بساتين صنعاء متنفسات مهددة بالزحف العمراني
تتميز صنعاء القديمة ببساتين وقفية كانت وما تزال بعضها لوحات خضراء تستقطب الزوار، غير أن الزحف العمراني يهدد هذه البساتين، مما يتطلب تضافر جهود القائمين عليها وبالإمكانات المتاحة لجذب عشرات الآلاف من السيّاح سنويا، فكل بلدان العالم تهتم بمدنها التاريخية، وبمكوناتها الخضراء؛ لأن هذه المدن جزء من حضارتها القديمة، وهي كذلك جزء من اقتصادياتها، والمدن العريقة تدرّ عوائد اقتصادية كبيرة لبلدانها، وبساتين مدينة صنعاء القديمة جوهرة تحتاج فقط إلى تنظيم وتنظيف كي يكون لها قيمة كبيرة.
ميزة حضارية
نشر مؤخرا عن «المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية - صنعاء» بالتعاون مع «جامعة برشلونة» كتاب صدرت نسخته العربية، يتضمن قراءة تحليلية مصورة لواقع حال بساتين وحدائق أو ما يعرف باسم «مقاشم» مدينة صنعاء القديمة، موضحا حال كل بستان على حدة. بعنوان «بساتين ومقاشم مدينة صنعاء القديمة» ذكرت فيه الميزة الحضارية التي تتمتع بها صنعاء القديمة عن غيرها من مدن العالم من خلال ما تحتويه من بساتين ومقاشم متعددة وواحات خضراء.
أنواع مختلفة
يستعرض الكتاب في صفحاته أنواع تلك الحدائق والمقاشم وكذلك المساجد وعدد القطع الصغيرة المزروعة وغير المزروعة فيها وأصناف المزروعات ومستوى خصوبة التربة والتناغم الزراعي لتلك الحدائق، وتفاصيل متعددة ذات أهمية بالغة. كما ضم الكتاب الذي جاء موثقا بصور فوتوغرافية قديمة وحديثة، ملحقا خاصا بالخرائط التاريخية لمدينة صنعاء والرسوم التوضيحية لمواقع البساتين فيها ومسح ميداني للبساتين والمقاشم والمساجد والآبار المائية في صنعاء القديمة، ما يجعل منه مرجعا هاما للباحثين والمهتمين بتراث صنعاء القديمة. وقد لجأ الصندوق الاجتماعي للتنمية إلى تشكيل فريق عمل مكلف من «منظمة اليونسكو» لتحريك المياه الراكدة ولفت الأنظار إلى ما تتعرض له مدينة سام بن نوح، من تشويه لمعالمها وتفريط في أصالتها، وكانت النتيجة أن أصدر ذلك الفريق الدولي تقريرا موسعا وموثقا باللغتين العربية والإنجليزية.
دعوة الإنقاذ
انطلق التقرير من قناعة علمية مفادها «تمثل الواحات الخضراء جزءا من التراث الصنعاني الأصيل الذي يستحق أن يحظى بنفس الاهتمام الذي يحظى به الفن المعماري اليمني العريق، بل إنه يعتبر أكثر حاجة للاهتمام؛ نظرا لما يتعرض له من خطر النضوب المتزايد للمياه في حوض صنعاء، لا سيما بعد أن أسهمت وزارة الأوقاف في تسريع ذلك الخطر على البساتين بتحويل (مياه الوضوء) في المساجد إلى المجاري العامة، بعد أن كانت تمثل الغذاء اليومي لتلك الواحات الجميلة. لم يكتف التقرير بمجرد الدعوة لإنقاذ بساتين صنعاء من التصحر، بل أكد على أن التركيب الاجتماعي لمدينة صنعاء قد أرسى رابطة قوية بين كل من البساتين والمساجد والحمامات، فإذا فقد أحد العناصر الثلاثة لذلك التركيب تكون النتيجة سلبية ولابد من إيجاد وسيلة للبحث عن حلول تساعد على بقاء تلك البساتين للحفاظ على التركيب الاجتماعي والحضري للعاصمة.
رئة صنعاء
فيما يخص أهمية البساتين بالنسبة لأهالي المدينة، فهم خير من يدلون برأيهم، يقول علي راصع - موظف: «رغم معرفتنا باهتمام السيّاح والزوار بهذه المدينة العريقة باعتبارها من الإرث الحضاري القديم، إلاّ أننا كأبناء بهذه المدينة لم نعطها حقها من الاهتمام والرعاية التي تستحقه، فالإهمال والممارسات الضارة تسيء إلى صنعاء القديمة وتؤثر سلبا على أهلها، من هذه الممارسات الضارة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، قيام القائمين على زراعة البساتين (المقاشم) التابعة والملحقة بالمساجد بإهمال البساتين وبيع مياه آبار المساجد لأصحاب «الوايتات»، خاصة بعد ارتفاع قيمة «وايت الماء» إلى 1500 ريال. ويضيف راصع: «تمثل هذه البساتين أهمية قصوى لصنعاء القديمة، فهي رئة صنعاء وسلّة غذاء أهالي الحي، وهي المتنفس لأبناء الحي، وإحدى جماليات صنعاء القديمة».
إهمال وتجاهل
ثمة خشية لدى بعض الأهالي عبر عنها القاضي إسماعيل مهدي، يقول: «لعل إهمال بعض بساتين أحياء صنعاء القديمة متعمّد ومقدمة لقيام أصحاب النفوس الضعيفة بالسطو على البساتين وتحويلها إلى مبانٍ سكنية، لا سيما في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي في أمانة العاصمة، وبهذا نكون قد ارتكبنا خطأ كبيرا بإهمالنا وتجاهلنا لهذه السلوكيات التي صارت متأصلة لدى البعض». ويؤكد مهدي على أهمية حث الجهات ذات العلاقة لمعالجة هذا الاختلال «يجب على الجهات المختصة وكذلك أبناء الوطن كافة إعادة النظر فيما يحدث للبساتين من إهمال؛ لأنها جزء من تاريخنا وحضارتنا وواجهتنا أمام العالم، وهي علاوة على ذلك جزء من اقتصادنا الذي لا يجب أن ينضب، فهذه البساتين متنفس للعاصمة القديمة وتحتاج إلى الاهتمام من الجهات ذات العلاقة، خاصة أمانة العاصمة، ووزارات الثقافة والسياحة والأوقاف».
في عيون العرب والغرب
تقول جوليا- سائحة أميركية، كانت تتجول في إحدى البساتين الصنعانية: «هذه المساحات الخضراء الجميلة مهمة جدا لأبناء المدينة، ومن الملاحظ أنها مهملة بعض الشيء، والمفترض أن يتم تنسيقها بصورة أفضل، وتتوفر لها المياه حتى تكون واحات منتجة، فنحن نستمتع بها وبامتدادها الأخضر». بينما يستحضر الكاتب عبدالكريم الخميسي، بيتا من الشعر للشاعر السوري الكبير سليمان العيسى في وصف صنعاء التي عاش بها طويلا: «تحبُّها وشوشوني! والتصقت بها.... صنعاء من سفر التاريخ غبراء» ثم يضيف: «تميزت صنعاء القديمة عن غيرها من العواصم التاريخية الأخرى بحدائقها وواحاتها ومسطحاتها الزراعية، ولشدة اهتمامي بهذا التراث الأخضر فقد خضت تجربة شخصية مع إحدى تلك البساتين التي كانت تبث شلالات البهجة على كل الأحياء المحيطة بها، وجربت حظي ودعوت الوزراء والقضاة لزيارة ذلك البستان ووعدوا بتسويره والحفاظ عليه وإعادة تأهيله، غير أن تلك الوعود ظلت وعودا بلا تنفيذ
المصدر: صنعاء