القهري، ونرى الشخصية الخامسة التي يؤديها الفنان الشاب عبدالله محمد وهي تنحو وبشكل غريب لتجنب الخطوط المتداخلة في ممرات المشاة، ما يضطره للقفز فوقها والتسبب في الكثير من المواقف المحرجة له عند خروجه من المنزل.
تجتمع هذه الشخصيات في مكان واحد وتشرف عليهم الممرضة – الفنانة نور الصباح – وتؤكد لهم أن اجتماعهم في وقت مشترك سببه خلل في جهاز حجز المواعيد، وأن الطبيب سيتأخر بسبب مشاكل صادفته أثناء قدومه إلى العيادة.
يستثمر المخرج إبراهيم سالم هذه الحبكة الضارية في تشابكها، ليوظف خبرته المسرحية الطويلة في تكوين بنية عرض ناضجة ومتماسكة وواعية لأدواتها، خصوصاً من جهة التنويع الأدائي بين الارتجال والتلقائية والعفوية، وبين التوجيه الناجح الذي اقترب من المثالية فيما يتعلق بحركة الممثلين واكتشاف قدراتهم بعين راصدة وعميقة، وإسقاط معاناة الشخصيات على الواقع الحياتي المعاش خارج المجال الافتراضي للعرض المسرحي، وذلك من خلال الأقنعة التي يرتديها الممثلون في بداية العرض وفي نهايته، ليقول لنا وبصوت صارخ إن العاهات النفسية التي ترونها أمامكم، هي عاهات قد تصيب وعي المجتمع أيضاً، عندما يكون هذا المجتمع مسكوناً بمخاوف مختبئة وراء طبقة سميكة من الروتين والعادة والتجاهل، وإن الجنون عندما يكون جماعياً فهو يكتسب صفة شرعية حتى وإن كانت مزيّفة، ليتحول عندها العقل إلى معضلة أو عقبة يجب التخلص منها، وهو الأمر الذي يؤكده مؤلف العرض «طلال محمود» في مدونة المسرحية، عندما يقول: «غريب هذا الإنسان، فهو كائن عاقل وواضح، ولكنه يحوّل نفسه إلى شخصية معقدة ومركّبة، يعيش حياته باحثاً عن التشويق والإثارة، وهو صانع ماهر لمعاناته وتشتته، كي يبدأ البحث مجدداً عن الخلاص، فكل الأمور واضحة أمامه، لكنه في النهاية يهوى علّته التي صنعها»، وهذه المازوشية التي يتحدث عنها المؤلف، بدت جليّة في ختام العرض عندما نكتشف أن المحامي المريض، هو نفسه طبيب العيادة، والذي لجأ لهذه الحيلة المبتكرة كي يضع مرضاه أمام مراياهم العارية، وداخل غرفة اعترافات مشتركة، كي يبوح كل منهم بنواقصه وفراغاته التي يمكن أن يملأها ويسدّها مريض آخر بما يمتلكه من مزايا غير مكتشفة، وبالتالي فإن هذا النوع من العلاج الجماعي هو اختبار أيضاً لكوامن العلّة الحقيقية، ومحاولة الوصول لجذر العقدة النفسية من أجل اجتيازها وخلق الصدمة المطلوبة لدحرها والقضاء عليها.
نجح عرض «الساعة الرابعة» وبامتياز في تسليط الضوء على قيم إنسانية كبرى مثل التسامح والتعايش بين الأديان وصنع روابط معرفية للحوار بين الذهنيات والعقليات والمرجعيات المختلفة ( لارا المسيحية، في مواجهة جليل المسلم الملتزم)، حيث إن غياب هذه القيم النبيلة قد يتسبب في نشوء تصدعات وشروخ وأزمات اجتماعية مؤلمة. استطاع العرض أيضاً خلق حالة تناغم كبيرة بين مكوناته الأدائية والبصرية، وكانت الإضاءة التي اعتمدها الفنان «محمد جمال» موفقة في قراءة أبعاد كل شخصية على حدة، والانتقال من العتمة إلى السطوع بسلاسة ومتدرج ومعبّر عن رغبة المخرج في توزيع الكتل الأدائية في الحيّز المكاني والزماني المناسب لها.