كوريا الشمالية ومعضلة الانتشار النووي
يبدو أن أطوار المواجهة الأخيرة على شبه الجزيرة الكورية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة تُلهبها رياح الحرب التي تهب من الشمال وتحمل في طياتها بذور العنف إن لم يكن احتمال نشوب حرب كورية ثانية، فالواضح أن كوريا الشمالية-أو بالأحرى كيم يونج إيل والنخبة الحاكمة-تتميز غيظاً بسبب إدانة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل ومجمل المجتمع الدولي لتجربتها النووية الأخيرة وإطلاقها للصواريخ. والسؤال اليوم هو ما الذي تستطيع الولايات المتحدة وباقي الدول المعنية القيام به عدا الحديث عن «التداعيات» التي أشارت إليها وزيرة الخارجية الأميركية، والتحذيرات التي أطلقها البيت الأبيض. لكن الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأمور مع كوريا الشمالية، تفتح في المقابل مجموعة من الخيارات الخطيرة وغير المأمونة، بل ربما تقود إلى كارثة من بينها مبادرة «أمن الانتشار النووي» التي نوقشت كثيراً خلال الآونة الأخيرة، بحيث يمنح بموجبها للدول المشاركة صلاحيات لاعتراض السفن، أو على الأقل مراقبة شحنات الصواريخ البيولوجية والكيماوية والمواد النووية التي تنتقل عبر الدول المارقة، أو التنظميات الإرهابية، وفيما تضم المبادرة 16 بلداً أساسياً هناك أكثر من ثمانين دولة تكتفي بدور المراقب. وفي أعقاب التجربة النووية التي أجرتها كوريا الشمالية في الأسبوع الماضي انضمت كوريا الجنوبية إلى المبادرة لترد جارتها الشمالية فوراً بالتهديد باتخاذ إجراءات عسكرية في حال اعتراض سفنها، أو أجبرت على الخضوع للتفتيش. وترجع مبادرة أمن الانتشار النووي إلى العام 2003 عندما اقترحها «جون بولتون وهو وكيل وزارة الخارجية لمراقبة الأسلحة تحت رئاسة بوش، وهي أيضاً فكرة عناصر أخرى ضمن فريق «المحافظين الجدد». أما حقيقة تبنيها من قبل الرئيس أوباما، فذلك دليل آخر على مفارقة التشابه بين الإدارة الحالية وسابقتها عندما يتعلق الأمر بأحجية كوريا الشمالية العصية عن الحل. وبالنسبة لكوريا الجنوبية يبدو أن المكسب الأساسي الذي يمكن أن تجنيه من الانضمام إلى المبادرة هو مزيد من التقارب مع حليفها الأميركي، هذا الحليف الذي ينتشر حالياً 28500 ألف من جنوده في كوريا الجنوبية بما فيها وحدات من القوات الجوية وبعض المشاة، في ظل اعتقاد القادة العسكريين الأميركيين أن القوات الكورية الجنوبية قادرة بما تتوفر عليه من أسلحة متطورة على رد أي عدوان تشنه جارتها الشمالية بإسناد من القوات الجوية الأميركية وبوارجها القريبة من السواحل الكورية. لكن رغم التهديدات التي أطلقتها بيونج يونج بعد انضمام سيؤول إلى المبادرة لا تحمل هذه الأخيرة في طياتها سوى قيمة رمزية فيما يتعلق بحماية شبه الجزيرة الكورية، إذ لحد الآن اكتفت الدول المشاركة بإجراء بعض التمارين العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات مع تأكيد سيؤول أنها لن تعترض سوى السفن التي تخترق مياهها الإقليمية. ولا يعني ذلك أن المبادرة عديمة الجدوى، بل يمكن في إطار التعاون بين الدول الذي تكفله أن تساهم حقاً في الحد من الانتشار النووي واعتراض الصواريخ التي تحمل الرؤوس النووية، ومنع وقوعها في أيدي «طالبان»، أو «القاعدة».
ومع ذلك لم يمنع وجود المبادرة من انتشار المواد النووية عبر شبكة «عبد القدير خان» إلى ليبيا وكوريا الشمالية، وهو ما يحتم على إدارة أوباما التكثيف من ضغوطها الدبلوماسية على غرار الإدارة السابقة، ويبدأ ذلك من خلال تشديد العقوبات على بيونج يانج، من خلال إقناع الصين وروسيا بوقف بيع السلاح وقطع الغيار للنظام، ويمكن لبكين أيضاً باعتبارها المزود الرئيسي لكوريا الشمالية بالغذاء والوقود والمخصبات الضغط على كيم يونج إيل للتخلي عن التجارب النووية ووقف إطلاق الصواريخ والتركيز بدلا من ذلك على إطعام شعبه الجائع وإنعاش اقتصاده بلاده المتهالك. ومع أن الصين تتحفظ كثيراً على فرض عقوبات صارمة على كوريا الشمالية إلا أن اختلال التجارة الخارجية مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لصالحها قد يدفعها في النهاية إلى مراجعة مواقفها. وإذا كان المسؤولون الأميركيون يتجنبون الربط بين التجارة والسياسة، فإن التلويح بهذا الربط، قد يصبح ورقة مهمة للضغط على الصين لتأمين تعاونها. والأكثر من ذلك تتوفر الصين وباقي دول العالم على حافز أهم للتعامل بحزم مع كوريا الشمالية يتمثل في مخاطر إطلاق سباق للتسلح النووي في منطقة جنوب شرق آسيا، لا سيما اليابان التي سئمت ألاعيب كوريا الشمالية، وترى نفسها الأكثر تضرراً من امتلاكها للسلاح النووي، إذ معروف أن العلماء والمهندسين اليابانيين يتوفرون على المعرفة التكنولوجية التي تؤهلهم بسهولة لتصنيع السلاح النووي. وفي أحسن الأحوال، يمكننا تصور انخراط صيني لمنع الانتشار النووي، لكن من جهة أخرى يمكنها أيضاً تبني موقف متطرف بأن تعتبر اليابان وتايوان عدوين يُحتمان عليها تعزيز قدراتها النووية وتقوية تحالفها مع كوريا الشمالية، ولو تحقق هذا السيناريو ستنكشف كوريا الجنوبية ومن غير المستعبد اندلاع حرب إقليمية. لكن بعيداً عن الاحتمالات المتشائمة التي قد تكون مجرد خيالات تبقى حقيقة واحدة مؤداها أن توعد كوريا الشمالية بالنتائج الوخيمة والتلويح بمبادرة أمن الانتشار النووي، لن يوقف مساعي بيونج يانج ويقنعها بتفكيك برنامجها النووي والرجوع إلى المباحثات السداسية، وأنه لا مناص في الأخير من اعتماد إدارة أوباما مثل سابقتها على ممارسة الضغوط الدبلوماسية علها تصل إلى تسوية في الموضوع الكوري.
دونالد كيرك
محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست»